كم نظلم كثيرا من الرجال الأحياء في حياتهم، وعندما يموتون نغدق عليهم مدحا قد يفوق طاقتهم. كم ننسج حولهم التهم والنعوت والأوصاف المشينة، وكم نثخن جراحهم ونزيد في أوجاعهم وآلامهم وكأننا نتلذذ بما يصيبهم. وكم نتفنن في الإساءة لهم بشتى الأوصاف والنعوت التي لا تليق بالبشر، حتى النكتة السياسية البذيئة نسخرها ضدهم لنصفهم بالجهل تارة، وبسوء التسيير تارة، وقد نصفهم أوصافا هي أغرب من الخيال وأبعد عن الواقع. كم وكم نظلمهم ونظلم تاريخهم وعزتهم وأنفتهم ونجرف بالظلم معهم أبناءهم وأصفياءهم وبعض العاملين معهم. قالوا “مسمار حجا لازم يتنحى"، وصفوه بالرئيس العاجز الذي لا يتحكم في الملفات ولا حتى في لغة مخاطبة الشعب الذي انتخبه ولم ينظر لفصاحة لسانه. ذهبوا إلى حد التشكيك في ماضيه الثوري عندما زعموا أنه كان مجندا في الجيش الفرنسي، وأنه من جماعة لاكوست التي دفع بها ديغول وجنرالاته لتكون عين فرنسا في جزائر ما بعد الاستقلال بعد أن أدركوا أن أيامهم معدودات وأن ليلهم سيكون حالم السواد كلما أمعنوا في قمع الثورة الجزائرية. لكن الرجل ظل ساكتا صامتا كجبل من جبال الجزائر الصلبة الشامخة التي لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الزلازل والأهوال، بل بقي مثل صندوق محكم الإغلاق لا يعرف سره إلا من أحكم إغلاقه رغم ما طاله من ظلم وإجحاف. كان الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد واحدا من هؤلاء الرجالات الذين ظلمناهم في حياتهم، وهو على رأس البلد منتخبا من شعبه بعد أن أدى دوره في الجهاد من أجل استعادة الوطن وساهم في بناء جيشه العتيد ودولته الفتية، وكان رائدا للتأسيس للديمقراطية ولو كانت عرجاء في بداياتها الأولى. نسي البعض أن الرجل لم يسع للسلطة لكن بعض من فكروا فيه ليكون خليفة بومدين وقد مات دون أن يعقد المؤتمر الحاسم للجبهة حيث كان يسعى من ورائه لإحداث تغيير عميق في البلد كانوا يريدون أن يجعلوا من الرئيس بن جديد مجرد رئيس على مقاسهم الخاص وبمثابة “strapontin" حسب المصطلح الفرنسي يحركونه كبيدق مثلما يريدون ويملأون به الحيز من هذا المكان أو ذاك عندما يشعرون بفراغ المكان. لكن الرجل لم يكن كذلك، لقد التهم بصبره وإخلاصه كثيرا من القطط التي كانت تريد أن تسمن بسرعة في العهد الجديد وتعشى بها قبل أن تبدأ عملية التهامه المبكر. من بقي من تلك القطط كان يتحين الفرصة فيمنع عن الرئيس حتى المعلومة كي لا يزعجهم أو يعكر صفوهم ولكي لا يفسد عنهم بعض القرارات التي كانوا يريدون تمريرها في الليل. كان محيط الرئيس الآخذ في التوسع يغلق على الرئيس مثلما يفعل محيط أي رئيس في بلد مغلق لا ينعم بحرية التعبير والصحافة مع رئيسه، لكن الصحافة كانت تحاول كل مرة أن تكسر الحواجز والغلق فتنبه المسؤولين ومن بينهم الرئيس إلى بعض الحقائق المغيبة في البلد وإلى الرشوة والمساس بالمال العام الذي كانت بعض روائحه قد بدأت تزكم النفوس وتتوسع دائرة انتشارها مثل النار في الهشيم. في العام الأول من انتخابه، وبالضبط في الأسبوع الأول من سبتمبر 1979 على ما أذكر، أطلق الرئيس بن جديد عملية لمحاربة الآفات الاجتماعية من رشوة وسرقة للمال العام، وأكد أن العملية طويلة الأمد وأنها ليست ظرفية لتقويم مسار الدولة ولحماية الإطار من أي انحراف قد يلحقه. وبعد فترة تبخرت العملية في الهواء، فقد كان محيط الرئيس الذي بدأ في التشكل السرطاني يريد للرئيس ألا يسمع وألا يرى ليفعل فعله في جزائر ما بعد بومدين. قبيل حلول الذكرى الأولى لتلك العملية التي حولها من يريدون العيش في الظلام إلى مجرد حملة عابرة رحتُ أجمعُ بعض المعلومات الطفيفة التي كان يُسمح بها للصحفيين عن ارتفاع الجريمة و عن بعض مظاهر الفساد في شكل تلميحات، ذلك أن الحديث عن الفساد كان منطقة محرمة منزوعة السلاح يمنع الاقتراب منها على أي كان، وإلا فإن التفجيرات قد تحرق إن لم تدمر كلما من عمل على تفجير قنابلها الموقوتة. وبصوتي ويمكن للباحث في الأرشيف - أن يرجع لهذه الوثيقة الصوتية الإذاعية بثت لي القناة الأولى حلقة من برنامجي السياسي من قضايا الساعة الذي أصبح لاحقا يحمل عنوان قضية وتحليل. أكدت في تلك الحلقة التي كانت تبث يوم السبت ابتداء من الساعة الواحدة والنصف من بعد الظهر وتعاد على الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الأحد، أنه يبدو أن العملية التي أطلقها رئيس الجمهورية قبل عام بالضبط لمحاربة الآفات الاجتماعية يبدو من آخر المعطيات المتوفرة بأنها لم تكن سوى حملة عابرة، فلا حديث عنها في وسائل الإعلام ولا من طرف المسؤولين، ورحت أسرد بعض الأرقام عن تفشي مختلف الآفات الاجتماعية بما فيها ارتفاع الجريمة بناء على وثائق رسمية، وكذا الرشوة التي كانت هلامية يصعب على من يكون بعيدا عن القضاء والملفات الدقيقة أن يقف على آثارها أو يتعقب فاعليها الحقيقيين. وبعد حوالي ثلاثة أيام ألقى الرئيس بن جديد خطابا لا أتذكر المناسبة التي ألقي فيها ذلك الخطاب، وراح يتحدث بلهجة قوية على أن محاربة الآفات الاجتماعية ليست عملية ظرفية وليست حملة كما تحدثت عن ذلك بعض وسائل الإعلام، على حد تعبيره . وجاءني مسؤول الأخبار بالإذاعة الوطنية في تلك الفترة الأستاذ عبد العالي بورغدة مذعورا وهو يقول لي: يبدو أن الرئيس في خطابه كان يعني ما أشرت إليه في برنامجك عن توقف عملية الآفات الاجتماعية.. ومرت القضية دون أن نسمع أية ملاحظة من طرف أي مسؤول في الرئاسة. كان من الشائع عن الرئيس الشاذلي بن جديد أنه يعير اهتماما كبيرا للإعلام، ويتابع ما يبثه عبر الصوت والصورة وما تكتبه الصحافة، حسبما تسمح به ظروف رئيس له أعباء ومسؤوليات كبيرة وأمامه ملفات وطنية وإقليمية ودولية عديدة للبت فيها أو الاطلاع عليها. وأذكر أن إحدى الصحف الوطنية نشرت بالصورة تحقيقا عن ندرة مادة ضرورية للعلاج في المستشفيات، وكيف أن تلك المادة ترمى في الزبالة في أحد مستشفيات الغرب الجزائري دون رقيب مثلما أظهرته الصحيفة. وقرأ الرئيس الخبر في تلك الصحيفة وطلب تحقيقا في الموضوع، وبمجرد تأكده من صحة المعلومات المقدمة من قبل الجريدة حتى أقال وبحزم وصرامة مسؤول القطاع فورا دون أي تردد أو وساطات. ما من شك أن الرئيس بن جديد تعرض للغمز ونسجت حوله الإشاعات بل وفبركت حوله النكتة السياسية البذيئة أحيانا والمسيئة لمركزه كرئيس للجمهورية والماسة بكرامته كإنسان قبل ذلك. وإذا كانت النكتة تعكس واقعا سياسيا واجتماعيا في أي بلد، إذ يدرسها السياسيون ليصححوا على ضوئها كثيرا من الأخطاء، فإن الرئيس بن جديد قد مسه الظلم حتى من طرف النكتة التي قد يكون صنعها حتى بعض من كانوا قريبين منه، مثلما مسه الظلم من طرف العديد من الأحزاب الستينية التي نشأت في جزائر ما بعد دستور 1989 والذي كان الرئيس بن جديد من ورائه. ومع ذلك فإن جميع برامج تلك الأحزاب الستينية وخطاباتها آنذاك راحت تنتقد بحدة بعيدة عن الموضوعية النظام وعلى رأسه الرئيس بن جديد، وتحمّله كل التبعات التي نشأت بفعل أزمة منتصف الثمانينيات التي عجلت بأحداث أكتوبر وتوابعها ومخلفاتها خلال العشرية السوداء والحمراء التي أنتجت في النهاية المأساة الوطنية بكل انعكاساتها المدمرة. فهل أن التاريخ عندما ستتم قراءته بعين متفحصة من طرف أهله سينصف الرئيس المظلوم بن جديد أم أنه سيجعله يتألم حتى، وهو في قبره عند بارئه من ظلم الناس له مثلما ظلمه التاريخ في فترة سابقة أثناء حكمه وما بعد ذلك؟ هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته