خلال النصف الثاني من شهر سبتمبر المنقضي قضيت أسبوعين كاملين بمنتجعات الحمامات التونسية. لقد ربطتني بتونس علاقة عشق تمتد لأكثر من أربعين عاما مضت، فقد كان ذلك في شهر أفريل من عام 1974 عندما انطلقت بنا الحافلة من مدينة الجزائر باتجاه القاهرة في رحلة دراسية طلابية ميدانية في آخر سنة بالجامعة، حيث عبرت بنا تلك الحافلة العديد من المدن التونسية والليبية قبل التوغل في التراب المصري. كان برفقتنا في تلك الحافلة التي أقلت ما يزيد عن خمسين طالبا وطالبة الأستاذ سعد زهران، وهو واحد من الصحافيين اليساريين الذين كانوا يعملون بصحيفة “الأهرام" ثم اضطرته معارضته لنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن يجد في أرض الجزائر خلال الستينيات الملاذ والمستقر الآمن ليدرس بجامعتها ويكتب بصحافتها. وفي المعبر الحدودي السلوم الفاصل بين ليبيا ومصر، راح ذلك الأستاذ الذي سمح له السادات أن يعود لبلده بعد غيبة طويلة عنها يحثنا نحن الطلبة أن ننشد معه رائعة فؤاد نجم: مصر يا أم يا بهية يا أم طرحة وجلابية الزمن شاب وأنت شابة هو رايح وأنت جاية ومعرفتي لعدد من رجالات ونساء تونس خصوصا في مجالات الفكر والفن و الأدب تعود إلى مطلع السبعينيات، فأثناء دراستي الجامعية وعملي بمجلة الأثير التي كانت تصدر عن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الجزائري، وكذا مجلة الثقافة الرائعة التي كان يديرها الأديب الجزائري أبوالقاسم خمار ويرأس تحريرها الشاعر المرهف الراحل عمر البرناوي، مكنتي من إجراء العديد من الأحاديث واللقاءات الصحفية مع بعض الوجوه المعروفة التي نسجت معها علاقات طيبة. وفي عام 1981 قمت برحلة سياحية عبر السيارة لتونس شملت عددا من المدن، وكان من بين ما شدني في تونس جامعها العريق الزيتونة وقصبتها العتيقة. في جامع الزيتونة رحت أستحضر صور العديد من رجالات الجزائر الذين درسوا بهذا الجامع قبل أن تندلع ثورة أول نوفمبر. ومن بين هؤلاء أساتذة درست عندهم في مرحلة التعليم الابتدائي والجامعي إثر ذلك، ومن بين هؤلاء أيضا سياسيون ومسؤولون كبار عرفتهم ومارسوا مسؤوليات عليا في مختلف دواليب الدولة الجزائرية وفي الحقل السياسي من بينهم الصديق الراحل الأستاذ والسياسي الفذ عبد الحميد مهري والسياسي الكبير الراحل محمد الشريف مساعدية والوزير الأسبق والمثقف الموسوعي الراحل مولود قاسم والروائي الكبير الصديق الراحل الطاهر وطار والأستاذ محمد الصالح الصديق صاحب ال 102 كتاب والصحفي الكبير المثير للجدل الأستاذ الطاهر بن عائشة. كما عرفت في تلك الرحلة حي القصبة، وهو حي تنتشر به الصناعة التقليدية التي تشتهر بها تونس. وحي القصبة لا يكاد يختلف عن القصبات الأخرى التي تشتهر بها العديد من مدن الشمال الإفريقي ومن بينها قصبة مدينة الجزائر. ثم عرفت تونس مرة أخرى عندما حضرت العام 1983 بصفتي رئيسا للتحرير بالإذاعة الجزائرية في تلك الفترة حفل توقيع معاهدة الإخاء والصداقة التي أنهت بشكل نهائي مشكلة الحدود بين الجزائر وجارتها تونس، حيث صرح الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد، وهو يوقع المعاهدة مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في قصر قرطاج الفخم قائلا: اليوم نسطر الحدود لنمحو الحدود.. ثم عرفت تونس وعددا من رجالاتها في زيارات أخرى، ومكنتني مسؤوليتي بالإذاعة وفي إتحاد الصحافيين الجزائريين من معرفة العديد من رجالات تونس في مجالات السياسة والصحافة والاتصال. إشتهر التونسيون بأنهم مرحون ميالون إلى النكتة والمزاح رغم الضغط الذي كانوا يعانون منه على مدى عقود سواء في ظل الرئيس الحبيب بورقيبة ذي الأصول الليبية أو خلفه زين العابدين بن علي. فالتونسي يبادرك بمجرد أن يرتاح ويأنس لك بدعوتك إلى “التفرهيد"، وهو مصطلح يختص به التونسيون دون غيرهم ويعني الترفيه السياحة والتجول والدعوة للترويح عن النفس من كل ما قد يتسبب لها من كدر وتعب و أحزان. ولعل الزائر لتونس هذه المرة يلاحظ في كل مكان أن تونسي اليوم لم يعد مثل تونسي الأمس، كان تونسي الأمس لا يكاد ينام ولا يصحو إلا بتوجيهات المجاهد الأكبر، وهو المصطلح الذي لقب به الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهي تُبث عبر أمواج الإذاعة والتلفزيون. وراحت حرم الرئيس المجاهد الأكبر وسيلة تشارك زوجها في الحكم، فبعد أن تخلص الحبيب ذو الشخصية الآسرة من جميع منافسيه ومعارضيه وعدل من الدستور ليصبح رئيسا مدى الحياة صارت وسيلة بمساعدة رجالاتها النافذين تعزل من تشاء وتنصب من تشاء . ولكي تبقي على شبابها ونعومة جسمها وتبقى جميلة وبضة في عيون المجاهد الأكبر، فقد كان يشاع عنها أنها كانت لا تستحم إلا بالحليب!!. لكن حلم المجاهد الأكبر بالبقاء في الحكم مدى الحياة تبخر على يد رجل ثقته الجنرال زين العابدين بن علي الذي أطاح به في السابع من نوفمبر عام 1987. ومرة أخرى راحت تونس تغرق في الشعارات، إذ تحوّلت مختلف أجهزة الإعلام والحزب الحاكم إلى مروجة لإنجازات الزين، وهو الاسم الذي كان يتفنن فيه العقيد المغتال معمر القذافي في وصفه للرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي الذي كان أول رئيس عربي يطيح به هذا الزلزال العربي الموصوف بالربيع العربي لمجرد أن شابا كان يبيع الخضر يدعى البوعزيزي قام بإحراق نفسه إثر تعرضه لصفعة من شرطية تونسية شابة اعتبرها البوعزيزي إهانة لشرفه العربي المداس. في عهد الزين برزت ظاهرة جديدة على المواطن التونسي، وهي بروز الدولة البوليسية، فبالإضافة إلى حدة المشاكل الاجتماعية التي كانت آخذة في التزايد، وبالإضافة إلى بروز طبقة بورجوازية شرسة تضم خصوصا عائلة ليلى زوجة الرئيس وعددا من أفراد عائلة الرئيس ودخول العائلتين في منافسة شرسة على المال والسلطة والنفوذ، فإن بوليس النظام ولا أقول بوليس الدولة كان يحبس أنفاس المواطن التونسي، إذ أن هذا المواطن كان لا يستطيع أن يتكلم في السياسة إطلاقا ولا يمكن له أن ينتقد السلطة القائمة. والأدهى والأمر أن من يذهب للمسجد قد تطاله الرقابة المشددة، وقد يحسب على الإسلاميين المتشددين حتى وإن لم تكن له علاقة بأي تيار كان، أما صاحب اللحية، فقد يدخل السجن ويعذب دونما سبب سوى لكونه محسوب على أصحاب اللحى. فهل تغير تونسي الأمس عن تونسي اليوم فعلا.. عندما تجلس إلى التونسي العادي تحس فعلا أن تغيرا كبيرا قد طرأ، فعامل الخوف من بوليس النظام ومن النظام ككل قد زال تماما. لقد أصبح بإمكانك أن ترى المظاهرات التي كانت ممنوعة تماما تجري في أكثر من مكان ربما لسبب بسيط وربما حتى بدون سبب، وأصبح بإمكانك أن تسمع نقدا لاذعا ليس في المقهى بصورة خفية ولكن في مختلف وسائل الاتصال والإعلام ضد النظام وضد الوزير ورئيس الحكومة وضد الرئيس وضد تغول الإسلاميين وخصوصا السلفيين الذين باتوا الهاجس الأكبر الجديد الذي يقلق المواطن التونسي كيفما كان انتماؤه، بل إن الخوف من الشارع هو الذي انتقل إلى الشرطي الذي أصبح يداهن المواطن حتى لا يثور ضده أو يتظاهر أو يرميه بالحجارة. لقد تحررت تونس من كثير من عقد الماضي وأصبح المواطن اليوم متحررا من كثير من مظاهر الخوف التي كانت تسكنه. لكن خوفي أن يكون هذا الانتقال التونسي من الدعوة للتفرهيد إلى التحرر جزء عاما من مظاهر التسيب والفلتان الشامل ضد كل ما يرمز للدولة التي يجب أن تبادر باستمرار لتحرير هذا المواطن لا تركه يعيش في تحرر أهوج يخرجه من إنسانيته ويبعده عن أمنه واستقراره ويجعله أسير أهوائه ووفق أجندات الباحثين عن الفوضى الخلاقة لتحقيق حلم قيام اللادولة في كامل الوطن العربي التي لا يمكن للمرء أن يتناسى أن كثيرا من الحكام العرب وحاشيتهم قد ساهموا في رسم معالمها عبر التوريث لأبنائهم وإخوتهم وتمكين عائلاتهم وحتى ذويهم من الثراء الفاحش والكسب غير الحلال سعيا لإقامة جملوكيات لا هي من صنف الجمهوريات ولا هي في شكل الملكيات تماما، مثلما تجري عمليات العزل من هذا المنصب أو ذاك دون منطق التقييم، وكذا في حالات التعيين في مختلف المناصب السامية الذي يجري في غالب الأحيان وفق منطق العلاقات والولاءات الشخصية والجهوية لا وفق منطق التدرج في المسؤوليات أو الكفاءة وتراكم التجربة والقدرة على التسيير. وهي مسائل لم تعد تقتصر على المناصب التنفيذية فقط لكن عدواها تمددت بشكل سرطاني إلى الحياة السياسية، حيث أصبحت جل الأحزاب السياسية تخضع لمنطق المال الجالب للوبيات ولرجالات ونساء أعمال لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا بالفكر والتسيير والاقتصاد ولا حتى بالمال والكسب المشروع والمال الحلال كما هو عليه الحال في العديد من الدول الديمقراطية أو تلك التي بدأت تتحرك في هذا الاتجاه رغم تجربتها الدموية، حيث رأينا حتى في ليبيا، أخيرا، كيف ينتخب حتى الوزراء بشكل أقل ما يقال عنه إنه يتماشى مع منطق الديمقراطية المعاصر رغم التناحر العشائري والقبلي وتناحر الميليشيات المسلحة في هذا البلد الذي قد يبقى يمزق النسيج الليبي لعقود. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته