في ,1980 كنت قد تركت سيدي بلعباس إلى الجزائر العاصمة لأدرس بمعهد العلوم السياسية، عامان كانا مليئين بالصخب والعنف·· إضرابات الطلبة المعربين الذين كانوا ينادون بالتطبيق الفوري للتعريب في الجامعة والإدارة، واندلاع شرارة الربيع الأمازيغي بجامعة تيزي وزو، والجزائر العاصمة·· لم أكن أعرف شيئا من قبل عن الحركة الثقافية البربرية، لكن تلك التجمعات التي هزت الجامعة المركزية وتصاعد المطالب الإحتجاجية من طرف طلبة الحركة الثقافية فتح عيني على وضع جديد وتطور فضولي إلى الإحتكاك بقادة الحركة الذين تعرفت على بعضهم في الحي الجامعي بابن عكنون، وكان من بين هؤلاء القادة الذين دفعوني إلى الإلتزام بالقضية الأمازيغية، مصطفى باشا المدعو غافروش، كان ذو سحنة سمراء وشعر حريري ناعم، وشخصية لها الكثير من القوة والتأثير والسحر، وصالح بوكريف الخطيب اللامع الذي كان يلهب الجموع، وكان لباسه التارواكار يجعل منه شخصية شبيهة بلينين، ومحمد راشدي، الشاب المتحمس، ذو الذكاء الخارق، والجاذبية التي كانت تميز طريقته في مخاطبة جماهير الطلبة، ونشاطه اليساري والثوري·· في تلك الأثناء التقيت بكاتب ياسين من جديد، الذي كان قد عاد من سيدي بلعباس، إلى إقامته بالمركز العائلي بابن عكنون ليمكث فيه أكثر الأوقات·· شعرت بفرحة مجددة عندما جمعني القدر معه مرة أخرى·· قال لي، وأنا أزوره هل أنت سعيد كونك بالعاصمة·· فأكدت له فرحتي بانخراطي في تلك الحركة الثقافية العامة، التي كانت بالجامعة، عرض علي أن أمكث عنده، ووجدت ذلك ممتعا لأنه وفر لي فرصة لم أكن أحلم بها، وهي وجودي شبه اليومي بقرب هذا الكاتب الكبير، في ذلك الحين، كان له سائق، وهو صديق قديم لكاتب ياسين، لكن هذا الأخير سرعان ما اعتذر لكاتب بسبب ظروفه العائلية، وهذا ما جعل كاتب ياسين يعطي الفرصة لشاب، كان من نشطاء الحركة الثقافية البربرية، وكان عضوا بفرقة دبزة الملتزمة التي كانت تنشط في مجال الأغنية الإحتجاجية، والسياسية، وكان هذا الشاب عاملا بسيطا بالرويبة، لكنه ترك وظيفته والتحق كسائق لدى كاتب ياسين، الذي لم تكن لديه رخصة سياقة·· ولم يكن يعرف قيادة السيارة·· تعرفت على هذا الشاب في إقامة كاتب ياسين، وكان يدعى مرزوق·· وتحول تعارفنا إلى صداقة كبيرة، كان جذعها المشترك كاتب ياسين·· كانت إقامة كاتب ياسين مكونة من أوول مفتوح على مطبخ، وغرفة نوم، كان يضع فيها كاتب ياسين معظم كتبه وأوراقه وثلاث حقائب تحتوي على كل ملابسه·· وفي الأوول كان سريرا حديديا مزدوجا، بينما كانت جدران البيت مثبتة فيها لوحة كبيرة شبه سوريالية، كانت محاولة اقتراب من الوجه الأسطوري لنجمة·· وعلى الطاولة كان ثمة تمثال متوسط الحجم للأمير عبد القادر·· وكانت ثمة طاولة حديدية حولها مجموعة من الكراسي·· كنت أنام في أعلى السرير بينما كان مرزوق ينام في السرير السفلي، أما ابن كاتب ياسين أمازيغ فكان يجيء إلى البيت كل نهاية أسبوع ليرى والده الذي كان مر على طلاقه بزوجته زبيدة عدة سنوات·· كانت إقامة ياسين بابن عكنون دائما عامرة بالزوار والزائرات، وكان معظمهم من الطلبة والمثقفين والصحفيين الأجانب والفنانين والرفاق والأصدقاء القدامى·· كانوا يأتون إلى البيت محملين بالهدايا البسيطة والشرائط الموسيقية وزجاجات الخمور·· ولم يكن كاتب ياسين يرد أي أحد من هؤلاء الضيوف، حيث يكون بعضهم في أغلب الأحيان مثيرين للإزعاج والقلق، كانوا يأتون دون مواعيد مسبقة إلى حيث كاتب ياسين في كل الأوقات، في النهار، والليل والساعات المتأخرة من الليل، يأتي بعضهم مخمورا يبحث عن مأوى ليقضي ليلته ويأتي البعض الآخر ليرهق كاتب ياسين بالكلام الطويل والثرثرة، ويأتي آخرون ليتباهوا أمام صديقاتهن، أنهم أصدقاء كاتب ياسين، وكان كاتب ياسين، دائما مرحبا، وصامتا ومنصتا للشباب الذين كانوا ينزلون من أعالي الدشر القبائلية، وكان بعضهم ينخرط في الحديث مع كاتب ياسين بالقبائلية، لإعتقاده أن كاتب ياسين قبائليا، لكن هذا الأخير برغم انخراطه الكبير في النضال من أجل الأمازيغية لم يكن يفهمها، ولم يكن يتكلم بها·· وفي تلك الأيام التي اشتدت فيها المواجهة بين السلطة ورجال الأمن ومناضلي الحركة الثقافية، أقيم تجمع ضخم بالجامعة المركزية نشطه كل من الروائي مولود معمري صاحب ''الربوة المنسية'' وكاتب ياسين واللغوي سالم شاكر·· يومها تعرفت على أحد الوجوه البارزة في الحركة الثقافية البربرية رمضان حاكم ويومها تحدث كاتب ياسين عن حرب عصابات ثقافية من طراز جديد، يقودها جيل الأمل والحرية·· التفت قوات التدخل السريع حول الجامعة، بينما ارتفعت أصوات الطلبة المحتجين، منددة بالقمع وبسلطة الرئيس الشاذلي بن جديد··