تعرفت إليها في أخريات زماني، حيث بدأت حركتي تثقل ونفسي تميل إلى الدعة·· كان ذلك أواخر عام ,2002 إذ حضرت من المشرق بترتيب مع رئيس تحرير جريدة ''اليوم'' الزميل خضير بوقايلة لأمر يتعلق بشأن الجريدة.. ولما حضرت وجدت أنه لم يتفاهم مع مديرها العام والشريك فيها آنذاك الزميل نصري الدين علوي·· بل وجدتني في عالم بعيد جدا عن عالم هذا المدير، وأيقنت أنها زمالة لن تدوم·· فأجواء الجريدة مضطربة سواء في قاعة التحرير حيث تتأخر رواتب المحررين ضمن ظاهرة صحفية جزائرية منفردة عن صحف العرب والعجم ولا يستطيع شبان الصحافة الجزائرية ومعظمهم راغب في العمل وفي التكوين، لها فهما أو دفعا· وتضطرب الأجواء بين مديرها والشركاء الذين لا أعرفهم·· فأخذت أكتب في جريدة عربية وبنفس الوقت بدأت أنسحب بالتدريج وأوكل مهام القسم الإقتصادي الذي أسند إلي لزميلة ذات مواهب كتابية متميزة، ولفت إليها نظر الزميل بوقايلة·· فهي تكتب فعلا حيث لا ثرثرة ولا مطولات ولا غموض كعادة معظم صحفيينا في الكتابة اليومية·· فخير الكلام ما قل ودل والصيد كل الصيد في جوف الفرا إذ أنها تقدم لك القصة الصحفية بكل أجوبة أسئلتها ولا تخلط بين القصة والتعليق، وكما تحدد المعلومة تحدد الرقم·· فلا تجد في نصها الكليشيهات التي اعتاد عليها كثير من صحافيينا الشباب مثل (ربما يكون قد) و(رقما معتبرا).. وغير ذلك من العبارات التي توحي بأن الصحفي غير واثق من معلومته·· وتكتب نصها بخط رقعي واضح وجميل ينم عن وضوح أفكارها وهدوء أعصابها، بينما خطوط شبابنا تخلط بين النسخ والرقعة وتتشابك لدرجة أنك تحس أن بعضهم يشطب أكثر مما يكتب، كما لا تجد فيه تلك الأخطاء الإملائية والنحوية التي تعج بها نصوص صحفيينا الشباب الذين ينتجون نصوصهم اليومية على عجل· فرؤساء التحرير عندنا مضطرون لإغلاق صفحاتهم على السابعة مساء·· حتى يسلمونها على الثامنة وإلا لن تصدر الجريدة فمطبعة السحب (الوسط) تعاني من ازدحام شديد، فالذين خططوا لتوسيع الصحف عندنا نسوا أن كثرة العناوين يلزمها وفرة في المطابع وسعة في الإشهار، فاضطربت الأمور وعاشت صحافتنا وبالأخص التي تصدر بالعربية أياما فيها الكثير من الضنك وهي تطمح إلى الألق·· ولم تمر أسابيع إلا وكنت قد انسحبت إلى سكن أسكنني إياه مؤقتا في حي ميسوني، مالكه وهو من المعارف في البويرة، وما هي إلا أيام حتى انسحب مدير التحرير الأستاذ احميدة العياشي، وتلاه رئيس التحرير خضير بوقايلة·· وتمكن الزميل علوي من تدبير أمره في الخليج العربي· وظللت ألتقي بتلك الزميلة غنية قبي في المناسبات التي يلتقي فيها الصحفيون وهم يبحثون عن خبر أوندوة أو مؤتمر في هذا المكان أوذاك، والزميلة غنية قبي واحدة من الذين سحبتهم مهنة المتاعب إليها من اختصاصاتهم الراقية، فهي مهندسة دولة في الهندسة المدنية، عملت في ميدانها طويلا، ولم أسأل أم أسامة عن سبب اختيارها مهنة الشقاء هذه·· لعلمي بأن هذه المهنة تختار أشقياءها أكثر مما يختارونها·· تشقيهم بها وهم يظنون أنهم يسعدون·. مهنة فيها من العجب والتعب أكثر مما فيها من الفرح والطرب·· فكم من زملاء في الصحافة العربية مشرقا ومغربا جرتهم إليها ولما أخطأوا بحرف جر، جرتهم الأنظمة، ولما كسروا المنصوب كسرت رؤوسهم في الأقبية·· مهنة قضيت عمري فيها وأنا أتجنب أهوالها·· فذقت منها الكثير وشربت من مرارة كأسها الكثير ومع ذلك أحمد الله على الفوز من الغنيمة بالإياب·· وهكذا لم أسأل الزميلة شيئا عن سبب تركها عالم التصميم والهندسة الهادئ والأنيق أو على الأقل البقاء في عالم الترجمة والكتابة للأطفال وعالمهم البرئ بدلا من الإعلام، عالم التلاعب بالعقل البشري عبر لغة يتلاعب بها في الجزائر على أيدي لاعبين لا تعرف هل هم يلعبون أم يلعب بهم·· فالكل في هذ ا العالم يركض في ملعب لا يدري ماهي مساحته، ويفتش عن هدف لا يعرف أين موقعه·· وطوت الأيام تلك المرحلة لأدخل مرحلة جديدة من أهوال هذه المهنة وفجأة إذا بالسيدة غنية قبي تزورني رفقة زوجها الأستاذ حسن في دار المسنين، وتسلمني دعوة لحضور نشاط ثقافي·· كم كانت تلك المفاجأة جميلة·· فها أنا مازلت حيا أرزق ومن الممكن دعوتي لنشاط ما، وتأتيني الدعوة من سيدة أكن لها كل الاحترام· كانت هي أيضا قد انسحبت من ''اليوم'' وتجولت مثلي بين عناوين كثيرة·· فالصحافة الجزائرية كالأحزاب الجزائرية كل يوم هي في شان، ويدور ناسها فيها كما تدور حبة القهوة في محماسها يتلوون ويكتوون من جنب إلى جنب· ووجدت في غنية قبي طوال محنتي تلك أختا حانية وفي زوجها السيد حسن أخا عطوفا يزوراني في مواعيد منتظمة، وأسعد بولديهما الجميلين أسامة ونجيب·· لقد خففت هذه الأسرة من ظلمة تلك الأيام وعبوسها· وجاءتني ذات يوم مع رفيقتها الزميلة سهيلة ماغي تقولان: أن صديقك الكاتب العراقي جمعة اللامي هنا في الجزائر وسأل عنك ساعة نزوله في المطار، وذهبنا إليه في فندق ''السفير'' حيث كان مدعوا من طرف جمعية الجاحظية للقيام بنشاط ثقافي هو أهل له وسعدنا كلنا برفقة هذا الصديق القادم من تلك الأيام التي كانت عربية· وحين قررت الهجرة مجددا إلى دمشق عام ,2008 فوجئت بنص جميل تكتبه مع زميلة إذاعية لها حيث انتقلت غنية قبي إلى الإذاعة الدولية·· نشرته ''الجزائر نيوز'' وتطلبان مني أن لا أغادر·· فلم يعد للترحال أنفاس تقوى عليه· وما زلت على اتصال بالزميلة أم أسامة حتى اللحظة أستشيرها في بعض أمري وتطمئن وزوجها على أحوالي، فهي قد كونت أسرة فيها رجاحة الرأي ونسيج المودة وشفافة الروح، ولعل هذا الجمع بين دقة المسطرة ورزانة القلم وجمال الفن هو الذي أعطى غنية كل هذا الدفق الإنساني·· فكم تبدو الدنيا جميلة من روحها·