يبدو أن سؤال الهوية كإشكال وكمفهوم دال موغل في الإشارات والدلالات والرموز مغري إلى حد بعيد بالنقاش والسجال، ومجال فسيح ومفتوح للتعبير عنه بصيغ مختلفة وبمرجعيات متعددة ومتنوعة ومختلفة أيضا، منها من يرقى إلى مستوى وجهات النظر إذا كان متقدما في المعرفة ومنها من يظل أسير زاوية نظر ليس إلا· هذا عند الحديث عن الهوية بشكلها العام، خصوصا عند الشعوب والأمم والدول التي تعيش حياة موضوعية في تقاطعها مع الواقع والوقائع معا عبر التراكم الجدلي والدياليكتيكي لحيوات الناس على أرضهم· لكن عندما يتعلق الأمر بالهوية الوطنية الفلسطينية وبحكم المخاطر المحدقة بها، ليس الآن، ولكن منذ وجود الاحتلال الصهيوني وعلى وجه التحديد والدقة منذ وجود ظاهرة الحركة الصهيونية، أسميها ظاهرة لأن الجوهر الحي للظاهرة هي أنها تظهر وتختفي وهذا ما يجب أن يحدث لهذه الحركة الغاصبة والمحتلة وتنتفي من الوجود نهائيا، وهذا لا يتأتى إلا بفعل ارتفاع وتيرة المقاومة الممانعة لكل نهج ''تسووي'' يلعب لعبة النرد السياسي مع العدو بلا طائل ولا نتائج تذكر للأسف· وللتذكير فالحركة الصهيونية بدأت إرهاصاتها الأولى قبل وعد بلفور السيئ الذكر سنة ,1917 فالتغلغل الصهيوني في المغرب كان واردا وموجودا في نهاية القرن التاسع من القرن العشرين، ولنا أن نتصور كيف كان هذا التغلغل في أوروبا الاستعمارية وأمريكا التي كانت تستعد لتصبح قوة مهيمنة كبرى بعد أن حسمت صراعاتها الداخلية، وأضحت فيما بعد الأداة الأساسية للتوسعات الامبريالية في كل أرجاء المعمور· والمحصلة أن الأخطار المحدقة بالهوية الوطنية الفلسطينية بدأت مع هذه المؤثرات الخارجية، وهذا لا يمنع من وجود مؤثرات داخلية، ونحن نتحدث عن راهن الهوية الفلسطينية كمفهوم إجرائي أجرأته تبدأ بتقاطعه مع المعطيات الموضوعية للواقع الفلسطيني في الداخل، في المنافي، وفي الشتات· وهي المعطيات المرتبطة عضويا بالمجالات العامة لحياة الشعب الفلسطيني المحتلة أرضه غصبا، ونحددها في كل ما هو ثقافي وحضاري واجتماعي واقتصادي وسياسي، جغرافي وتاريخي أو بصيغة أخرى الوضع الذي توجد عليه الهوية الوطنية الفلسطينية التي تتفاعل إيجابا وسلبا مع تحولات وتراكمات ومسارات النضال الوطني الفلسطيني ضد المحتل والغاصب الصهيوني، الإيجابي منها الذي يجب أن يتبلور ويتطور استراتيجيا وتكتيكيا باعتباره الضامن لمواصلة فعل المقاومة التي تعني تحرير الأرض تحت أي طائل أو ظرف مهما كانت دقته وخطورته - ولم يحدث في تاريخ المقاومة الفلسطينية أن مرت بظروف غير دقيقة وخطيرة - والسلبي الذي يهدد المقاومة في جوهر هويتها المكافحة والممانعة· وحتى لا ندع مجال التنظير- ولو أنه من الأهمية بمكان بالنسبة لكل حركات التحرر- يستأثر باهتمامنا بصلب الموضوع، يجب القول وبمنتهى الصراحة والشفافية والمصداقية أيضا، أن الفساد والتعصب والتطبيع وهو الثالوث الرهيب الذي يشكل أكبر خطر على مسار ثورة وشعب برمته، ويمس بالهوية والقضية معا وبشكل مباشر وقاتل· - الفساد: ونعني به وعلى وضوح الأمر والموضوع كل الأثر السلبي على المال العام للشعب الفلسطيني وأيا كانت الجهة الآمرة بصرفه سلطة أو أحزابا أو منظمات أو أفرادا·· فلا فرق· - التعصب: ونعني به كل من يتوهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، أو يمتلك خريطة الخلاص، أو جهاز التحكم عن قرب أو بعد في مسارات القضية الفلسطينية وتطوراتها، وإمكانياتها في التعاطي مع المستقبل وآفاقه· - التطبيع: ونعني به الآلية الشرسة التي تكرس واقع الهوة السحيقة بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وكل مكونات حركات التحرر وأحرار العالم أفرادا ومؤسسات· وهي بمعنى آخر جدار عازل خطير ورهيب- أخطر وأفظع من جدار العار والفصل العازل، والصيغة ليست للمبالغة مطلقا- لأنه لا مرئي وغير ثابت في مكان محدد، ومن هنا شراسة خطورته· وعندما نتحدث عن الفساد أو التعصب أو التطبيع فلا نعني جهة أو طرفا محددا ولا ننزه آخر أو نستثني أحدا، بقدر ما نعني الذي يحدث على الأرض الفلسطينية والعربية، العربية المقصود بها الدول المطبعة مع العدو سرا وعلانية بما فيها المؤسسات الاقتصادية والاستثمارية أو الأشخاص في مجال الإعلام والفن والثقافة وللأسف الشديد والبالغ فالأمثلة والأسماء كثيرة· وحتى على مستوى الصراع الدائر في الساحة الفلسطينية بين فتح وحماس ولسنوات، للأسف، كم يلزمنا من أسف إذن- أي قبل العدوان على غزة يهدد وبشكل مباشر الهوية الوطنية الفلسطينية في صميمها وأي نتائج أو حصيلة أو تداعيات لهذا الصراع أو هذه ''الحرب القاتلة'' تساهم بشكل أو بأخر في تأثيرها السلبي على الهوية الوطنية الفلسطينية وتضعف جانبا أساسيا في معنوياتها التي يجب أن تظل عالية لتواصل فعلها المقاوم لإلغاء العدو من أرضنا ووجودنا· وأي نعرة صراع حتى وإن كان هامشيا عدا صراع المعرفة والفكر ووجهات النظر الذي يدخل في باب الاختلاف ورحمته يؤدي نفس البعد الوظيفي وهو المساس المباشر بالهوية الوطنية الفلسطينية· الخلاصة أن الهوية كقضية وسؤال وإشكال في آن لأي شعب وأيا كان أيضا تتفاعل مع قضايا مجتمعه ومحيطه وكل مجالاته الحيوية، تتأثر وتؤثر ودائما سلبا وإيجابا أو العكس، وهذا ما يحدث للهوية الفلسطينية الوطنية المفتوحة على التعدد والتنوع والاختلاف وفقا لتركيباتها الاجتماعية والمجتمعية ووفق ما تعرفه من تحولات وتمظهرات وتجليات وتناقضات، ولصيانة هذه الهوية من المحو والإتلاف والاندثار والسقوط في شرك ومصيدة الكيان الصهيوني الذي يعمل بكل أساليبه للنيل من هذه الهوية الوطنية الفلسطينية، كما أنه يعمل وبكل ما أوتي من وسائل الإغراء والارتشاء على طمسها، يظل فعل المقاومة هو الخيار والاختيار الاستراتيجي لصد العدو من تحقيق أهدافه· وحدة الصف الوطني الفلسطيني بكل مكوناته وفصائله وأحزابه ورموزه وقادته وقواعده بإدراكها العلمي والنقدي للتناقض المباشر والعدو المباشر، هي الأساس في صيانة الهوية الوطنية الفلسطينية من كل المخاطر المحدقة بها·