سائقو سيارات أجرة وتجار يحوّلون "الصرف" إلى ورقة ضغط و احتيال و نصب في الكثير من المعاملات التجارية و كذا قطاع الخدمات و النقل بقسنطينة ، لاتزال القطع النقدية الصغيرة أو ما يعرف عندنا بالصرف أو "الفكة"مشكلة يومية تتفاقم لدى اقتراب الأعياد و مختلف المناسبات ،حتى أنها تمنح أحيانا قيمة أغلى من قيمتها الحقيقية، إذ تكلف العديد من الزبائن كرامتهم أو وقتهم و قد يرغمون على قبول مقايضتها بقطعة حلوى أو علك أو بصلة أو حبة بطاطا في أحسن الأحوال ! المتسولون مصدر أساسي للصرف الملفت أن الكثير من التجار و الناقلين و حتى الصيادلة، يشتكون من نقص القطع النقدية الصغيرة من فئة 10 و 5 دنانير و 2و 1دينار و يجدون صعوبة في معاملاتهم مع الزبائن. و إذا كان هناك بينهم من يجتهد في البحث و جمع ما تيسر منها في السوق، لإرضاء زبائنه و ضميره، على غرار صاحب مكتبة بوسط المدينة ،اعترف للنصر،بأنه أبرم اتفاقية مع مجموعة من المتسولين ،لتحويل نقودهم المعدنية في نهاية كل مساء إلى أوراق نقدية ،مؤكدا بأن العديد من زملائه يعتبرون هذه الشريحة مصدرا هاما لتوفير الصرف، في حين يلجأ آخرون إلى بائعي الأعشاب العطرية و الليمون و البيض بالأسواق الشعبية أو أصحاب طاولات التبغ و الحلوى ،لنفس الغرض على غرار البقال محمد الذي شدد بأنه يعاني فعلا في جمع «الفكة». بالمقابل نجد مجموعة من أصحاب المحلات التجارية و سائقي سيارات الأجرة و الحافلات و غيرهم، إلا من رحم ربك،لا يترددون في التحايل و التهرب من إرجاع القطع النقدية الصغيرة لزبائنهم ،أو يطالبونهم بتوفير أسعار البضائع أو مقابل الخدمات إلى آخر دينار ،كحق مكتسب ، و يلومونهم و يصبون عليهم جام غضبهم في حالات كثيرة، إذا «قصروا» في تقديم «الصرف»المطلوب.... بل أن هناك من يمتنع عن تلبية طلب الزبون أو يعاقبه على طريقته ... يحدث هذا رغم أن من مهام و واجبات كل تاجر أو صاحب مهنة حرة، أن يتكفل بتوفير كل القطع النقدية الصغيرة مثل الكبيرة، اللازمة لضمان معاملات نزيهة و شفافة وفق المعايير الأخلاقية و المهنية العالمية. في جولة ميدانية قامت بها النصر، لاحظنا بأن ادعاء نقص الصرف و ربما احتكاره من قبل بعض الجهات، فتح المجال واسعا للتحايل على مصراعيه و كذا التفنن في إيجاد طرق للتهرب من إرجاع «الفكة» إلى أصحابها كتصنيفها في خانة الدين المنسي، بل أن هناك من يتعمد إهدار وقت الزبون بحجة البحث عن «الصرف»، على أمل أن يمل الانتظار و يستحي و ينصرف أو يتوب عن التعامل بالأوراق النقدية و يجمع كل القطع المعدنية الصغيرة من كل الفئات، كلما قصد إلى محل أو امتطى وسيلة نقل. سائقو سيارات أجرة ينتقمون من زبائنهم لاحظنا أن الكثير من سائقي سيارات الأجرة يعتبرون عدم تقديم ركابهم لثمن التوصيلة كاملا ب»الفكة» ، تهاونا أو نوعا من الإهانة لهم ، فيحتجون و يغضبون أو يتسببون في اختناق حركة المرور ، بإيقاف زملائهم في الطريق، لكي «يصرفوا» لهم النقود، و قد قال أحدهم لركابه ذات صباح:»من يوقف طاكسي يجب أن يكون لديه الصرف أو يسير على قدميه».في حين يبالغ بعض «لي تاكسيور»في الاعتذار عن انتهاء ما لديهم من صرف ،فيضطر الركاب إلى التنازل خجلا، عن الدنانير المتبقية من سعر النقل و تتكرر العملية يوميا. سائق تاكسي شاب، قال لنا بأنه يجمع الصرف الذي يتنازل عنه الركاب، ليهبه في نهاية كل شهر كصدقة لجاره الفقير و المعاق حركيا. التقينا بإطار بمؤسسة وطنية، قالت لنا بأنها اضطرت أمس على الساعة الثامنة و النصف صباحا، لتوقيف سيارة أجرة، لكي تقلها إلى مقر عملها لكي تصل في الوقت المحدد لاجتماع مع الموظفين ، و في منتصف الطريق قدمت للسائق الشاب 1000 دج ،فقال لها بأنه ليس لديه الصرف و اقترح عليها التوقف أمام مقهى، ليبحث عن صديقه النادل لينجده و طلب منها انتظاره بالسيارة دقيقة واحدة، لكنه مكث هناك أكثر من 20 دقيقة و عاد بكل هدوء، و هو يحمل كأس قهوة و يعيد إليها ما تبقى من النقود بعد أن تقاضى ثمن التوصيلة التي أسمتها «التأخيرة «.و قالت لنا موظفة أخرى بأنها كانت مستعجلة للوصول إلى مقر عملها على الثامنة صباحا ،فأوقفت سيارة أجرة ليقلها من مقر سكناها بحي قدور بومدوس إلى مقر عملها خلف محطة المسافرين الشرقية، و عندما وصلت إلى الطريق المقابل للمحطة لاحظت ازدحاما خانقا، فطلبت من السائق الكهل التوقف هناك لكي تكمل الطريق مشيا على قدميها...سلمته ورقة من فئة 1000 دج ، فقال لها بأنه ليس لديه صرف، فتركت له الورقة النقدية و أعطته اسمها و اسم الشركة التي تعمل بها ليعيد لها الصرف لاحقا و نزلت مسرعة، و اختفى هو و الصرف إلى يومنا هذا. استبدال «الصرف» بقطع حلوى أو بطاطا أو بصل من المعاملات التي تتكرر يوميا بمحلاتنا و أسواقنا، و من المستحيل أن نجدها في بلدان أخرى، أن يقدم البقال أو صاحب الكشك أو المكتبة لزبائنه، كمقابل لما تبقى من نقودهم، بعد اقتناء احتياجاتهم، قطع حلوى أو علك، دون أن يطلبونها منهم،بحجة نفاد ما بحوزتهم من قطع نقدية صغيرة و في أسواق الخضر و الفواكه يعوض البائع في الكثير من الحالات الدنانير المتبقية من المبلغ الذي تدفعه له لشراء كيلوغرام من البصل ، مثلا ،ببصلات إضافية و نفس الشيء بالنسبة للبطاطا و حتى العنب أو التفاح و الزيتون.و الحجة المتداولة عدم توفر الصرف. و قد حضرت خلافا تحول إلى شجار بين شيخ و تاجر بسوق بطو، بوسط المدينة، لأن هذا الأخير أراد أن يحتم عليه حبات طماطم إضافية ،بدل الصرف بعد أن سلمه هذا الزبون 100 دج لاقتناء كيلو غرام من الطماطم ب80دج،و قد تضامن باقي التجار مع زميلهم متحججين بغياب الصرف،في حين صمم الشيخ على أخذ دنانيره لأنها من حقه.و لم يفك النزاع سوى تدخل زبون آخر أعاد ال20دج المتبقية للشيخ الغاضب.إلى جانب من يعوضون الدنانير المتبقية خضرا أو حلوى ،هناك فئة واسعة من التجار، أصبحت تشترط على الزبائن توفير أسعار البضاعة المطلوبة بالضبط إلى آخر دينار أو تمتنع عن البيع و إعادة الفكة إلا للمعارف و الأصدقاء.و فئة أخرى تتعامل ب»السماطة «و التماطل و تهميش الزبائن، ليملوا من الانتظار و يتنازلوا عن صرفهم و ينصرفون . يحدث هذا في ظل نقص الرقابة و امتناع معظم المواطنين الضحايا عن التبليغ و التقدم بشكاوى للجهات المعنية.و لابد أن نشدد هنا بأن شريحة معتبرة من التجار لا تزال صامدة أمام هذه الظواهر و تتحلى بالنزاهة و الشفافية و الاحترام.