تونس تختار طريقها اليوم بين البورقيبية و الاسلام السياسي يختار التونسيون اليوم ممثليهم الجدد في مجلس النواب، و يضعون حدا للمرحلة الانتقالية، باختيارهم مئتين و سبعة عشر 217 نائبا و نائبة من بين 1327قائمة انتخابية عرضها عليهم 120حزبا سياسيا، واصل أغلبهم أمس القيام بحملات الدعاية الانتخابية منتهكين الحظر الذي يفرضه الصمت الانتخابي قبل يوم واحد من منح الكلمة للناخبين الذين تجاوز عدد المسجلين منهم خمسة ملايين شخص. و قد أكد رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة أمس أن الجزائر ستبقى الظهر القوي الذي تستند إليه تونس في مواجهة كل المشاكل الأمنية الاقتصادية التي تواجهها، محاولا التقليل من خطر العمليات الإرهابية التي عرفتها مناطق في محيط العاصمة على العملية الانتخابية. ما يميز الانتخابات التشريعية التونسية هذه المرة أنها تأتي نهاية للمرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة الياسمين التي أطاحت بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في14 جانفي2011، كما أنها شهدت بعد ثلاث سنوات و ثلاثة أيام بالضبط من انتخاب أول مجلس تأسيسي، عودة بعض رجالات النظام السابق للتنافس السياسي، و ينظر الكثيرون إلى تشريعيات تونس التي تجري اليوم على أنها بارومتر للإنتقال الديمقراطي السلمي في أول بلد عرف ما سمي بثورة «الربيع العربي». و رغم أن هذه الانتخابات جاءت في سياق من الصراع السياسي الطويل، الذي عرف بروز نشاطات العنف السياسي من جانب جماعات ارهابية، تمثلت أبرز ملامحها في تدشين الثورة التونسية لعمليات اغتيال سياسي راح ضحيتها معارضان بارزان لحركة النهضة الإسلامية ذات الأغلبية في المجلس التأسيسي، فإن الصراع الحالي يتجه نحو حالة من الاستقطاب الثنائي بين الإسلاميين بقيادة النهضة و بين الوطنيين العلمانيين حول زعيم حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي، و رجحت توقعات عديدة تقاسم الحزبين لمقاعد أول برلمان تونسي منتخب ديمقراطيا في عهد ما بعد الثورة خارج المرحلة الانتقالية. و قد بقي كلاهما حتى مساء آخر يوم من عمر الحملة الانتخابية متمترسا في شارع لحبيب بورقيبة غير بعيد عن مقر وزارة الداخلية بوسط العاصمة تونس، في عملية استعراض للقوة. و في محاولة لاستمالة الناخبين المترددين أمام اختيارات متعددة و كثيرة، بعضها لا يكاد يجد مكانا وسط حشد الأحزاب الكبيرة من الثلاثية الحاكمة في عهد المرحلة الانتقالية و رموز البورقيبية و الذين يعدون بتصحيح مسار الثورة. الاسلاميون يحاولون تبرير سبب فشلهم للعودة من جديد التونسيون لا يجدون مبررات للاقتناع بجدوى العمل السياسي بالشكل الذي تم بعد ثورة الياسمين و هو ما جعل المترشحين بكل أصنافهم يحاولون منعهم من السقوط في حالة من الإحباط و اليأس، و التوجه نحو صناديق الانتخابات صباح اليوم. و من شأن التدهور المتزايد الذي يعرفه الوضع الأمني أن يدفع بعدد اكبر من الناخبين للمشاركة في اختيار أعضاء البرلمان الجديد، فقد هزت عملية إرهابية قبل يومين في وادي الليل قريبا من العاصمة تونس الساحة السياسية المحلية، و أبرزت الصفحات الأولى من الجرائد التونسية أمس حجم العملية و أثنت على قدرات عناصر الأمن في التصدي للإرهابيين و قد تم خلال تلك العملية قتل ستة إرهابيين من بينهم خمس نساء، تحصنوا داخل مسكن و احتجزوا المقيمين به رهائن طيلة ساعات. و يتخوف أنصار حركة النهضة الاسلامية التي يتزعمها راشد الغنوشي أن يقلص نشاط الجماعات الإرهابية من رصيدهم الشعبي و يتوقع مراقبون هنا أن يتناقص عدد مقاعد الحركة في مجلس نواب الشعب، مقارنة مع الأغلبية التي حصدتها الحركة قبل ثلاث سنوات، و لكن نشاط الإرهابيين ليس وحده ما يسبب النفور و لو قليلا من الإسلاميين في تونس، فقد كانت الحكومة الاسلامية التي قادت البلاد منذ انتخابات المجلس التأسيسي برئاسة حمادي الجبالي أمين عام النهضة و بعده علي لعريض و هو من صقور النهضة قد فشلتا كثيرا في الاستجابة لمطالب الشعب التونسي، و تقديم بديل أفضل لصالحه، و هو ما جعل الكثيرين يشككون في جدوى الثورة و الإطاحة بالنظام السابق، و قد برز تيار خلال الحملة الانتخابية لهذه التشريعيات يدعو إلى تصحيح مسار ثورة الياسمين و يتهم الحاكمين الذين تولوا مقاليد السلطة من إسلاميين و شركائهم العلمانيين بأنهم خانوا شهداء «أول ربيع عربي»، و بأنهم انحرفوا عن المسار الذي أتوا بفضله للحكم. تونس التي عرفت فيها المرأة حضورا سياسيا مهما و بارزا يتقاسم الرأي فيها اليوم البورقيبيون من الوطنيين أنصار الباجي قايد السبسي و عدد غير قليل من العلمانيين الراغبين في بناء دولة مدنية و الحفاظ على أبرز مكتسبات الزعيم الاستقلالي التونسي المعروف بتفتحه و جرأته على منح المرأة في تونس حقوقا تحسدها عليها الكثيرات من نساء البلاد العربية و بين الإسلاميين الذين يريدون أن يؤسسوا لنموذج على الطريقة التركية في بلاد عربية لأول مرة تدليلا منهم على قدرتهم في إنجاح تجارب الانتقال الديمقراطي، و رسم مستقبل يزاوج بين التقاليد و القيم الثقافية و الحضارية الشرقية و بين المفاهيم الديمقراطية الغربية، و من خلال نفس العمل يقومون بتوجيه رسالة للغرب مفادها أن كل الإسلاميين ليسوا إرهابيين، و أن امتدادهم الشعبي يشكل ركيزة لحكم مستقر. التشريعيات التونسية اليوم زادت فيها حمى المنافسة و تلوثت قليلا بما يصطلح على تسميته بالمال الفاسد الذي استعمله بعض المترشحين لشراء أصوات الناخبين وفق ما يقول خصومهم، و قدم آخرون بدل المال وعودا جميلة و أحلاما وردية بغد أفضل، قائلين أن تحقيقها ممكن فقط من خلال أوراق الإنتخاب التي تدخل الصناديق اليوم. الواقع اليومي الصعب للتونسيين الذين أغلقوا حدودهم البرية مع ليبيا لثلاثة أيام بمناسبة تنظيم الانتخابات، و أبقوا على الحدود مع الجزائر مفتوحة،و هم ينظرون بشكل كبير نحو الجزائر التي قال رئيس الحكومة أمس أنها السند القوي الذي يحمي البلاد التونسية من شتى المخاطر التي تواجهها. يجعل الكثير من الناخبين يعرفون مدى قيمة القائمة التي يختارونها لتشكيل أول مجلس للنواب، و ربما يفكر بعضهم أكثر من مرتين قبل الإدلاء بصوته.