* الكاتب والمترجم والمؤرخ عبد العزيز بوباكير في حوار حول الراحل هنري علاق لم ينل حقه من التكريم وكان يشتكي من الجحود الذي يلاقيه من الجزائر ومن عدم الاعتراف حاورته/ نوّارة لحرش عن الراحل هنري علاق، وعن نضاله وكتابه الشهير "المساءلة"، الذي يفضح فيه ممارسات التعذيب في الجزائر، يتحدث الكاتب والباحث والمؤرخ عبد العزيز بوباكير لجريدة النصر في هذا الحوار بمناسبة رحيل صديق الجزائر الكبير. كما يتحدث عن نضاله الصحفي والسياسي، وعن مواقفه المناهضة للاستعمار والتي جلبت له المطاردة والسجن من طرف فرنسا الاستعمارية، أيضا يتحدث عن استقراره بالجزائر وعن إدارته لجريدة "الجزائر الجمهورية" وعن نضاله الآخر من خلالها ومن خلال مقالاته التي كانت تُنشر عبر صفحاتها، بوباكير يتحدث من جهة أخرى عن علاقة علاق بالنظام والسلطة في جزائر ما بعد الاستقلال، وقياسا لتاريخ هذا الرجل النضالي والثوري الزاخر بالمواقف الشجاعة والمشرفة والعادلة، يرى أن علاق لم ينل حقه وحظه من الاعتراف في الجزائر، وأنه على الجزائر اليوم أن تجعل من رحيله مناسبة لإنصافه وإنصاف كل الذين تضامنوا مع الثورة الجزائرية من الأوربيين والأجانب، وأيضا مناسبة لإعادة كتابة تاريخ الثورة وتاريخ الجزائر دون تعتيم ودون انغلاق على الذات، وفرصة لإعادة النظر في طريقة موقفنا من التاريخ نفسه ومن الآخر. بوباكير يتحدث عن كل هذا وعن أمور أخرى ذات صلة بتاريخ الرجل ومواقفه ونضالاته الثورية، السياسية والصحفية. ماذا تقول عن الراحل هنري علاق؟، كيف تقرأ تاريخ وأداء ونضال هذا الثوري والسياسي والصحفي؟ عبد العزيز بوباكير: هنري علاق، مناضل يساري فرنسي من أصول يهودية، وهو من أسرة روسية بولونية، بعد حصوله على شهادة البكالوريا انضم إلى جامعة السوربون وتخرج منها بشهادة ليسانس في الآداب. كان لقاءه بالجزائر مجرد صدفة، بعد رحلة أخذته إلى البحر الأبيض المتوسط. استقر في الجزائر سنة 1939، وقد عُرف علاق بمعاداته لنظام الجنرال "فيشي". انضم إلى الحزب الشيوعي الجزائري، وقد كانت له تجربة غنية في ميدان الصحافة من خلال نضالاته بجريدة "الجزائر الجمهورية"، ومن خلال إدارته لهذه الجريدة ومقالاته عن الفقر في الجزائر وإدانته للظاهرة الاستعمارية. بسبب مواقفه المناهضة للاستعمار تمت مطاردته، فاضطر إلى دخول السرية، لكن ألقي عليه القبض وسُجن في سجن بربروس، وهناك كَتَبَ كتابه "المساءلة". وأشير هنا إلى أن كتابه هذا كان متعدد العناوين في الوسط الإعلامي العربي والعالمي، ومن هذه العناوين المختلفة نجد: "المساءلة"، "السؤال"، "الاستجواب"، وعنوان آخر هو "الجلادون" في طبعة بيروت. في هذا الكتاب ندَّد علاق وبقوة بالتعذيب الذي مارسته القوات الفرنسية خلال حرب تحرير الجزائر ضد الجزائر والجزائريين، حيث فضح الكتاب هذه الممارسات المشينة والبشعة وفضح وجه فرنسا الحقيقي الاستعماري آنذاك. الكتاب صدر أولا عن دار مينوي Minuit بفرنسا، وهي دار اختصت في نشر الكُتب الممنوعة آنذاك في فرنسا. الكِتاب تُرجم إلى عدة لغات عالمية، والنسخة العربية صدرت عام 1958 عن دار الآداب في بيروت بعنوان "الجلادون". هل الجزائر المستقلة أنصفت الرجل الذي أنصفها وأنصف قضيتها، يعني هل أعطته حقه كما يجب؟ عبد العزيز بوباكير: أعتقد أنه كغيره من الشخصيات الأوروبية التي تضامنت مع الثورة الجزائرية وخدمتها بنبل وشجاعة، لم ينل حقه من التكريم، وهو ليس وحده في دائرة الإجحاف هذه، فالكثير من الشخصيات الأوروبية لم تنل حقها من التكريم والاعتراف، حتى جماعة حَملة الحقائب التابعة لشبكة جونسون لم ينالوا من التكريم والاحترام ما يليق بما قاموا به من تضامن فعليً مع الثورة الجزائرية، وصل إلى درجة النضال وحمل السلاح إلى جانب الجزائريين. شخصيا التقيت به عدة مرات في فرنساوالجزائر، وللأمانة كان يشتكي دائما من الجحود الذي يلاقيه من الجزائر المستقلة ومن عدم الاعتراف، لكن ليس بسبب شخصه أو من أجل شخصه فقط، لكن كان يطرح الموضوع من الزاوية الأشمل، يعني عدم الاعتراف عموما بالآخر الذي تضامن مع الجزائر وثورتها والذي ناضل إلى جانبها بكل معنى الكلمة، وليس عن شخصه حصرا. كيف كان تعامل بعض الحركات التحررية والتيارات السياسية في الجزائر مع علاق؟ عبد العزيز بوباكير: أصدقاؤه كثيرون في الجزائر، خصوصا اليساريين ومن أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري، الذين عرفوه في الجزائر هنا، وعملوا معه في جريدة "الجزائر الجمهورية" ومنهم كاتب ياسين، الذي كان صديق هنري الحميم، وتعلم أصول الصحافة على يديه. ماذا عن علاقته برجال الدولة والنظام في جزائر ما بعد الاستقلال؟ عبد العزيز بوباكير: قبل الاستقلال بسنة، عاد علاق إلى الجزائر واستقر بها وأعاد حينها إصدار جريدة "الجزائر الجمهورية" التي توقفت عن الصدور سنة 1965. وما يمكن قوله عن علاقة علاق بالنظام والسلطة ورجال الدولة، أنها كانت كعلاقة كل اليساريين، فيها تجاذب وفيها سوء فهم. ما رأيك في كتابه "ذاكرة جزائرية"؟ عبد العزيز بوباكير: أعتقد أن "المساءلة"، من أهم كتب هنري علاق، وهو الكِتاب الذي اشتهر عالميا، ثم أشرف على جهد جبار متمثل في إصدار 3 مجلدات بعنوان "حرب الجزائر"، وهو جهد أكاديمي ضخم، يتحدث فيه عن الثورة الجزائرية منذ إندلاعها وإلى غاية الاستقلال. أما مذكراته الشخصية، فكانت عن مساره النضالي والفكري في فرنسا وفي الجزائر خصوصا. الآن وبعد رحيله، ما الذي يستحقه الرجل من الجزائر تحديدا؟ عبد العزيز بوباكير: يستحق كل الخير، ويستحق منها الاعتراف والتكريم، يستحق أكثر من هذا. رحيل علاق مناسبة لأن يفتح الجزائريون أعينهم على حقيقة معروفة، وهي أن هنااك الكثير من الأوروبيين تضاموا مع الثورة ومنهم من رفع السلاح. هذه ستكون خطوة جبارة لإعادة كتابة تاريخ الجزائر بموضوعية وإنصاف، دون تعتيم ودون انغلاق على الذات. كيف يكون التكريم برأيك؟ عبد العزيز بوباكير: التكريم ليس كما يحدث عندنا عادة في الجزائر بشكله الكرنفالي المبتذل وفي صورته البائسة، إنما التكريم بأتم معنى الكلمة، وهو بالأساس التكريم المعنوي الذي ننشده والذي يليق بصديق وشقيق كبير مثله للجزائر وثورتها وتاريخها وللجزائريين، ويتلخص في الاعتراف بجهد الرجل وأمثاله ممن تضامنوا مع الثورة الجزائرية، وسيكون هذا فرصة لإعادة النظر في كتابة التاريخ وفي طريقة موقفنا من التاريخ نفسه ومن الآخر. * الباحث عبد المجيد مرداسي يعتبر شهاداته حول التعذيب جزء من تاريخ الإنسانية ويؤكد علاق اكتفى بالدفاع عن الحقوق المدنية في البداية - أزعج بن بلة وتعرض للنفي في عهد بومدين حاورته/ نرجس كرميش يرى الباحث والمؤرخ عبد المجيد مرداسي أن هنري علاق لم يكن مجرد متعاطف مع القضية الجزائرية بل مجاهدا في حرب التحرير عاش بالجزائر و ناضل بها وسجن، معتبرا شهادته حول التعذيب جزء من تاريخ الإنسانية ومنعرجا حاسما في كشف فظاعة فرنسا الاستعمارية، لكنه يرى بأن الصحفي تعرض بعد الاستقلال للتضييق و النفي والنسيان الرسمي إلا انه يحتل، حسبه، مكانة عظيمة في قلوب المجاهدين. الأستاذ مرداسي يقول أن هنري علاق ذو الأصول الروسية البولونية ولد في لندن وقد كان ميالا جدا للسفر والمغامرة و الاكتشاف زار الجزائر صدفة حيث وصل إلى ميناء العاصمة نهاية 1939 أين نزل بفندق بحي القصبة وهناك احتك أكثر بالشعب الجزائري فاكتشف شبابا محبا للحياة والعمل وشعبا حيويا، كما وقف على ممارسات استعمارية شنيعة ضد الجزائريين وتمييزا عنصريا كان ضحاياه جزائريون . مروره بالجزائر لم يكن مخططا له، يقول الباحث، إلا أنه أغرم بالشعب وحفاوته وبساطته رغم الظروف الصعبة التي فرضها الاستعمار وهي أسباب دفعته إلى الاستقرار بالجزائر، أراد ان يتعرف أكثر على هذا الشعب وأنغمس في حياته الاجتماعية والثقافية والسياسية أيضا حيث أنه التحق بالشباب الشيوعي في الأربعينيات وهو تنظيم كان محظورا أنداك . بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التحق علاق كصحفي بجريدة "ألجيري ربيبليكان" التي لم تكن لسان حال الشيوعيين فقط بل كل التيارات المطالبة بالحقوق، وهي جريدة كان يمولها تجار والطبقة البرجوازية رغم كونها ذات توجه يساري، علاق دخل كصحفي سنة 1949 كمناضل شيوعي قبل أن يصل إلى أعلى منصب على رأس الصحيفة سنة 1951 في تلك الفترة، ويؤكد الأستاذ عبد المجيد مرداسي أن مدير "الجيري ربيبليكان" كانت سياسته تقدمية، بحيث أنه لم يكن يطالب صراحة برحيل الاستعمار بل يركز على الحقوق المدنية للجزائريين أي انه كان يندد بتجاوزات الاستعمار لا بوجوده لاعتبارات، يرى، أن لها علاقة بتسلسل سلطة القرار في الحزب المرتبط بالتيار الشيوعي بفرنسا وروسيا الجريدة واصلت حربها ضد سياسة القمع الاستعماري وقدمت شهادات حية حتى سنة 1955 تاريخ اتخاذ السلطات الفرنسية لقرار منع صدورها نهائيا. خيار الكفاح المسلح أدى بالحزب الشيوعي إلى إعلان نية خلق جيش شيوعي ما أدى إلى حدوث صدامات قوية قبل فتح عبان رمضان اتصالات مع كل التيارات السياسية منها الحزب الشيوعي وتم التوصل في تلك الفترة إلى اتفاق جوهري وهو انخراط المناضلين في حزب جبهة التحرير الوطني بشكل فردي لا باسم التيار وحل الحزب الشيوعي، وهو توجه انخرط فيه الكثيرون . المؤرخ يشير بأن الكاتب اليساري كان دائما يقول "أنا مناضل من أجل الاستقلال" ولا يوجد ما يدل على أنه التحق بالأفلان وقد كان يعمل بشكل سري قبل أن يلقى عليه القبض في منزل موريس أودان سنة 1957 وخضع إلى ابشع أنواع التعذيب كغيره من المناضلين، وقد مكنت موهبة الكتابة هنري علاق من إصدار شهادة على التعذيب في شكل كتاب سمي ب"السؤال" أو "المسألة"، الشهادة كان لها صدى الزلزال على الرأي العام الدولي والفرنسي، وتكمن أهمية الشهادات، وفق تحليل المؤرخ، في أنها صادرة عن صحفي و مناضل يساري ذو أصول أوروبية ، وهو ما أحرج التيار والنخبة الفرنسية كاملة و جعلها تتخبط أمام الواقع المشين لفرنسا الحريات، وكان بمثابة الأزمة للسياسيين على اعتبار ان التعذيب كان بأوامر اكتفى الجيش بتنفيذها. لم يكن "المسألة" مجرد كتاب بل كان برأي الباحث في علم الاجتماع انفتاحا سياسيا ومنعرجا للمقاومة الجزائرية بل والقضية الجزائرية، "وسائل التعذيب الشنيعة المستعملة من طرف فرنسا لم تعد مطروحة في الصالونات الفرنسية فقط بل طرحت على الرأي العام العالمي ما أدى إلى فضح فرنسا"، مضيفا بان الشهادة كانت منعرجا ومحطة مصيرية لأنه ندد بشجاعة بالتعذيب وجعل الاستعمار الفرنسي مقترنا بوحشية التعذيب . علاق هرب من السجن في 1961 وعاد إلى الجزائر في الأسابيع الأولى للاستقلال ليعيد بعث "ألجيري ربيبليكان" في عز ما يعرف بأزمة صيف 62 ، "الجريدة كانت تزعج نظام بن بلة لكنه كان محرجا من اتخاذ أي قرار بشأنها ولم يجد طريقة للتخلص منها كون من يعملون بها رموز نضالية"، لكن بن بلة، حسب محدثنا، أصدر قرارا بحل الحزب الشيوعي وحضر لدمج الصحيفة بجريدة الشعب لامتصاص وهجها وما تسببه من إزعاج، إلا الأزمة بين بومدين وبن بلة وما تبعها من تغيير في النظام أدت في النهاية إلى حلها بتاريخ 19 جوان 1965 ، وهو ما دفع بعلاق إلى مغادرة الجزائر وعمل بجريدة الحزب الشيوعي الفرنسي. الأستاذ مرداسي يشير ان هنري علاق زار الجزائر في أكثر من مناسبة بعد لجوئه إلى المنفى وكانت أول زيارة له عرض فيلم وثائقي عن مسيرته بداية سنة 2000 تحت عنوان "حلم جزائري" كما أنه كان ضمن مجموعة من المثقفين الذين وجهوا نداء دوليا للتنديد بالتعذيب الفرنسي بالجزائر ، وحسب المؤرخ فإن هنري علاق شخصية حاضرة بقوة في تاريخ الجزائر لا يمكن إلغاؤها او نكران وزنها، مؤكدا بأنه لم يكن يبحث عن اي دور لأنه كان مناضلا من أجل الحريات والقضايا العادلة، إلا أنه يرى ان الجزائر الرسمية لم تعترف بالرجل ولم تعطه سوى النسيان لكنه شخصية معترف بها في أوساط المجاهدين الذين يقفون وقفة خشوع كلما ذكر اسمه لمكانته في تاريخ الجزائر كونه لم يكن مناصرا للقضية عن بعد بل عاش مع الجزائريين تحت نفس السماء وعايش معهم لحظات صعبة بل وقاسمهم وحشية المستعمر و تعرض للتعذيب و ظل مرتبطا بالجزائر ويلخص الأستاذ مرداسي مسبرة هنري علاق في أنه صحفي ومناضل اعطى شهادة على التعذيب دخلت تاريخ الإنسانية وتحولت إلى دليل ومرجعية دولية في تاريخ الشعوب. * الدكتور عمار محند عامر للنصر رحيله مناسبة للتعريف بتضحيات ومساندة بعض المثقفين الأوروبيين في الثورة الجزائرية - هنري علاق آمن بالقضية قبل الجنسية الدكتور عمار محند عامر ، مؤرخ وباحث في تاريخ الجزائر، مهتم بمسألة كتابة التاريخ والتوثيق الأكاديمي لما حدث أثناء الثورة يتحدث للنصر عن هنري علاق صديق الجزائر المناضل والشخص الذي غاص في توثيق جوانب من تاريخ الثورة التحريرية. وفاة هنري علاق هي وقفة عند محطات تاريخية للثورة الجزائرية فما جوابنا على «السؤال»؟ يوم 21 جويلية يصادف عيد ميلاده وهاهي وفاة هنري علاق تجعلنا نقف عند أفكاره و ما قدمه للجزائر، يجب أن تكون المناسبة فرصة للجزائريين للاعتراف بالمساندة القوية لعدد كبير من الأوروبيين للثورة والقضية الجزائرية أثناء حرب التحرير، فهنري هو المثقف الذي كان يؤمن دائما بأن القضية قبل الجنسية، وجوابنا هو العمل أكثر للتعريف بالرجل كصديق للجزائر طلق بلده وجنسيته الفرنسية ليتزوج بالقضية الجزائرية. كتابه «السؤال» تناول مسألة التعذيب الذي كان يتعرض له الجزائريون أثناء ثورة التحرير، هل يمكن اعتباره أول وثيقة لجرائم فرنسا ضد الجزائريين؟ هنري علاق لم يكن أول من كتب عن التعذيب في الجزائر ولكن تناوله للقضية في كتاب مفصل وبشرح مستفيض جعله يفجر قنبلة سياسية وإعلامية وأخلاقية في وجه الاستعمار الفرنسي كونه حشد الرأي العام الفرنسي وأوضح أن القضية الجزائرية عادلة وكشف الممارسات غير الأخلاقية التي يتعرض لها الثوار، وهذا ما جعله يختلف عن المفكرين الذين سبقوه وكتبوا عن التعذيب آنذاك، وكاد يفقد روحه عندها وتعرض للتعذيب بسببه وبسبب مواقفه المناهضة للاستعمار. هل يمكن الاستناد على هذا المؤلف لمطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها ضد الجزائريين ؟ دعيني أذكر بأن إتفاقيات إيفيان حملت في إحدى بنودها بأن لا تكون تعويضات لما جرى ما بين 1954 و1962 ، هذا ما يجعلنا نفكر في تجاوز هذا الطرح الذي أصبح للأسف سجلا تجاريا للبعض، ولعلنا نلاحظ أن قضية التعذيب التي طرحتها المجاهدة لويزة إيغيل أحريز لم تتجاوز الإعلام وحتى ما يثيره اليمين المتطرف في فرنسا اليوم لن يكون له صدى كون الاتفاقيات دولية لها حصانة ويجب على الأطراف احترامها، ما يجب فعله هو الاستمرار في كتابة تاريخ جرائم المستعمر وهي موجودة، وهذا حتى لا ننسى الماضي الذي يصنع هويتنا وشخصيتنا الجزائرية، فالماضي كما أقول يكتبه المؤرخون وليس السياسيون. لقد خرجنا من الاستعمار بوجه مشرف جدا بفضل تضحيات كل الجزائريين وأصدقاء الجزائر الأوروبيون خاصة، وإتفاقيات إيفيان كانت بنودها إيجابية أيضا ولصالح الجزائر، اليوم يجب أن ننظر بنظرة إيجابية وبناءة للعلاقات مع فرنسا. في هذا الإطار كيف يمكن أن ننصف صديق الجزائر؟ يجب أولا أن نجعل الشباب يتخلى عن نظرة أن الآخر هو العدو، فيجب أن نعرفه بأن هناك فرنسيون ساعدوا الثورة ووقفوا إلى جانبها وضحوا من أجلها مثل الجزائريين، أما بالنسبة للسلطات فيمكن مثلا إطلاق اسمه على مؤسسات حكومية أو إدارات أو حتى شوارع المدن الكبيرة، لأنه يعتبر بطلا جزائريا كانت له الشجاعة كمثقف ليقف ضد بلده من أجل كلمة الحق والقضية العادلة . كمؤرخ، ألا ترى بأن إسهامات هنري علاق في كتابة تاريخ الثورة حافز لتفعيل هذا العمل من طرف جزائريين؟ فعلا استقلال الجزائر صنعه جزائريون وتضحيات بعض الأصدقاء الأوروبيين خاصة المثقفين الذين كان لهم دور كبير في تدويل القضية الجزائرية، ولكن مشكل كتابة التاريخ عندنا هو العجز الكبير في الكتابات الأكاديمية العلمية أي البحث، فإذا عددنا الباحثين في التاريخ الذين يؤرخون بطريقة علمية سنجدهم يعدون على الأصابع، أما البقية فكتاباتهم ملحمية لأحداث تم سردها هنا وهناك، أما اللجوء للبحث العلمي في التاريخ يجعلنا نجدد الدراسات ونرتكز على أسس حقيقية لتقديم مادة أكاديمية للأجيال، أما اليوم معظم الكتب لا تفيد طلبة الجامعات لأنها فاقدة لسمة الأكاديمية. بالحديث عن الجامعة، هل هناك دراسات أو اهتمام بفكر هنري علاق وكتاباته لدى الطلبة والأساتذة؟ أكاد أجزم أنه لا يوجد أية رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه في الجامعة الجزائرية تتناول فكر أو كتابات هنري التاريخية أو تتناول جانب من مساهماته في الثورة التحريرية، بالعكس في فرنسا وجدت عدة أعمال في هذا المحور. فالماضي يكتبه المؤرخون بأيادي علمية. تكلمنا عن هنري علاق المناضل والمؤرخ، فهل يمكننا الحديث عن الإنسان؟ لا يمكنني القول سوى أنك عندما تلتقي هنري لأول مرة تعتقد أنه إنسان عادي أو مثقف بسيط، التقيته في عدة ملتقيات ودائما عندما أراه أقول لو أني لا أعرفه لما ظننت أن هذا الرجل البسيط المتواضع جدا هو من شارك في صنع جزء من تاريخ الثورة الجزائرية، تواضعه زاده رفعة وسط المؤرخين ووسط المجتمع. هنري علاق مناضل شيوعي يؤمن بحق الشعوب في العدالة والكرامة والحرية، وناضل بقلمه كصحفي وككاتب، أفكاره أقلقت المستعمر آنذاك وعرضته لضغوطات وتعذيب. هوارية . ب * أمين الزاوي/ روائي درس هنري علاق إستطلاع/ نوّارة لحرش ماذا يعني لجيلنا هذا الاسم: هنري علاق؟ هذا الذي ارتبط اسمه على الدوام بصورة المثقف العنيد المجاهد العاشق للحرية، العاشق للجزائر، المناهض للاستعمار، المدافع عن العدالة الاجتماعية وحق الشعوب في الاستقلال؟ ماذا يعني لنا نحن الجيل الجديد هذا الاسم «هنري علاق» المثقف الإعلامي الذي وقف منذ الساعة الأولى وفي الصفوف الأولى مع المناضلين النزهاء من أجل تحرير الجزائر التي جاءها عشية الحرب العالمية الثانية وهو اليهودي الشيوعي الإنساني وأصبح ابنها البار؟. هي أسئلة نحملها ونحتاج إلى تفكيكها اليوم لكثير من الغوغاء التي لا تعيش إلا في الماء العكر باسم السياسة أو الدين أو المال. أمام محيط اختلط فيه الجيد بالرديء، اختلطت فيه أصوات الغوغاء فعلت على أصوات الفهماء العقلاء المتنورين، علينا أن نقرأ تاريخ هنري علاق حتى نفهم بأن الثورة الجزائرية كانت فضاء مفتوحا لكل محبي العدالة والحرية بغض النظر عن عقائدهم الدينية، كان فيها وبكل إيمان تاريخي المسلم واليهودي والمسيحي وغيرهم.. فمن منا لا يذكر أسماء أبناء هذا الوطن من مجاهديه من أديان وأيديولوجيات سياسية مختلفة، تلتقي في هدف واحد هو الدفاع عن الحرية والعدالة والاستقلال والمستقبل المشترك لعيش مشترك مع الدفاع عن حق الاختلاف في جزائر الغد، أسماء من أمثال: هنري علاق وإيفتون ومايو وأودان وشولي ودوفال وبرانغير وتيسيي وغيرهم... من أبناء الجزائر الذين ساهموا في صناعة الجزائر المستقلة كلٌ بطريقته التي من خلالها أحب الجزائر. كان الجميع يحلم نفس الحلم وهم يتوسدون حجرا على جبل، كانوا يحلمون على اختلاف عقائدهم وأديانهم بجزائر حرة متحررة تسطع فيها شمس الغد على الجميع بالخير والعدالة والسلام، دون إقصاء ولا كراهية. إن رحيل المثقف هنري علاق في مثل هذه الأيام التي بدأ الجيل الجديد يفقد العلاقة الحميمية بقيم الثورة وينساها في ظل الانكسارات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها، أمام ذلك علينا أن نجعل من موته على حزنه درسا منه تنبعث ومن جديد قيم الثورة الجزائرية التي كانت كبيرة وإنسانية ومتعددة. على الذين يريدون أن يجروا جزائر اليوم إلى التعصب والتخلف الفكري والأيديولوجي أن يقرأوا كتاب هنري علاق «السؤال» الذي فيه تشريح للاستعمار بكل بشاعته وبكل وحشيته المتمثلة في صنوف التعذيب التي كانت تمارس ضد المناضلين ومن بينهم هنري علاق نفسه، على الجزائريين جميعا والفرنسيين جميعا أن يقرأوا هذا الكتاب لأنه رسالة إلى شرفاء الشعبين وإلى من يحب المستقبل المشترك بين الدولتين أن يعرف كيف تلتقي الشعوب ومثقفوها من أجل السلام والعيش المشترك وبناء المستقبل الأفضل. إن جيل مثقفي هنري علاق من أمثال عبد الحميد بن زين وكاتب ياسين ومفدي زكريا ومحمد قنانش وبوعلام خلفة والطاهر بن عيشة وأنّا غريكي وجمال عمراني ومحمد حربي ومحمد بودية وفرانتز فانون... هذا الجيل استطاع أن يجعل الأفكار الكبيرة السامية تمشي على رجليها وتعيش بين الناس في الأسواق وفي المداشر وفي المدارس وفي الجبال وفي البنادق وفي الأدب شعرا ورواية وقصة وفي الإعلام وفي الفن بشكل عام من مسرح وموسيقى وفن تشكيلي. كان هنري علاق مؤمنا بأن المثقف المتنور لا يعيش في الأبراج العاجية بل عليه أن يلمس تراب الواقع بكل عنفوانه وهو ما قام به طوال حياته الإعلامية والثقافية والسياسية. بقي لي أن أقول بأن الجزائر لم تستفد من الصورة الكبيرة الناصعة التي تميز بها هنري علاق في حياته الثورية وهو يخوض إلى جوار المجاهدين معركة الثورة التحريرية، لم تستفد الجزائر من رمزية صورة هنري علاق وبالتالي للأسف بدا من شجرة الثورة الجزائرية الوارفة جزء منها فقط وهو ما ضبب الرؤية لدى الأجيال الجديدة المتلاحقة وهو أيضا ما أنبت وأثمر التعصب والتطرف ومعاداة الآخر. إن هنري علاق جزء أصيل من تراث الثورة الجزائرية، ابن بار للثورة، واحد من عمداء الإعلام الجزائري النزيه، وواحد من شهود على بشاعة الاستعمار وواحد أيضا من شهود على إمكانية العيش المشترك حين نحترم الاختلاف وندافع عنه. علينا أن نقرر قراءة كتابي هنري علاق وهما: «السؤال»«La Question» وكذا «ذاكرة جزائرية» « Mémoire Algérienne » في المدارس وفي الجامعات حتى نطل من جديد على جزء من التاريخ الذي صنعت فوقه وفيه الجزائر التي ننعم اليوم بالعيش عليها وفيها. * محمد بن زيان/ باحث وناقد ومؤرخ مناضل أممي التزم وتصالح مع الحقيقة فحسم مواقفه لا يمكن استيعاب مسار هنري علاق إلا بموضعته في سياق وملابسات تشكله وتبلوره. علاق من المثقفين الفرنسيين الذين جسدوا الالتزام بأفقه الإنساني وتصالحوا مع الحقيقة فحسموا مواقفهم، حسمًا يؤكد لنا أن الحقيقة لا يمكن أن تتقولب وتتنمط. علاق كمناضل أممي التزم بقناعاته التي جعلته يواجه الاستعمار ويتعرض إلى فظاعة التعذيب، فظاعة نقلها في كتاب مهم ومرجعي، فضح الجريمة الاستعمارية. وانخراط علاق وجونسون وغيرهما في الثورة يُبين أنها كانت بالتعبير الأنثربولوجي بمثابة البوتقة الصاهرة لكل الذين يحملون الإنسان في أعماقهم وينشدون التحرر والخلاص والتقدم والعدالة. ظل علاق مرتبطا بالجزائر، وظل فاعلا حاضرا في المدونة التاريخية كأحد الذين قدموا ضريبة من أجل حرية الجزائر وكأحد الذين كانوا من رواد الصحافة المناضلة في «ألجي ريبيليكان». وشَكل كتابه عن فترة سجنه وتعذيبه وثيقة مهمة لفضح العُسف الاستعماري. وعلاق بكل ما يمثله كان الرمز الذي يصغ به التاريخ. أعتقد أن الرجل ربما عرف في فترات معينة التقدير من الجزائر، خصوصا في فترات المد اليساري، كما ظل محل احتفاء إعلامي وثقافي.. ولكن ربما الاهتمام الحقيقي هو الغائب، فكثيرا ما نحتفي مهرجانيا أو نربط الاحتفاء باعتبارات سياسية أو لحسابات ظرفية. وإذا قارنا علاق بآخرين سنجد أنه نال اهتماما نسبيا، والذي يستحقه الرجل حقا من الجزائر، هو إعادة طبع وتوزيع أعماله وترجمتها إلى العربية وإدراج بعض نصوصه في المنظومة التربوية حتى يعرف أطفالنا وشبابنا أن البلاد عرفت شراكة تجاوزت حدود الدين والعرق والتراب، شراكة الثورة والكفاح ضد الاستعمار. * حميد عبد القادر/ صحفي وكاتب أعطى الثورة بعدا إنسانيا وجعلها تتغلغل بين المثقفين هنري علاق، ساهم في دفع الرأي العالمي في اتجاه مساندة الثورة بفضل موقف جريء ضد التعذيب، وكتاب يفضح تجاوزات غير إنسانية في حق الفدائيين الجزائريين. أعطى علاق الثورة بُعدها الإنساني، وجعلها تتغلغل في أوساط المثقفين والناشطين السياسيين عبر العالم، كان بمثابة صوت منفرد في فترة عصيبة تميزت بطغيان عقلية استعمارية. وسار على خطى سارتر الذي كان يعتقد أن كل من لم يجرؤ على فضح التعذيب في الجزائر لن يكون له ضمير سالم، وقال مقولته الشهيرة «إننا قذرون، إن ضمائرنا لم تعكر وهي مع ذلك مبلبلة وحكامنا يعرفون ذلك حق المعرفة». كان سارتر يعتقد أن الاستعمار هو عبارة عن «نظام»، ساهم هنري علاق في تفكيك أسسه، عبر فضح تجاوزاته، وإظهاره في صورة نظام غير إنساني. اقترب علاق من سارتر، وكان أحد تلامذته، وجعل من أفكاره حول التحرر من الاستعمار قضية جوهرية. جاءت قوة هنري علاق وقدرته على التأثير من الدعم المباشر الذي حُظي به من قِبل سارتر، عقب نشره كتاب «الاستجواب». نصح سارتر الناس بقراءة الكتاب الذي يسرد الحقائق التي يشمئز منها الإنسان من أنواع التعذيب التي تمارس بشكل جنوني وقد عانى منها هذا السجين نفسه، رغم أن الجلادين لم ينتزعوا منه أية معلومة رغم القهر والتمثيل به جسدا ونفسا. ظل علاق قريبا من الجزائر بفضل التزامه، وروحه الإنسانية، وقدرته على جعل التاريخ يسير في الاتجاه الصحيح. * بوداود عميّر/ كاتب وباحث ومترجم هنري علاق المناضل يستحق منا اهتماما أكبر «أجمل اعتبار تقوم به الدولة الفرنسية لهنري علاق هو أن تعترف رسميا بممارسة التعذيب في الجزائر»، هكذا كتب باتريك لوهاريك في افتتاحية جريدة لومانيتي لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي في اليوم الموالي لرحيل صاحب كتاب «السؤال»، كتاب التعذيب بامتياز، كتاب المعاناة والسجن والاعتقال، كتاب الحيف، الظلم والاحتقار. لم يلبث أن قامت السلطات الفرنسية بمصادرة الكِتاب في محاولة يائسة منها لطمس الحقيقة، وإخفاء الوجه الآخر البشع للاستعمار. كتاب «السؤال» لم يوقفه التعتيم ولا المراقبة لأنه كتاب الحقيقة النابعة من ضمير إنسان ومن رجل مثقف وقف مع الحقيقة في وجه التضليل، آثر الإنسانية على الانتماء للوطن وكان «إنسانا قبل أن يكون فرنسيا» على رأي مونتيسكيو. أعتقد أنه حان الوقت أن نرتفع كجزائريين إلى سقف أعلى في الإنسانية، في الاحتفاء بالأسماء التي وقفت معنا أثناء الاستعمار، والتي حملت هموم قضيتنا وعانت في ذلك مرارة الإقصاء والتهميش بل ومرارة السجن والاعتقال والتعذيب، بصرف النظر عن جنسها وعقيدتها وانتمائها. هنري علاق جزائري بمواقفه وبنضاله الذي استمر في كتاباته أيضا، يستحق منا على الأقل أن نسمي باسمه مؤسساتنا التربوية والعمومية، يستحق أن نضع نضاله في كتب التاريخ لتقرأ مساره وكفاحه الأجيال، ليكتشفوا المعاني الإنسانية، باعتبار أن الضمير حي في كل مكان من العالم مادامت القضية عادلة.