إن الإيجابيات في حياة حرم المسؤول الأول في البلاد هي فرص التغيير والصعوبات التي تكمن في المسؤوليات الكبيرة التي تلقى على عاتق المرأة في هذا الموقع، إضافة إلى غياب الخصوصية، فليس لها حرية التحرك، ولا حرية مطلقة لها، حياتها لا تصبح ملكه بل تصبح ملكا للآخرين، وقتها كله معدود ومبرمج من الصباح إلى المساء على الأوراق، هذه الأوراق ترافق حرم المسؤول الأول في البلاد ليلا ونهارا في اجتماعاتها وجلساتها وحتى في أوقات الراحة القليلة التي تفوز بها حيث أن حياتها كسيدة أولى في البلاد لا وقت فيها للاستمتاع بنزهة أو جلسة هادئة ويصير العمل نفسه متعتها الأساسية خصوصا إذا كان العمل يثمر إنجازات، وهذا ما يزيدها حماسة يوما بعد يوم، حيث تقوم مبكرة فتتناول فطور صباحها، ثم تلقي أول نظرة سريعة على جدول أعمال يومها الجديد، ثم تبدأ عملها منذ العاشرة صباحا والمتمثل في النشاطات والاجتماعات والاستقبالات حتى الثانية بعد الظهر، ثم فترة الراحة، وتناول الغذاء ليس شرطا أن يكون مع زوجها المسؤول الأول في البلاد، ثم تستأنف عملها بعد السادسة، اجتماعات مجالس إدارة واستقبالات حتى العاشرة ليلا، وعند الحادية عشر تخلد إلى النوم وقبل الخلود إلى النوم تجلس مع زوجها تتحدث معه في شؤون البلاد ومشاكل المجتمع ويشاهدان معا آخر النشرات الإخبارية، هذه هي حياة المرأة السياسية التي تدرك تماما الطريق الذي تسلكه والتحديات التي تنتظرها. هذا وعيها بحجم المسوولية الملقاة على عاتقها وتعمل على مساندة قضايا وطنية وإقليمية ملحة، قربها من الشرائح الاجتماعية أكثر من زوجها يساعدها على القيام بواجبها وإطلاق المشاريع الاجتماعية والعمل في المجال الاجتماعي وتنقل لزوجها هموم ومشاكل المجتمع الذي تعيش فيه ومسؤوليته واقعة على عاتق زوجها، هذا مع العمل على تثقيف المجتمع وتعريفه بأهمية مشاركة المرأة في الحياة السياسية لأن هذه المشاركة مرهونة بمدى وعي المجتمع، أقول هذا وأنا أتابع أحداث تونس الشقيقة حيث أبناؤها الأبرار الذين فجروا هذه الثورة وتتحرروا من ديكتاتورية رئيسهم الفار إلى المملكة العربية السعودية وهم الآن يتهمون سيدة قرطاج الأولى بالسرقة والفساد، وأنا أتابع أحداث سيدة قرطاج الفارة إلى بلد من بلدان الخليج تذكرت يوم قررت فيه زرقاء باكستان التي تم اغتيالها في إحدى التجمعات في بلدها بعد العودة إلى باكستان لقيادة المعارضة، والفارق كبير بين العائد إلى بلده ليخدمه والهارب من بلده بعد أن خربه، كانت تدرك هذه السيدة الزرقاء بأن نجاح مهمتها مرتبط بنجاح الوصول إلى أرض الوطن، والوطن لدى هذه السيدة هو باكستان كله لأن المعارضة من خارج الوطن لا تأتي بنتيجة، فكان لا بد لها من الإنظلاق من داخل الوطن فاختارت العودة واستقبلت بتظاهرات الاحتجاج على إعدام والدها شنقا عام 1979 وانتصرت بنازير بوتو بهذا الاختيار، فتحول الاستقبال إلى مظاهرة سياسية لم يحظ بها أي خصم من خصومها، وهذا ما أرغم السلطة في ذلك الوقت على إعلان تنظيم انتخابات مسبقة، وهذا ما فرض على المرأة الزرقاء بنازير بوتو القيام من فراش الأمومة حيث تركت رضيعها الذي ولد مع موت ضياء الحق وخرجت في جولة في أرجاء باكستان الفسيحة، وأظهرت هذه السيدة معارضة مرنة وحاسمة وناضجة قلما تتوفر في غيرها من معارضات العالم الثالث، وقد تعلمت منها هذا النوع من المعارضة وتمنيت وقتها لو كنت سفيرا في بلدها فأجالسها أو ضحفيا فأحاورها، ولا أذهب بعيدا فالانتخابات قد جرت ووصفت بأنها انتخابات كل الاحتمالات لكنها لم تكن انتخابات العودة إلى الجد وعودة باكستان إلى تقاليدها الديمقراطية، وهي تخطو نحو مستقبل مجهول ومليء بالتخوفات والتناقضات، فالزعيمة الشابة استطاعت أن تنقذ بلدها وهي معتمدة في تجربتها المعقدة على تراث نساء آسيا القويات، فإذا كانت كوراسون التي انتقمت لزوجها المقتول في الفلبين وبعد ثلاث سنوات من هذه التجربة تجربة كوراسون أكينو ظهرت بنازير بوتو في باكستان وهي تعبئ الجماهير الباكستانية وتسوقهم إلى صناديق الاقتراع بكثير من الفرح لنفض غبار الماضي، الغبار عن الشعب الباكستاني ومن أجل باكستان ديمقراطي ومحايد، فباكستان الذي يقع بين القوى الكبرى المتطاحنة الهند والصين والاتحاد السوفياتي ومن بعيد الولايت المتحدةالأمريكية، هو لوحة تتركب من أجزاء لا يمكن توفير التنافس فيها بينها إلا بكثير من الهدوء والدقة والحنكة حتى أن أي تسرع أو حماس فائض قد يؤدي إلى تبعثر هذه الأجزاء، وبنازير التي عرفت كيف تهاجم جنرالا بحجم ضياء الحق في عقر داره عرفت أيضا كيف تكسب الشارع وتجمع صفوف شعبها وتحمي بلادها من الانزلاق إلى الفوضى، فقد بدت كسيدة خبيرة باللعبة الدولية وبأساليب مداخلها ومخارجها، إنها امرأة أخرى من آسيا تحلم بالسلطة شبيهة بأكينو وأفتح قوس هنا وحتى هذه السيدة، يعني أكينو الفليبينية، قد قرأت قصة حياتها السياسية أيام المدرسة اليوسفية وأنا الآن على دراية بجزء من مناقبها السياسية، وأغلق القوس وأعود فأقول أو شبيهة بأنديرا غاندي كما أنها كانت معجبة بسيدة بنغلاديش سكينة الرحمان أو متلهفة للعبة السيدة سيريلا نكاباندا نيكة هكذا كان يقول معارضوها، وأنا كنت معجب بهذه السيدة الزرقاء في هذه المرحلة التي أخذت فيها تجربة قيادة المعارضة من جهة والعمل السياسي الواعي للوصول إلى هرم السلطة وقيادة شعبها إلى بر الأمان هذا ومع أن رجال الدين وعلم الفلك ومتعبدو باكستان كانوا يقولون عنها أنها امرأة مسلمة في بلد مسلم بيد أن ذلك لم يحبط من عزيمتها كما لم يفكك قوة شعبيتها التي ردت على أولئك جميعا وإذا كنا نريد بلدا علمانيا فلا فرق بين امرأة ورجل واستمرت المناقشات وقتا طويلا وكاد معارضوها في بلدها أن يمنعوها من الترشح وهبت عاصفة من أعدائها لتكفيرها ولكن هناك عاصفة مضادة انطلقت لصالحها وهي تستند إلى الدستور الباكستاني الذي لا يمنع ترشيح المرأة لقيادة البلاد، وهكذا نجحت بنازير بوتو في مشوارها الأول نحو قمة السلطة، وهكذا استمرت هذه السيدة في العمل على تحقيق مطالب مائة مليون نسمة في وقتها (أعداء + أنصار) في بلدها هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن معانيها الأساسية لمعركتها في الميدان السياسي وانتصارها فيها لم تعتبرها مجرد انتقام ولا وصولها إلى كرسي ضياء الحق هدفا في حد ذاته حتى لا تعيد لعبة المحاور التي أنهك بها ضياء الحق بلاده، وأن لا تخضع أو ترضخ لعلاقات مشبوهة أو مساومات على استغلال البلاد وتوجهها العلماني وباختصار لا تكون هذه السيدة لعبة في يد القبائل والجيش والقوى الكبرى، إن هذا هو المقياس الوحيد لهذه المرأة التي اختارت الطرق الوعرة لإكمال حياتها حيث كان من الصعب عليها تحقيق برنامج ينقذ باكستان مما تردت إليه ومواجهة المعارضة الداخلية والخارجية وتوحيد المعارضة أو إقناعها بالتعاون في سبيل باكستان ديمقراطي وأن المعارضة قوية يمكنها أن تلعب دور القامع لأية إصلاحات تحدثها السيدة الزرقاء، وفي خضم هذه المسيرة الطويلة التي كان على بنازير بوتو قطعها تظل المبادرة في يد الجيش لأن مؤسسة الجيش رغم إعلان حيادها خلال الانتخابات إلا أنها ستكون يقظة وحذرة لكل ما يجري في باكستان خاصة وأنها تعتبر نفسها السلطة الأبوية الأولى، وهذا ما هو موجود في كل بلدان العالم الثلاث، فهي التي حمت الاستقلال وأنقذته حين تعرضت البلاد لاهتزازات إقليمية، وهي الشرعية التي تجعل من الجيش القوة العليا التي بإمكانها أن تقطع مسيرة بنازير بوتو إذا ما بدت هذه السيدة متهورة أو مستعجلة أو متطرفة في خياراتها، وألا ترتكب أخطاء في برنامجها وألا تترك فيه ثغرة وعدم السماح لتراجع حماس أنصارها أمام التحديات التي تنتظرها خاصة القوى المحيطة بباكستان كما أنه عليها ألا تجعل باكستان بلدا محايدا ومنضبطا وأن يكون جدارا ثابتا أمام القوى العالمية المحيطة بها والعمل على إخراج بلدها من دائرة التخلف عن طريق ربط باكستان بالتكنولوجيا هذه الروح هي التي تتميز بها الإبنة بنازير بوتو وهي ملتحفة بلحافها وصاعدة إلى القطار ونازلة من شاحنة وداخلة إلى السوق وخارجة من المدرسة وكلها إشعاع أنثوي يعد الجميع بالخصب والخصوبة وبالرفق والنعومة وتبني أفكار جديدة وإصلاحات حقيقية لأنه لا يكفي أن تكون امرأة ذات مهابة ونسب وجمال في موقع السلطة حتى ينتهي ذلك التوتر ويتبدد ذلك القلق في بلد إسمه باكستان وفي الأخير قدمت حياتها خدمة لبلدها وسيدة تونس خربت بلدها وفرت بنفسها.