إن الإعلام الحر المستقل من شأنه أن يلعب دورا حيويا في حفز ودعم الجهود من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وإشاعة قيم الحكم الرشيد وثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن فرص بناء إعلام حر في العالم العربي تتطلب توافر بيئة سياسية حاضنة تقوم على احترام حرية الرأي والتعبير والتعددية وتوافر أطر قانونية وديمقراطية تضمن استقلال المؤسسات والمنابر الإعلامية وتعطي الحق للإعلاميين في ممارسة دورهم المهني دون مراقبة مسبقة أو ضغوط سياسية أو أمنية أو مالية ودون ضغوط وإكراهات مجتمعية، وتكفل للإعلام الحق في الوصول إلى المعلومات والبيانات والوثائق الحكومية، هذا في وقت تشهد فيه المنطقة العربية خلال هذه السنوات الأخيرة تصدر قضايا الإصلاح الديمقراطي وتحسين إدارة الحكم مكانة أعلى نسبيا على الصعيد الرسمي، عبّرت عنه مبادرات ووثائق وإعلانات عديدة سواء على الأصعدة الوطنية أو في إطار النظام الإقليمي العربي، وهو ما يحمل في حد ذاته مؤشرا إيجابيا على إقرار الحكومات العربية عامة بالحاجة إلى إدخال إصلاحات ضرورية في هذا المجال· ومع هذا، فإن كثير من الالتزامات التي عبرت عنها حكومات المنطقة عبر المبادرات الرسمية المتعددة لم تترجم إلى جهود فعلية ملموسة تلبي التوقعات والتطلعات المنشودة للمجتمعات من أجل الإصلاح الديمقراطي والحكم الرشيد، ولم تجد تعبيرها في برامج وخطط عملية مربوطة بتوقيتات زمنية لتعزيز قيم المشاركة والشفافية والمحاسبية، حيث لم تقم أي من البلدان العربية بإصلاحات دستورية تحد من الاحتكار الأبدي للسلطة وتعيد التوازن في العلاقة بين السلطات وتضمن استقلال أي منها على الأخرى، وتضع حدا لتغول السلطة التنفيذية على سلطة الرقابة والتشريع، وتحول دون تدخلها في شؤون العدالة وتلزمها باحترام القضاء والخضوع للقانون· كما لم تتخذ حكومات البلدان العربية إجراءات تشريعية تؤدي إلى إكمال آليات الشفافية والمحاسبية سواء فيما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام وحريات التعبير عموما المحاصرة بحكم هائل من النصوص العقابية والعقوبات المغلظة السالبة للحرية التي تقف عائقا أمام النقاش الحر للسياسات والسلوك الحكومي، وتجعل من تصدي وسائل الإعلام للانحرافات والفساد واستغلال النفوذ مغامرة محفوفة بالمخاطر· ولم تتخل أغلب حكومات البلدان العربية عن هيمنتها شبه المطلقة على وسائل الإعلام السمعي والبصري أو تخفف من القيود الصارمة على حرية إصدار الصحف أو تمتنع عن تطبيق سياسات انتقائية في الدعم المالي المقدم للصحف أو في توزيع حصص الإعلانات التي تظل حكرا على الحكومة توجهها للصحف الأكثر مسايرة لسياساتها، كما لا ننسى دائما بأن تحسين إدارة الحكم وتلبية استحقاقات الحكم الصالح والرشيد لن يأتي إلا في إطار برامج عملية وجادة للإصلاح السياسي والديمقراطي في مختلف البلدان العربية· ومن أجل ذلك كله، فإن العديد من الأمور التي يجب على الحكومات العربية القيام بها، منها تفعيل برامج عامة للإصلاح الدستوري والتشريعي من أجل: إكمال مبادئ الفصل بين السلطات ووضع حد للهيمنة المطلقة للسلطة التنفيذية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية· إرساء الدعائم الأساسية لاستقلال القضاء وحصانة وتمكين القضاة من إنشاء منظماتهم النقابية المستقلة والانضمام إليها طواعية· ضمان التداول الديمقراطي للسلطة والمؤسسات التمثيلية عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى أساس تعددي تكفل خلالها فرص متكافئة للمتنافسين وتحديد سقف زمني لبقاء شاغلي المناصب العليا في الحكم· منح المجلسين التشريعيين صلاحيات كافية لتفعيل دورها في الرقابة على الأداء الحكومي واستخدام الآليات البرلمانية المتعارف عليها في البلدان الديمقراطية لعزيز ضمانات الشفافية والمساءلة والمحاسبية· تكريس مبدأ خضوع الدولة للقانون بما يضمن إخضاع التجاوزات والانحرافات والخروقات التي تمارس من قبل أجهزة الدولة وموظفيها العموميين للمحاسبة والعقاب· إطلاق حرية تأسيس الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية ورفع القيود على أنشطتها وإفساح المجال لدورها في صنع السياسات أو التأثير عليها ومراقبة وتقييم الأداء الحكومي في شتى المجالات· إطلاق المبادرات التشريعية لتفعيل دور الإعلام في دعم الحكم الرشيد، وذلك عن طريق المراجعة الشاملة للتشريعات الإعلامية العربية وتخليصها من النصوص والتعبيرات الفضفاضة وغير المنضبطة التي تسمح بتحريم حرية تداول الأفكار والآراء والمعلومات ووضع حدود فاصلة بين جرائم السب والقذف والإهانة وبين حق النقد الذي ينبغي أن يكون مباحا، وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم الصحافة والنشر وحظر التوقيف والحبس الاحتياطي في الجرائم المتعلقة بحرية إبداء الرأي، وإطلاق حرية إصدار الصحف والحق في تملكها دون قيود وإلغاء كافة أشكال الرقابة المسبقة على الصحف، وحظر إيقافها إداريا من دون حكم قضائي، وإلغاء نظام الترخيص المسبق في عملية إصدار الصحف والعودة إلى نظام الإخطار، وضمان حق الصحفيين في الوصول إلى مصادر المعلومات وكفالة حقهم في الحفاظ على سرية مصادرهم، واعتماد عقوبات مناسبة على المسؤولين والهيئات التي تعوق حق الصحفي في الوصول إلى المعلومات، هذا مع الإقرار القانوني بحق الصحفيين والإعلاميين في انتقاد المؤسسات العمومية والمنتخبة والشخصيات العامة في ما يخص ممارستها لمهامها ورفع القيود عن حرية التنظيم النقابي للمشتغلين في حقل الإعلام دون تدخلات حكومية وضمان تعدد البنى النقابية، وحظر العضوية الإلزامية في النقابات كشرط لممارسة المهنة، هذا مع إعادة النظر في التشريعات التي تبنتها بعض الحكومات لمكافحة ما يسمى بالإرهاب للحيلولة دون استخدام نصوصها في تقييد الحريات الإعلامية وحرية الرأي والتعبير عموما، هذا مع العمل على إعادة تنظيم المجال السمعي والبصري بصورة تعزز التعددية والتنافسية والتعبير وإطلاق حرية إنشاء محطات البث الإذاعي والتلفزيوني وإلغاء القيود المغالى فيها للترخيص بإنشاء هذه المحطات، وإيلاء صلاحية الترخيص إلى مجلس وطني للإعلام المرئي يضم في عضويته ممثلين عن النقابات المعنية بحرية الإعلام وشخصيات عامة يتم اختيارها على أسس ديمقراطية وتعزيز استقلالية هذه المجالس، وتمتعها بصلاحيات فعلية في مراقبة محتوى البث وتقييمه وإلغاء صلاحيات وزارات الإعلام أو مجالس الوزراء في توقيف وسائل الإعلام عن البث وإيلاء هذه الصلاحيات إلى المحاكم المختصة، هذا كله مع القيام بما يلي: تعزيز قيم الإعلام الحر والدفاع عن حرية الرأي والتعبير وتطوير آليات مشتركة للتضامن والتنسيق في التصدي للانتهاكات والقيود على حرية الإعلام، وتبني برامج فعالة لتدريب الإعلاميين والإرتقاء بالأداء المهني وبأوضاع المشتغلين في حقل الصحافة والإعلام، وتحسين شروط عملهم بما يؤمن عدم خضوعهم لتأثيرات الضغوط الاقتصادية والتدخلات الإدارية والشروط التعاقدية المجحفة، هذا مع تشجيع إنشاء مؤسسات معنية بتقديم العون القانوني والقضائي للمشتغلين في حقل الإعلام ومساندة وتدعيم المبادرات المحلية والإقليمية التي تهدف إلى إنشاء مرصد إعلامي إقليمي وتشجيع حقل الصحافة والإعلام وتحسين شروط عملهم بما يؤمن عدم خضوعهم لتأثيرات الضغوط الاقتصادية والتدخلات الإدارية والشروط التعاقدية المجحفة، هذا مع تشجيع إنشاء مؤسسات معنية بتقديم العون القانوني والقضائي للمشتغلين في حقل الإعلام ومساندة وتدعيم المبادرات المحلية والإقليمية التي تهدف إلى إنشاء مرصد إعلامي إقليمي وتشجيع إنشاء مراصد وطنية لرصد الانتهاكات التي يتعرّض لها العاملون في حقل الإعلام من جهة، وتقييم الأداء الإعلامي في حفز التطور الديمقراطي وإرساء قيم حقوق الإنسان وتعزيز الحكم الرشيد· تقييم مدى إتساق البنية التشريعية في البلدان العربية مع المعايير الدولية للإعلام الحر وإعداد تشريعات بديلة تلبي التطلعات إلى إعلام تعددي مستقل وحر، وتنفيذ برامج متعددة لتقديم المساعدة القانونية للإعلاميين بما في ذلك تدريب محامين متخصصين للدفاع عن الإعلاميين المتعرضين لخسارة حريتهم نتيجة قيامهم بعملهم أو إبداء آرائهم، فضلا عن تقديم الاستشارات القانونية السابقة على النشر للإعلاميين لمساعدتهم على التعبير عن آرائهم دون التعرّض لعقاب القانون، ويشمل ذلك البدء في تأسيس شبكة من المدافعين العرب عن حرية الإعلام وإنشاء شبكة من مراكز المساعدة القانونية في مختلف العواصم العربية· تنفيذ برامج لتدريب أعضاء البرلمانات العربية لدعم مهاراتهم في مجال الصياغات التشريعية بشكل عام وصياغة القوانين الحاكمة لحرية التعبير والترخيص لوسائل الإعلام بشكل خاص وتقديم مساعدات فنية للمؤسسات الراغبة في تنفيذ برامج للكشف عن الفساد ووضع مؤشرات لقياسه، وتقييم مدى التقدم في مكافحته وتنفيذ برامج لتدريب الإعلاميين على آليات الكشف عن الفساد وتوثيق المعلومات حوله، ونشر تقارير حوله بمختلف وسائل النشر بما فيها شبكة المعلومات الدولية، زيادة على تنفيذ برامج لتدريب القضاة على استخدام المواثيق الدولية التي صادقت عليها دولهم في أعمالهم وتعميم قواعد الفقه الدولي في التعامل مع قضايا حرية التعبير ووسائل الإعلام ومعاونتهم على استخدامها في أحكامهم وقراراتهم·