قبل سنتين التقيت بهذا الشخص المربك في العاصمة بيروت بمناسبة ندوة الرواية والنقد، ثم التقيت به للمرة الثانية في مدينة قرطاج في الذكرى المئوية لمحمود المسعدي· لم يتغير· ظلّ ودودا وخفيفا ومضيافا ومتألقا في رؤاه المؤسسة على زاد معرفي متنوع· كان يتحدّث كالمطر، بتواضع نادر وبتردد، بعيدا عن اليقينيات، رغم عدد مؤلفاته وحضوره الدولي· وكانت هذه الأسئلة حول السرد والحداثة والوهم المستورد ومأزق الكتابة· الأستاذ الدكتور مصطفى الكيلاني، لا شك أنك لاحظت، كروائي وناقد وأكاديمي، أن السرديات العربية تعيش بعض الاستيلاب بالعودة إلى تشكلاتها التي لا تحيل على هوية واضحة المعالم، بقدر ما تحيل، في عدة حالات، على نمذجة بحاجة إلى مساءلات، وأقصد ها هنا النموذج العربي الذي أنتج في سياقات مغايرة··· يصعب علينا أن نجيب بدقة لعدة أسباب· هناك تداخل بين ألوان السرد، قديمه وحديثه، سابقه ولاحقه· يمكن الجزم، تقريبا، بأن الرواية هي جنس أدبي غربي من حيث المنشأ والتنامي حد الانتشار العالمي، إلا أن جينيالوجيا هذا الجنس تحيل على نصوص سردية مختلفة، ومن ثقافات مختلفة، ومن أبرزها السرد العربي، وألف ليلة وليلة على الخصوص، باعتبار هذا النص يصل بين المشافهة والكتابية، ثم إن لهذا الأثر العربي الإسلامي أهمية بالغة في البعد الجمالي الأدبي وتقنيات الكتابة السردية الحادثة، وأذكر منها تحديدا تقنيتي التضمين والاستطراد اللتين تحيلان على تراث شفوي من ثقافات مختلفة (الهندية، الفارسية، العربية) في مختلف الأطوار التاريخية وتبعا للاستعمال الغربي، المتعدد هو الآخر، وكأن العرب صدّروا السرد، أو بعضا من السرد كي يوردوه عن طريق فن الرواية الحديثة· والحيرة الأسلوبية بخصوص أداء السرد الروائي العربي تعود -حسب تقديري المتواضع- إلى ارتباك في المعرفة التاريخية، بالمعنى الجمالي، فيما يتعلق بمراجع هذا الفن، أي الفن الروائي، السابق ثم اللاحق، في كل من الأداء الكتابي والفعل الاستقبالي· يمكن للرواية العربية ولكتابها تجاوز البعض الكثير من فخاخ المسبق، المفهومي والأسلوبي، والاقتداء بتاريخ الرواية الأمريكية اللاتينية، على سبيل المثال، لا الحصر، إن طرحوا موضوع الخصوصية التي لا تتعارض وتاريخ السرد العام، الكوني والأداء السردي العربي، قديما وحديثا، ولذلك نحن اليوم في مفترق الطرق، بين تجريبية باهتة تقطع مع هذه الأصول المذكورة، سواء كانت عربية - إسلامية أو غيرها، بمفهوم تعدد الثقافات، وبين التقليد المجحف، بصفة واعية أو لا واعية أحيانا قليلا لألوان الكتابة الغربية، وحتى الأمريكية اللاتينية· في هذا السياق تحديدا، ثمة مشكلة يمكن الإلحاح عليها باستمرار: ثنائية المُقيس والمَقيس، هل يجب أن نقيس دائما منتوجا محليا بمقاييس غربية محضة؟ ما يؤدي إلى ملابسة تشمل فن الرواية وكل الخطابات، اللغوية وغير اللغوية، إن لم يتعدّ الأمر إلى خصوصيات أخرى، كالعقيدة والمواطنة والسياسة والحياة اليومية وغيرها· نحن نقيس حياتنا وثقافتنا بقياسات قد تسهم في محونا أو في القضاء على خصوصياتنا، مع أن الخصوصية جوهر· لاحظت في الندوة المخصصة لمئوية محمود المسعدي التي نظمها بيت الحكمة التونسية طرحا أتّفق معه تمام الاتفاق، وهو للصديق الدكتور السعيد بوطاجين، وهو ينضم إلى مجموع أصوات نقاد عرب للسرد وللأدب وللفنون عامة، وأعتز بالانتماء، أنا شخصيا، إلى هؤلاء· ومفاد هذا الطرح التنبيه، حدّ التحذير، إلى أخطار التجميعية الباهتة، فإننا نحيل على المراكمة السلبية التي تظهر أيضا في ملخصات مبسترة لفكر الآخر، الغربي، وقتل روح التوهج والتعدد بالاجتزاء ونقل المقولات النقدية الغربية من سياقاتها المختلفة معرفيا والزّج بها في سياق تلفيقي يوهم بتحديث النقد الأدبي، وهو في صميم ثقافة الجمود التي سادت قرونا في ثقافتنا العربية - الإسلامية· علينا اليوم أن نعيد النظر في الخطة (الإستراتيجية) التي نقرأ بها نصوصنا الأدبية، والسردية منها تحديدا، ما دام السؤال المطروح يخصها· كيف نحرّر الذائقة الأدبية من عقلها فننتصر لإبداعية النص بدءا، ثم نستضيء بالمفاهيم النقدية التراثية والغربية بفعل المزاوجة والتوليد، وبالرجوع إلى النص لأنه المعني الأول بالقراءة· أعتقد أنه لا يمكن لذائقة فنية متحررة ومبدعة أن تكون من غير ثقافة واسعة وعميقة تستفيد من المراجع الفكرية، الفلسفية والنقدية والأدبية، لأن النص، أي نص، هو في الواقع والمرجع فسيفساء نصوص، بعضها يظهر وبعضها يختفي قليلا، وبعضها الآخر يحتجب· هذا بمنظور ثقافة القراءة ومدى اقتدارها على معرفة قطع هذا البناء الفسيفسائي المتحرك وراء ساكن ظاهر النص· ما ينتظر النقد الأدبي ونقد الفنون عامة، في ثقافتنا العربية، لا يختلف في الطرح الجوهري مع اشتغالات الحقول المعرفية الأخرى· مرة أخرى أكرر: نحن أمام تحد معرفي كبير· كيف؟ التخلص من ثقافة التجميع والتلفيق والمراكمة العاجزة عن إحداث إبدال حاسم لظاهر تراكميتها وواقع شتاتها وانقسامها· نحن أمام إبداعات أدبية وفنية تزاحم ثقافات الشعوب الأخرى وتنافسها، إلا أن الفكر النقدي المصاحب لها، والفكر عامة فكرنا نحن، لا يرقيان إلى مستوى هذه الإبداعات، والسبب أن المجال الإبداعي هو أقرب إلى العفوية والأداء الحدسي ومخزون التجارب والتأثر بالوقائع المعيشة، في حين أن الفكر هو مجهود صعب يستدعي المؤسسة، بل إن الأفكار تخيف، إن لم أقل إنها ترعب مؤسسات القرار المرجعية· وقد تلتجئ هذه المؤسسات إلى استخدام الذهنية السائدة ضد الأفكار الجديدة الساعية إلى البناء والتأسيس، بالتخوين أو التكفير· لذا أرى أن النقد الأدبي أصعب من النقد العام، وخاصة النقدين السياسي والاجتماعي، ولا يمكن للنقد عامة أن ينمو ويتقوى من غير إطلاق للحريات الفردية، مثلما يستحيل تطور الأفكار في مجال النقد الأدبي والفني عامة، دون مراجعة جذرية لآليات اشتغال المؤسسات المعنية به، الجامعات ومراكز البحث المختلفة، وهي لم تتحرر إلى حد الآن من كثير العادات السيئة الناتجة عن عدم استقلاليتها وخضوعها لبرامج لا يمكن أن تدفع إنتاج الأفكار الجديدة كالتي أشرنا إليها آنفا· سأحدثك كمبدع وناقد، كما سأحدثك كأكاديمي متميز له معرفة بواقع السرد العربي، مكوناته وهيئته ومساره وأفقه· ألا ترى بأننا سعينا، بكتاباتنا المختلفة، إلى الانفصال عن المحيط، سواء كنا كلاسيكيين أو حداثيين، ما أدى إلى تهجير القارئ أو تصديره إلى نصوص تبدو في جوهرها، نصوصا موجهة إلى هذا الآخر الذي استوردنا منه تقنيات الكتابة وهذه الحداثة الغامضة، أو التي لا تقنع كثيرا بالنظر إلى هشاشة مقوماتها ومسارها؟ نحن نعيش، اليوم، زمن تراجع ثقافة الكتاب عامة، إضافة إلى ضمور عدد القراء للأسباب المعلومة المتمثلة في سلطة وسائل الإعلام الحديثة· وكما أوضح ريجيس دوبري في تحقيب تاريخ الميديولوجيا العام، فإننا ننتمي اليوم تحديدا إلى المجال التلفازي بعد كل من المجال الكلامي والمجال الكتابي ومجال الفيديو، وللصورة تأثيرها البالغ· بل إن صورة ضوئية قد تؤثر بصفة فورية في ملايين، بل مليارات البشر· وقد يفوق هذا التأثير بصورة واحدة تأثير كتاب أو أكثر من كتاب· السلطة اليوم، بالإضافة إلى ما ذكرنا، هي للنجومية، للحيني أو الآني، للمصلحة الحينية كذلك· السلطة لسماء أخرى، غير السماء الميتافيزيقية، أي لسلطة الأقمار الاصطناعية ومليارات الصور· بديهي أن تتراجع سلطة الكتاب ومفهوم القيم والتواصل الأفقي، بل إن الاتصال اليوم، الذي يوهم بالتواصل، يعاديه في الكثير من الأوجه، فرغم كثرة وسائل الاتصال الحديثة التي تفترض تناميا في التواصل، فإن ما يحدث هو تفريخ الوهم أحيانا كثيرة بالحوار، لأن الفردية قد تعرّضت إلى التشويه بفرط الاستخدام الفرداني، إذ الحواس البشرية والإنسانية اختصرت في حاسة واحدة، هي العين· وكان اصطفافها وراء هذه العين مع خفض درجات التفكير إلى أدناها لانتصار الصورة على الفكرة والمصلحة على القيمة والاتصال الظاهر على التواصل· لكن هذا المشهد الموصوف، وهو مأسوي، كما يبدو، لا ينفي استمرار وجود الكتاب كقيمة ثقافية مرجعية، إذ المعلومة لا تعني فائدة في المحصل النهائي من غير فكرة ترفدها، وإذا غاب الكتاب في أداء حقل من حقول الاتصال الحديث والمعرفة والتعليم والثقافة وغيرها، فإن ما يحدث هو البتر والاجتزاء وانتفاء المعنى وغياب أفق لأي أداء مقتدر على تغيير واقع ما· نعم، تراجعت القراءة في بعض الأوساط، ولكنها حاضرة في أوساط أخرى· لا شك أن موضوع الكتاب في حد ذاته ساعد على التخفيض من عدد الكتاب وضاءل من اهتمامات القراء في زمن عولمي جعل الكتّاب أنفسهم لا يتّجهون إلا قليلا إلى هموم هؤلاء القراء وقضاياهم اليومية والوجودية· على الرواية هنا أن تضطلع بدور التوجه، أو مزيد التوجه إلى هذه الهموم والقضايا· لأنّ الرواية، حسب تصريح عدد من الناشرين، هي الفن الأدبي الأقرب إلى عموم القراء، وللسرد بهجته وسحره· فكيف للرواية أن تتجاوز التجريبية الباهتة والاقتداء الأعمى بالرواية الغربية وتتجه أكثر فأكثر إلى حياة الفرد والمجموعة؟ سيكون ذلك بأساليب تستفيد من تأثير الصورة والوقائع اليومية واعتماد لغة أكثر بساطة وتوهجا إنسانيا· المشكلة أحيانا كثيرة هي في الأساس تواصلية، فكأنّ بعض الروائيين يتّجهون بالخطاب إلى أنفسهم، أو لعلّهم يخاطبون أناسا من غير مجتمعاتنا· فكيف لهؤلاء الخروج من حوار الذات المغلقة إلى حوار منبسط، مفتوح على الذوات القارئة الأخرى! يدّعي بعض السرد العربي حداثة في الشكل، وقد يبدو في عدة حالات غير موصول بذاته، ولعل ذلك مرده انتفاء الحلقية المعروفة في السرد الغربي الذي لم يجرّب خارج الأصول والامتدادات المنطقية التي أنتجته، بداية من الكنيسة إلى الفلسفة إلى التجربة، دون إلغاء الموروث الذي ظلّ دعامته القاعدية ونقطة ارتكازه·· أشير هاهنا إلى التأثر والتجاوز· المقايسة بين الحداثة الغربية ومشروع التحديث من موقعنا هي مقايسة خاطئة في الأساس، لأننا نتصور نموذجا منمطا جاهزا ذا حداثة واحدة يمكن تطبيقها على كل المجتمعات، في حين يتضح من الإحالة على سائر تاريخ المجتمعات الغربية والشرقية (الآسيوية) أن لكل منها حداثة ذات خصوصية ثقافية وتأثير لوقائع مجتمعية محددة، شأن الذات، بالمعنى الفردي أو الجمعي هي ذوات، إذ الأنا الفردي أو الجمعي لا يكون واقعا وفعلا وجوديا إلاّ بالأنت، حسب مارتن بوبر، والقول بهذا الازدواج لا يراد به التعميم أيضا، لأن الأنا مخصوص بذاته، وبهذا الأنت الخاص الذي يختلف من نواة ذات مرجعية إلى ذات أخرى· بديهي أن نذهب إلى القول التقليدي دائما بأن ما تحقق في الغرب، عودا إلى تاريخ نهضته، فحداثته وما بعد حداثته، وصولا إلى مأزقه، بل مآزقه الراهنة، لا يمكن أن يعاد أو يستعاد على شاكلة مماثلة في عالمنا العربي، وفي مجتمعاتنا تحديدا· يبدو لي أن مشروع الذات يعود إلى أزمنة ماضية، والصراع، بل التغالب قائم بين الجذب والنبذ، بين العقل والخرافة، بين الإرادة والعجز، بين الإبداع والمنجز والحاضر، بين السياسي والاجتماعي وغيرهما، إلا أن الغلبة كانت لقوة الجذب، الرجوع إلى سلطة الواحد ورفض المتعدد والمختلف، فلا اختلاف في ماهية الوقائع بين السالف والحادث· لذا فإن هذا المشروع -الحداثة- حداثتنا، يعود ليظهر على شاكلة جديدة وبطرح مختلف لعله أوضح من الأزمنة السابقة نتيجة التفاعل بين وجودنا والوجودات الأخرى· وللاستعمار في وجهه الآخر أهمية، رغم سلبياته التي لا تحصى في إحداث الصدمة داخل الذات، ذاتنا الجمعية المتلبسة، فكان سؤال التحديث وضرورته، دفاعا عن هذا الوجود المهدد بالاضمحلال· لذا نقول إن الطرح الحداثي في حياتنا الثقافية العربية - الإسلامية، الحديثة والمعاصرة، مرّ بمراحل مختصرة، سريعة، بدءا برد الفعل الذي تزامن والكفاحات الوطنية العربية، ومرورا إلى ما يسمى بناء الدول المنطقية، إلى يومنا هذا في ظل الكوارث الحادثة، الناتجة عن العولمة والليبرالية الجديدة المتوحشة· فما الذي قضى ارتباك هذا المشروع التحديثي؟ هل يعود ذلك إلى المراكمة في الوقائع والأفكار والبرامج وغيرها التي بدت عاجزة إلى حد الآن عن إحداث الإبدال أو إنشاء التحوّل نحو واقع جديد نحقق به حداثتنا الكاملة، لا الحداثة المغشوشة؟ وهل للآخر دور في تعطيل إنجاح هذا الإبدال؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا نعتقد تقريبا بأن مشروعنا التحديثي قائم، إلا أنه مرجأ· وإلى أي حد زمني سيكون هذا الإرجاء؟ المسألة تبدو لي غاية في التعقيد وتستدعي جهودا بحثية مختلفة من مواقع اختصاص متعددة· لا يمكن الشك في وجود ذات، هي ذاتنا القومية، تبعا لخصوصيات البلدان العربية المختلفة· إلا أن هذه الذات، كانت ولا تزال، لأسباب كثيرة، حبيسة وضع إشكالي، بين إرادة الانطلاق وقوة الجذب والتقييد، نواة لذات لها تاريخها، ثقافتها، خصائص وجودها المختلف، قوية بوهنها، عاجزة بقوتها، وكأنها محكومة بالشتات، تبحث لها عن قوة للقوة، وذلك ما يدفع إلى القول بضرورة الوصل بين مفهوم الذات الجمعية في علاقتها بالذات الفردية، إلا أنه لا نجاعة لحداثة تسلّم بالجماعة والإجماع وتنفي وجود الفرد· ولعل الفصل بين هذين المفهومين، أي حداثة الفرد وحداثة الجماعة، وبين الذات الفردية والذات الجمعية، هو الذي ساعد على تعطيل إنجاح مشروع التحديث الذي ذكرناه· فما الفائدة من بناء عام يهمّش الفرد ويحاصر حريته ويقضي تهميشه؟ الحداثة، حداثتنا المرجوة لا يمكن أن تكون إلا بإطلاق سراح الفرد والاعتقاد في جدوى الفردية، وإلا فإننا سنواصل انتهاج سبيل الحداثة المغشوشة التي أضرّت بوجودنا في الماضي البعيد وفي الماضي القريب·· وفي هذا الزمن أيضا·