خرج آلاف الجزائريين في ال8 ماي 1945 للتظاهر سلميا بكل من سطيف و قالمة و خراطة للتعبير عن إرادتهم في الاستقلال حيث تعرضوا لقمع وحشي و جماعي على يد الجيش الفرنسي مدعوما بميليشيات أوروبية مسلحة. في هذا الصدد عاد المؤرخ جيل مونسيرون في حديث خص به وأج ليتناول هذه الصفحة المأساوية التي شكلت منعرجا حاسما في تاريخ الكفاح الوطني و كذا حول تنكر فرنسا لتلك الجرائم الاستعمارية. سؤال: في ال8 ماي 1945 قام الوطنيون الجزائريون بتنظيم مظاهرات سلمية بكل من سطيف و قالمة و خراطة. في أي ظروف جرت و لماذا تم قمعها بعنف على يد الشرطة الاستعمارية و من هو المسؤول الحقيقي عن ذلك القمع و كيف تحولت تلك المظاهرات إلى انتفاضة؟ جواب: كان الهدف من المظاهرات التي قام بها الوطنيون الجزائريونبسطيف و قالمة إشراك العلم الجزائري مع اعلام الحلفاء المنتصرين على ألمانيا النازية وهو الأمر الذي اعتبر مشروعا بما أن عديد الجزائريين قد شاركوا خلال عملية إنزال الحلفاء في نوفمبر 1942 في شمال إفريقيا في الحرب التي أدت إلى هزيمة ألمانيا. كما كانت تلك المظاهرات السلمية تندرج في إطار التحول الذي عرفته الحركة الوطنية التي تميزت بتأسيس أحباب البيان و الحرية الذي ضم مناضلي حزب الشعب الجزائري و حركة انتصار الحريات الديمقراطية الحزب الاستقلالي برئاسة مصالي الحاج و أولئك الذين بادروا الى بيان الشعب الجزائري مع فرحات عباس و المنتخبين الذين انضموا حديثا لفكرة استقلال البلاد. لقد رأى الجزائريون أن فرنسا قد هزمت على يد المانيا سنة 1940 و أنها لم تتحرر الا بمساعدة الأمريكيين و بالتالي اتضح انها ليست بتلك القوة وذلك ما أعطى الأمل باستقلال الجزائر لأولئك المناضلين الذين ما فتئ عددهم يتزايد. و ذلك ما بث الخوف في الأوساط الاستعمارية التي أرادت إبداء الحزم أمام ارتفاع عددهم فقد تدخلت الشرطة في سطيف وبعدها الجيش الفرنسي ضد حشود الوطنيين الجزائريين مما أدى إلى بث الاضطراب في أوساط المتظاهرين وقيام البعض منهم بأعمال عنيفة ضد الأوروبيين الذين صادفوهم أمامهم و الذين لم يكونوا جميعهم مسؤولين عن القمع. أما في قالمة فان السيناريو كان مختلفا حيث أن ميلشيات مكونة من مدنيين أوروبيين كانت المتسبب الرئيسي في القمع و هي الأعمال التي تم التحضير لها منذ وقت طويل و التي دامت شهرا ونصف الشهر. لقد صادف ال8 ماي 1945 يوم السوق الأسبوعي في سطيف و لما عاد فلاحو المناطق المجاورة إلى ديارهم و سردوا كيف هوجمت مواكب الجزائريين و قمعت أدى ذلك إلى نشوب اضطرابات فورية في القرى حيث تعرضت رموز القمع الاستعماري مثل مراكز الدرك الى الهجوم و كذا بعض المدنيين الأوروبيين المعزولين الذين لم يكونوا جميعهم من نشطاء المعمرين. تعرضت تلك الانتفاضة الريفية التي لم تكن دوما مؤطرة جيدا من قبل المناضيلن الوطنيين الى قمع وحشي على يد الجيش الفرنسي و ميليشيات استعمارية مما أدى الى سقوط آلاف القتلى في ظل قمع أعمى و همجي استخدمت فيه الطائرات و البحرية ضد المداشر واستمر ذلك لأسابيع عدة. سؤال: عينت لجنة تحقيق رسمية في 18 ماي 1945 تحت رئاسة الجنرال في الدرك بول توبار لتسليط الضوء على هذه المجازر . لماذا قطعت هذه اللجنة عملها ؟ ومن أمر بذلك؟ جواب: عندما وردت إلى وزير الداخلية ادريان تيكسي والى الجنرال ديغول رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية أخبار حول جسامة القمع الذي قامت به أكثر العناصر استبدادا تم تكليف الجنرال في الدرك بول توبار الذي شارك في المقاومة والعضو في اللجنة المركزية المؤقتة لرابطة حقوق الإنسان بالذهاب إلى عين المكان. وكان هدف هذه البعثة توقيف القمع إلا أن اللجنة لم تستطع مغادرة الجزائر العاصمة بعد أن مكثت فيها ستة أيام من 19 إلى 25 ماي. وطلب منها الحاكم العام للجزائر لتبرير الموقف انتظار عضو من البعثة الذي بقي في تلمسان. ولم تذهب البعثة إلى سطيف إلا في 25 ماي عندما انتهى كل شيئ. وبمجرد وصولها إلى سطيف تم استدعاؤها إلى الجزائر العاصمة في 26 ماي دون التوجه إلى قالمة لان القمع الذي شنته الميليشيات الأوروبية كان متواصلا. واستمر القمع شهرا كاملا حتى 25 جوان تاريخ وصول وزير الداخلية تيكسي إلى قالمة حيث سقطت أربعة أرواح إضافية. و هكذا كانت لجنة توبار تشكل تهديدا كانت تلوح به حكومة الجنرال ديغول المؤقتة لإيقاف القمع. ولكن هذه الحكومة نفسها عملت كل ما في وسعها لإخفائها ذلك أن التقرير الذي صمم الجنرال توبار تسليمه والذي كان ينص على الطابع الوحشي للقمع قد تم اختفاءه. سؤال: تنص اتفاقيات ايفيان على العفو على الجرائم الاستعمارية ومرتكبيها قبل التوقيع على الاتفاقات. هل أن هذا البند عادل في نظر القانون الدولي ؟ واليوم تتمادي فرنسا الرسمية في نكران الجرائم الاستعمارية المرتكبة في الجزائر. وهل أن الاعتراف بهذا الماضي الذي لايدعو إلى الافتخار قد يفتح نافذة على مستقبل أفضل بين البلدين ؟ جواب: وراء هذا اللاعقاب مشكل. عندما لا تتحرك العدالة بعد كل تلك الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان فهذا لا يبشر بالخير لان لهذا الأمر عواقب وآثارا ويتسبب في عودة العنف بسبب هذا اللاعقاب. ولكن المتفاوضون في ايفيان قبلوا العفو الذي ترك بصماته على مجريات التاريخ فيما بعد. في فرنسا التي كانت على شفا حرب أهلية حيث كان الأمر يتعلق بالقضاء علي العقيدة الاستعمارية التي كانت تؤمن بها المؤسسات الرسمية للبلاد فهذا العفو كان وسيلة لتفادي هذه الحرب والشروع في طي الصفحة. وتم تبني هذا العفو عن طريق استفتاء 8 ابريل 1962 وافق من خلاله الناخبون على اتفاقيات ايفيان . سمح ذلك في الجزائر بنسيان بعض تصرفات وسلوكات لبعض مجاهدين تنم أحيانا عن حكم استبدادي أو عدم احترام تعليمات جبهة التحرير الوطني. يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضا كون تقريبا كل مرتكبي الجرائم هم في عداد الموتى حيث أننا اليوم لا نحاكم إلا الأحياء حتى في حالات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. اذا يبدو لي في هذه الظروف أن الطلب القاضي بالاعتراف بالأحداث وبتسليط العدالة أمر بتطلب الاستعجال وقضية مشروعة أكثر من أي وقت مضى الا انه لا يمكن تحقيقه بالطرق القضائية. هذا الامر يقع على عاتق السلطات السياسية الفرنسية التي عليها ان تتطرق بكل وضوح لهذا الموضوع وان تسهل الوقوف على الاحداث بالتخلي عن النكران والسماح بالولوج الى الارشيف. ان الحاجة الى العدالة امر قائم بذاته ويفرض نفسه بالحاح ولكنني ارى انه يتعين اليوم على السياسيين والمؤرخين وليس على القضاة توفير هذه الحاجة. فرنسا الرسمية اليوم لم تعترف بعد بجرائمها الاستعمارية. هناك بعض البوادر و التصريحات صدرت عن سفراء فرنسيين في الجزائر ولكن لم تصدر تصريحات واضحة على لسان اعلى السلطات في الجمهورية الفرنسية في هذا الموضوع رغم التقدم الذي حصل مع الرئيس فرنسوا هولاند بمناسبة زيارته الرسمية إلى الجزائر في ديسمبر 2012. دون اعتراف واضح من قبل فرنسا بما سجلته صفحتها الاستعمارية من تناقض وخرق لمبادئ حقوق الإنسان ولما تؤمن به من مبادئ جمهورية لا يمكننا أن تتطلع إلى مستقبل أفضل بالنسبة لبلدينا. وإذا ما كانت فرنسا عاجزة عن ذلك فمرجعياتها لحقوق الإنسان لن تكون ذات مصداقية. وهذا لا يخص فقط العلاقات بين البلدين ولكن أيضا مسألة القطيعة في فرنسا ذاتها مع العنصرية الاستعمارية.