تكاد العديد من الدول المنغلقة وخاصة ذات الطابع الجملكي منها في الوطن العربي تنفرد بظاهرة إجبار إطاراتها الشابة وكفاءاتها المتميزة خصوصا على التقاعد المبكر سواء في الحقل المدني أو العسكري، وهي ما تزال بعد في قمة العطاء. ويعرف الكثير من الإطارات من وزراء ونواب وولاة ومديرين على جميع المستويات وكفاءات متميزة بل ومسؤولين في مختلف أجهزة الدولة في هذا البلد أو ذاك وإطارات أحزاب ومنتخبين ومسؤولين تنفيذيين هذا المصير، خصوصا ممن تكون لهم شخصية كاريزمية متميزة أو ممن يعارضون بعض التوجهات المشبوهة أو التسيير العشوائي لبعض المسؤولين في شتى المواقع. ففي الجزائر نجد أن الرئيس بوتفليقة نفسه لم يسلم من هذه الظاهرة، حيث أجبرته الظروف التي صاحبت وفاة رفيق دربه الرئيس الراحل هواري بومدين على التقاعد المبكر، وهو ما يزال بعد في عز الشباب، إذ لم يكن قد تجاوز آنذاك ال 41 عاما، وهذا نتيجة الصراع على السلطة وعلى خلافة الراحل بومدين بين بعض رفقاء الأمس، ولم يحالفه الحظ ليكون في قمة هرم السلطة بالجزائر إلا بعد مضي عشرين عاما أي بعد أن تجاوز السن القانونية للتقاعد، حسبما ينص عليه القانون، وقد أمضى معظم تلك السنوات دون الإدلاء بأي تصريح كان، كما أن ثاني رئيس حكومة بعد دستور 1989 الذي أقر التعددية السياسية والإعلامية في الجزائر مولود حمروش، الذي كانت كل المعطيات تؤهله ليكون خليفة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد خصوصا لما يتميز به الرجل من مؤهلات عدة دخل هو الآخر مرحلة التقاعد المبكر منذ 1991، وهو في الأربعينيات من عمره. وتكاد هذه الحالة تميز حياة العديد من السياسيين الجزائريين الذين دخلوا أو أجبروا على التقاعد المبكر و هم في سن الشباب . وهذه الظاهرة ما تزال تلقي بعد بظلالها على الحكم، حيث تشعر الكثير من الإطارات السامية والكفاءات بالتهميش وتجبر أو تضطر إلى التقاعد المبكر لمجرد أن مسؤولا في مؤسسة ما يرى أن وجود هذا الشخص أو ذاك يحد من طموحاته الشخصية، ولذلك يجب زحزحته من موقعه وإرغامه لاحقا على التقاعد المبكر، تماما مثلما يعمل البعض ممن يحيط بهذا المسؤول أو ذاك على عزله عن الواقع وخلق لوبي مغلق من حوله، إذ تصبح من جرائه التعيينات وعمليات العزل والإقصاء تتم دون أدنى المعايير والمقاييس ودون وازع أخلاقي أو سند قانوني وربما بمبررات واهية. وكثيرا ما تطيح مثل هذه الحسابات المغلوطة بأصحابها أنفسهم، لأن الظلم إذا عم يجد الأرض الخصبة للثورة ضده وضد القائمين به. فعندما يضيق صدر بعض المسؤولين بالنقد ولو كان موضوعيا وتنتابهم الأنانيات الفردية ويسكنهم الغرور الزائد وحب التسلط، وحين يرفضون النصح والمشورة تجدهم يقدمون على قرارات بالعزل والإقصاء لخيرة الرجال والنساء وخصوصا الكفاءات الشابة التي لا تحسن التزلف وتكره التموقع المزيف على حساب شرفها وأخلاقها ووطنيتها. في ثمانينيات القرن الماضي، تولى وزارة الإعلام ببلادنا وزير لم تكن له أية دراية بالقطاع الذي أسند له، و راح ذلك المسؤول يستقبل مختلف الكفاءات العاملة بالقطاع في عملية قيل بأن الوزير يسعى من ورائها إلى أخذ فكرة عن قطاعه لتحديد استراتيجية مستقبلية لصالح القطاع. وتفاءل أهل الإعلام خيرا بالمبادرة واستحسنوا الفكرة وراحوا يهللون لها. لكنه يبدو أن ذلك المسؤول كان لا يريد سوى خلق انطباع بأنه جاد في تطوير القطاع، وهو قطاع يجب أن نقر بأن عين السلطة لم تتركه يوما في كامل حريته. واجتمع ذلك الوزير - رحمه الله - مع أحد الصحفيين الكبار معروف عنه صراحته وثقافته الموسوعية ومعروف عنه حدة لسانه ومجاهرته برأيه وعدم مجاملته لأي مسؤول كان. وبدلا من أن يستمع الوزير لرأي ذلك الصحفي الكبير راح يتحدث على امتداد ما يزيد عن ساعتين عن رؤيته ومشروعه لتطوير القطاع، وعندها ضاق صدر ذلك الصحفي الذي جاء حاملا مجموعة من الأوراق لتقديم رؤيته وخلاصة تجربته للوزير من أجل تطوير القطاع من كلام ذلك الوزير، وراح يقول له وهو يهمّ بالنهوض والخروج من مكتبه: اسمح لي سيدي الوزير أن أنهي المقابلة من جانبي بدلا من أن تنهيها أنت كما جرت العادة، لقد تصورتُ أنني جئتُ إليك لأعرض عليك رؤيتي لما يجب أن يكون عليه مستقبل الإعلام في بلادنا لا أن أستمع لكلامك على امتداد ساعتين!! وصفق الصحفي الكبير الباب وراءه تاركا الوزير مذهولا، وهو الذي لم يتعود إلا على المتزلفين الذين يمدحون في حضوره ويضحكون عنه في غيابه، وهي ظاهرة تكاد تكون حالة عامة في مشهد اليوم، للأسف، مع عدد من المسؤولين وبعض المحيطين بهم، إذ هم يستأثرون بالمسؤول حتى يحلبوه ثم ينقلبون عليه كلما اشتموا رائحة ضعفه أو انقلاب أطراف فاعلة ضده. ثم راح الصحفي يتحدث لكل من التقاه عن قصة لقائه بالوزير وكيف أنه أنهى الحديث معه نتيجة كلامه الفارغ! وبلغ ذلك مسامع الوزير، وزاد الوشاة كلاما آخر عنه ليشحنوا الوزير ضده، ويومها أصدر الوزير قراره بالتقاعد المسبق في حق الصحفي الكبير، بل ومنعه حتى من الدخول لتلك المؤسسة التي ظل يعمل بها منذ الاستقلال الذي كان أحد المجاهدين من أجل استعادته. وكان ذلك في حدود معلوماتي أول قرار بالتقاعد المسبق في حق صحفي جزائري كبير. وقد ذكرني هذا القرار بقصة مختلفة وقعت للصحفي المصري سعد زهران الذي كان يقوم بتدريسنا في الجامعة في مطلع السبعينيات فنيات التحرير الصحفي. كان هذا الصحفي المحسوب على التيار اليساري لاجئا بالجزائر منذ مطلع الستينيات بعد أن كان صحفيا بصحيفة الأهرام مثله مثل حسين عبد الرازق الذي عمل صحفيا هو الآخر بمجلة المجاهد الأسبوعي. ورغم المعارضة الشديدة للصحفيين لنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي زج بهما في السجن قبل أن يجدا في الجزائر الحضن الدافئ، فإن مرتبهما لم ينقطع عنهما في جريدة الأهرام التي كانت تابعة للنظام، وأكثر من هذا فإن مكتبيهما بالأهرام ظلا مغلقين إلى أن عادا لمصر بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات واستعادا مفاتيح مكتبيهما في نهاية السبعينيات. من المعروف أن المسؤوليات لا تمنح عادة إلا بعد تمحيص وتدقيق في ملفات المترشحين وفقا لمقاييس الكفاءة والتجربة وليس على أسس أخرى من الموالاة أو الجهة أو اللغة أو الاتجاه السياسي، لكن جل المسؤوليات صارت لا تمنح إلا بناء على منطق الولاء أو العلاقة الشخصية، وهو منطق يقبر الكفاءة ويجعلها في آخر سلم للارتقاء. فكثيرا ما يكون منطق الثقة واحدا من عوامل استغلال السلطة، كما حدث للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فرغم أن الرجل حقق قفزات كبيرة لصالح بلده ولفائدة الاقتصاد التونسي، إلا أن عامل الثقة الذي وضعه الرجل في بعض مقربيه وخاصة أصهاره وأقاربه قد جعل الفساد يكاد يعم في مختلف دواليب الدولة بعد أن استغل هؤلاء علاقتهم مع الرئيس وراحوا يقوون نفوذهم من أجل منافع شخصية وحتى عشائرية وعائلية. في السابق كان المسؤولون المرتشون يخافون من محيطهم ومن مؤسسات الدولة التي تحرص على رقابة المال العام وتحقق في أي مال مشتبه فيه واليوم انقلبت الموازين، وأصبح محيط بعض المسؤولين هم الذين يغرقون المسؤول في الفساد المالي وحتى الأخلاقي ليسهل انقياده والسيطرة عليه. ثم إن بعض المسؤولين صاروا لا يواجهون هذه الظاهرة، لأنهم يخافون على أبنائهم وعلى مستقبلهم هم بالذات، وهم يرون أن العديد من الإطارات والكفاءات النزيهة قد دخلت في تقاعد مبكر أو أحيلت على التهميش والإقصاء، وربما حتى للسجن لا لشيء سوى لأنهم رفضوا أن يغرسوا أنفهم في المال العام أو جاهروا بمعارضتهم لما لاحظوه من تفشٍ للرشوة والفساد وسوء التسيير هنا أو هناك. يحدث كل هذا وبعضهم يتحدث عن “التشبيب" وهو مصطلح أخذوه من اللغة الفرنسية (rajeunissement). في ثمانينيات القرن الماضي، أطلقت جماعة رياض الفتح حفلات ساهرة لصالح الشباب بدعوى الترفيه وكانت تريد التهليل لانفتاح سياسي واقتصادي وتغيير نمط المجتمع بما يتماشى والرؤية التي كان التحضير لها جاريا في بعض المخابر، وفي الوقت نفسه راح بعض المسؤولين في محاولة للتخلص من تركة الرئيس الراحل هواري بومدين يشيعون مصطلح التشبيب أي منح المسؤوليات للشبان. وفي إحدى الجلسات مع بعض من كان يجاهر بالدعوة للتشبيب - وقد كنت وقتها رئيسا للتحرير بالإذاعة الوطنية - رحت أقول لذلك المسؤول لنبحث عن مصطلح آخر غير التشبيب، لأن هذا المصطلح يما تتغعني في اللغة العربية التفنن في ذكر محاسن المرأة أي أنه عبارة عن غزل، فإذا كان بإمكان الرجل أن يتغزل بالمرأة مثلزل المرأة بالرجل في حالة حدوث غزل بينهما، فإن الأمر عكس ذلك بالنسبة للتشبيب الذي يقتصر على الرجل وحده دون المرأة التي لا تستطيع التشبيب بالرجل، اللهم إلا في الحالات الشاذة والشاذ، كما يقال، لا يقاس عليه. فهل تحوّل هذا التشبيب إلى مجرد تغزل بالشباب وبث الحماس الزائف لديه مع كل انتخابات من قبل بعض الأحزاب التي بات حديث جل قياداتها عن هذا التشبيب بشكل مقرف خصوصا بعد أن تم تحريف مصطلحه الحقيقي بل وتزييفه عن معناه الأصلي!! هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته