الأخبار القادمة من تونس تتحدث عن عشرات القتلى، أوصلتها بعض المصادر إلى الخمسين· وعلى الرغم من الجدار المتين الذي يقيمه النظام بين ما يحدث وبين الرأي العام العالمي، فإن اعتراف الحكومة بسقوط ثمانية قتلى، وحده كاف للتدليل على خطورة الوضع· والذين لهم إحاطة بالتاريخ المعاصر لتونس، أي منذ الاستقلال، يعرفون أن ثورة الشارع ما كانت لتكون لولا أن الطلاق حدث فعلا بين الحاكمين والمحكومين، لا يختلف الأمر، في ذلك، بين تونس وسائر البلاد العربية· الفرق الوحيد هو أن الطلاق التونسي يقدم لنا في صورة إصرار المجتمع على التحول من حال إلى حال· الملاحظة الأولى تتعلق بالاتجاه الذي اتخذه استعمال القوة· فحسب الأخبار القليلة المتسربة يكون النظام هو أول من استعمل العنف استعمالا يتناسب عكسيا مع الطريقة التي اختارها الشارع للتعبير عن مطالبه: التظاهر السلمي· ومنطقي جدا أن تواجه كل أنواع التظاهر بالقوة والعنف في بلد تمنع فيه كل أنواع التجمعات وكل أنواع التعبير المناهض للفكرة التي يسوقها النظام عن نفسه من خلال القنوات المحدودة المعروفة: صحافة حكومية وصحافة خاصة لا حق لها في الخوض في السياسة إلا في الاتجاه الذي يفرضه الرئيس والحزب الحاكم· والحقيقة أن استعمال العنف، في كل أشكاله، كان ديدن السلطة في تونس في كل الأوقات· وكانت الحركات الاحتجاجية المحدودة في السنوات الماضية عن طريق بعض الشخصيات في قطاعي الصحافة والقضاء (المحاماة)، وبعض مناضلي حقوق الإنسان، مقدمات وإشارات تحذير، ولكن النظام لم يفهم منها شيئا، فقمعها· وكان يعتقد أن قمعها هو الدرس الوحيد الممكن لكل من تسول نفسه· حتى إذا انفجرت على نطاق أوسع، ما كان من بن علي وأجهزته إلا أن صعدت من استعمال القوة·· إلى اليوم الذي دفنت فيه ثورة الشارع أولى شهدائها· وعند ذلك الحد رفع الخوف·· فسقط الثاني والثالث والعاشر·· وانتشر ذلك الشعار الذي رفعه أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر· والملاحظة الثانية أن الشارع التونسي لا يحس باليتم وهو يواجه الرصاص·· لم تعد القضية قضية شارع جائع بطال، ولكنها قضية مجتمع يبحث عن آفاق أخرى· مجتمع يبحث عن الحرية والتعددية·· مجتمع يتطلع إلى الديمقراطية· ويمكن أن نطمئن إلى هذا التحليل إذا عرفنا أن تونس تسجل أدنى مستويات الأمية المعروفة في العالم العربي، وربما أدناها في كل بلاد العالم الثالث، مع استثناءات قليلة، تثبت القاعدة ولا تنفيها· لقد أدركت النخب التونسية أن البلاد تستطيع أن ترقى إلى مرتبة أكبر وتصل إلى رقي حقيقي بشرط أن يتغير النظام أو أن يغير النظام من طرائق تسييره وأن يفسح مجال ممارسة الحرية على نطاق ما يسمح به المنطق وما تفرضه الطبيعة وما تطيقه أيضا·