تحصلت على شهادة البكالوريا في العام 1979، ويومها كنت موزعا بين دراسة الأدب والاقتصاد والسياسة··· كنت أرغب في التوجه إلى الجزائر العاصمة بدل وهران·· كنت أعتقد أن الحياة الثقافية في العاصمة أكثر إغراء من وهران·· وكنت أرغب كذلك في التعرّف على عالم جديد من الصديقات والأصدقاء، وشاءت الصدفة أن عينت ضمن جامعيين من سيدي بلعباس للمشاركة في أول تظاهرة للجامعة الصيفية ببومرداس، اتصل بي في تلك الفترة أحد مسؤولي الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، وأخبرني أنه بفضل النتيجة الجيدة التي تحصلت عليها في البكالوريا أني سأكون ضمن الفريق المختار الذي سيشارك في الجامعة الصيفية·· أخذت القطار، وكانت معي بعض الكتب لهيجل وماركس، المجموعة التي كانت معي، كلهم طلبة في كلية الطب، سألني أحدهم أين أدرس، فقلت له، أني تحصلت على شهادة البكالوريا هذه الصائفة، شعرت بالوحدة وأنا أنتظر رفقتهم القطار المتوجه من سيدي بلعباس إلى محطة تليلات، ثم إلى الجزائر العاصمة·· كانت المرة الثانية التي سأرى فيها العاصمة، وكانت المرة الأولى عندما كنت لاعبا قويا في فريق لوناكو للعدو، وكان ذلك عام ,.1977 كان اليوم، 5 جويلية، وكانت الساعة الخامسة عندما وصل القطار إلى محطة سيدي بلعباس قادما من تلمسان·· صدفة تحدثت معي فتاة من العفرون، وكنت رفقة محافظ شرطة، سألتني إن كنت متوجها إلى العاصمة فأجبتها ببراءة أن نعم، فنظرت إلى محافظ الشرطة وشكرته، وبعد ذلك روت لي أنها كانت في حمام بوحنيفية وتعرّضت إلى اعتداء أنقذها منه ذلك المحافظ في الشرطة، سألتني عن مهنتي فقلت لها بأني تحصلت هذا الصيف على شهادة البكالوريا، وقضينا الوقت معا طيلة الطريق إلى وهران·· لم تنزل الفتاة العفرونية في العفرون بل جاءت معي إلى العاصمة·· ولم ننم طيلة سير القطار، ظللنا نتحدث عن المسرح، والرياضة والأدب، وسألتها عن مهنتها فقالت لي أنها تشتغل ممرضة في العفرون، ودعتني عندما نزلنا من القطار ووضعت على خدي قبلة وطلبت مني عنواني، وأعطيتها العنوان، وأعطتني عنوانها، وقالت لي كم تمنت أن أذهب معها إلى خالتها في حسين داي، لكنني اعتذرت لها، ووعدتها أن نلتقي، لكن في الحقيقة لم نلتق منذ تلك اللحظة·· لا أدري إن كانت على قيد الحياة، وماذا أصبح مصيرها··· التقى بنا شاب اسمه مراد أمام المطعم الجامعي عميروش، ثم قدم لنا زملاءه·· لكنه استعمل رفاق··· وفهمت فيما بعد أنهم كانوا من مناضلي حزب الطليعة الاشتراكية الشيوعي والذي كان ينشط في السر·· اكتشفت بومرداس لأول مرة·· كانت عامرة بالطلبة من كل جهات الوطن، اقترحوا علينا المساهمة في تنشيط تلك الأيام، فاقترحت عليهم محاضرة حول الأغنية العربية وتوجهاتها العاطفية، واستغرب أولئك الطلبة القادمين من كلية الطب بسيدي بلعباس، مثل هذا الاقتراح، وبعد المحاضرة التي أثارت الكثير من النقاش، سألني أحد المؤطرين عن انتمائي السياسي فقلت له أنني دون انتماء، وعندئذ طرح عليّ الانضمام إلى حزب الطليعة الاشتراكية ونصحني أن أختار العلوم السياسية، وبفضله قررت الدخول إلى المسابقة ونجحت·· وعندما اندلعت أحداث الربيع الأمازيغي ثارت في رأسي عدة تساؤلات، وكنت بالصدفة في تيزي وزو عند صديق بضواحي واد عيسي عندما اندلعت الأحداث·· والتقيت بعدها بأيام بكاتب ياسين وسالم شاكر في الجامعة المركزية، وغضبت عندما أصدر حزب الطليعة الاشتراكية بيانا يدين فيه الأحداث، وكان هذا السبب الرئيسي في عدم انضمامي إلى حزب الطليعة الاشتراكية وأصبحت من أنصار الربيع البربري اكتشفت عدة وجوه، صاروا فيما بعد أصدقائي، مثل الراحلين صالح بوكريف، ومصطفى باشا، وأيضا بزة الذي ابتعد الآن عن السياسة، ورابح بلهوان الذي كان من منشطي فرقة الدبزة، وفتحت مثل هذه الأحداث عيوني على البعد الأمازيغي للثقافة الجزائرية ودفعتني إلى نهج النضال من أجل الحريات الديمقراطية، والآن هاهي ذكرى الربيع الأمازيعي تعود من جديد بعد ثلاثين سنة، ما الذي تغيّر في الرجال والأفكار؟! طبعا الكثير، فالبعض من المناضلين تحوّلوا إلى حزبيين، لكنهم تخلوا عن الأفكار واليوتوبيا التي كانت تحركهم، فأصبحوا أصناما جددا، عملوا على إعادة إنتاج النظام الواحد داخل أحزابهم، والبعض الآخر اختار الصمت والابتعاد عن السياسة والبعض الآخر هاجر·· وثلة قليلة واصلت بأشكال أخرى الدفاع عن تلك الجزائر المتعددة والجميلة التي ستصنع ذات يوم···