ينحدر الداعية محمد بن عبد الوهاب من عائلة آل المشرف.. وهي من العائلات الحضرية العريقة في نجد.. ومعروفة بعدد علماء الدين المنحدرين منها، بحيث قدر عددهم ما بين القرن السادس والثامن عشر بخمسة وعشرين عالما كلهم ينتمون إلى واحة شيقر التي كانت تمثل مركز الحنبلية النجدية، وكان كل من جد ووالد محمد بن عبد الوهاب من ذوي السمعة الطيبة في أوساط علماء المنطقة، بحيث كليهما مارسا القضاء في واحات شتى من نجد، بما فيها مسقط رأس محمد بن عبد الوهاب الذي رأى فيها النور عام 1703. تلقى الفتى محمد بن عبد الوهاب القرآن والعلوم الشرعية على يد والده لينتقل بعد ذلك إلى أراضي الحجاز حيث يؤدي شعيرة الحج، ثم لينتقل إثر ذلك إلى المدينةالمنورة ويواصل سيره التقليدي في طلب العلم إلى البصرة، التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، وهناك سيتأثر أيما تأثير بشخصيات ثلاث تلقى على أيديهم العلوم الشرعية والمذهب الحنبلي التاريخي وهم، محمد حياة السندي (ت 1750) وعبد الله بن سيف الشمري ومحمد المجموعي البصري، وتمثلت روح المذهب الحنبلي الذي تلقنه محمد بن عبد الوهاب على هؤلاء العلماء في ثلاث قضايا رئيسية، الأولى العقيدة الحنبلية الكلاسيكية والثانية نظريات السوري ابن تيمية (1263 - 1328) وكتابات تلميذه ابن القيم الجوزية والثالثة استقاء العلم الشرعي من مصادره الأصلية وهي القرآن والسنة، وتجنب الشروح والحواشي، ويشير البعض من رواة وكتاب سيرته أن الرجل واصل سيره أيضا إلى كردستان ودمشق.. وبالرغم أن هذا المسير الذي قطعه محمد بن عبد الوهاب يعتبر عاديا وتقليديا إلا أن أنصاره وكذا الإيديولوجيا الرسمية حاولت أن تضفي على شخصيته بعض الطابع الأسطوري لتجعل منه رجلا غير عادي قبل ربما لحظة ميلاده.. فلقد تناقل أنصاره حكاية هي أشبه إلى الأسطورة، ولقد نقلها لويس دوكورانسي في كتابه (الوهابيون.. تاريخ ما أهمله التاريخ) (ت 1832) أن جد محمد بن عبد الوهاب المدعو سليمان قد “رأى فيما يرى النائم شعلة تخرج من جسمه فتتخذ شكل عمود من لهب يجوب البوادي ويحرق خيام الصحراء وسكان المدن.. وأخافت الرؤيا الجد سليمان فلجأ إلى استشارة مشايخ قبيلته فأعلمه هؤلاء بأنها رؤيا صالحة وأن والده سوف يدعو إلى مذهب جديد ويتبعه البدو والحضر، ولم تتحقق هذه النبوءة في عبد الوهاب بن سليمان وإنما في هذا الشيخ محمد.. ويعلق صاحب “علماء الإسلام" أن هذه الرواية للرؤية معدلة عن والدة النبي (ص) التي حلمت به فرأت نورا يخرج منها أضاء لها قصور أرض بصرى من أرض الشام.. وبعد هذه الرحلة العلمية التي استغرقت منه سنوات لم يعد محمد بن عبد الوهاب مثلما راح، فلقد تغيرت نظرته بشكل جذري إلى تأويل الدين.. كان داخله عامرا برغبة جامحة ليخرج دعوته وأفكاره من حيزها النظري والعلمي لتتجسد على أرض الواقع.. لكن هل يحمل ذلك الصبر وتلك الشجاعة ليعلن عن ما يفكر فيه وما توصل إليه أمام تلك البيئة التي كانت في نظره مستلبة وغارقة في جاهليتها الجديدة؟! ظل في البداية محافظا على سره وهدوئه عن إعلان عقيدته الجديدة، فلقد عاد إلى حريملاء التي لا تبعد عن العيينة إلا بعشرات الكيلومترات حيث كان والده يشغل قاضيا هناك منذ العام 1727 إلى غاية وفاته سنة 1740، ويقول كتاب سيرته إنه في هذه المنطقة ألّف كتابه الذي يشكل لب دعوته والذي اشتهر بكتاب “التوحيد" وهو كتاب حسب المؤرخين، والمعلقين لا يتصف من حيث القيمة الفكرية بأية إضافة نوعية جديدة، بحيث يبين فيه أن ثمة ثلاثة وجوه للتوحيد تتمثل في توحيد الربوبية التي تعني الإعتراف الموضوعي بوحدانية الله وقدرته اللامتناهية وتوحيد الثانية الدالة على عدم الخضوع إلا الله وإفراده بالعبادة ثم ثالثا توحيد الأسماء والصفات وفي نظر آخرين فإن مؤلف التوحيد هو عبارة عن تلخيصات مبسطة للعقيدة والمذهب الحنبلي ركزت على تحرير المسلمين من كل البدع والمفاهيم الشعبية في ممارسة الدين وتنقية العقيدة من كل شوائب الجاهلية التي علقت بها بفعل الابتعاد عن الروح الحقيقي للدين وممارسة الشعائر المعبرة عن الدين في كل صفائه الذي مثله النبي (ص) وصحابته وأتباعه الأولون.. وما إن توفي والده حتى بدأ محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى مذهبه بشكل واضح ومتصاعد، فلقد أقام بالعيينة حيث غمره أميرها بعطفه وحمايته ببعث الرسائل إلى عدد من علماء الحنبلية التقليدية للإنضواء تحت راية دعوته الجديدة التي كان يقول عنها إنها ترتكز في جوهرها على إعادة إحياء العقيدة السليمة وبعث السلوك القويم والعمل على تطبيق الشريعة النقية والصافية كما أيام الرسول (ص) وفترته النبوية، وإضافة إلى توجيهه الرسائل إلى الأعيان والعلماء فلقد بعث بأنصاره ورجاله الذين تتلمذوا عليه واعتنقوا أفكاره إلى شتى الواحات في منطقة نجد ليهدوا أناسها إلى العقيدة الصحيحة وبالتالي تبني تعاليمه الجديدة، وبالإضافة إلى بعض الرسائل والرجال، فلقد جعل من التدريس سلاحه لغرس أفكار وكسب أنصار جدد.. وانطلاقا من العام 1742 جهر بدعوته وسعى إلى ترجمتها على الميدان، فهاجم بشكل لاذع ولأول مرة التمسح بالضرائح وتقديس الأولياء الصالحين، وصوّب انتقاداته ضد فساد النخب الدينية ووصف رجال الصوفية بالمبتدعة، وسلط هجوماته على الممارسات الشعبية للدين وقام بنفسه إلى جانب أنصاره بتدمير أماكن العبادات الشعبية التي كانت في نظره عنوانا للشرك، وشدد على حمل الناس للصلاة جماعة، كما شرع في التطبيق المادي والرمزي للحدود في أكثر من مناسبة، ومنها رجم امرأة بالتعاون مع أمير العيينة قيل إنها اعترفت بممارسة الزنا، وكان لذلك دويا كبيرا، نتجت عنه ردود أفعال شديدة، قاد إحداها أخو محمد بن عبد الله نفسه الذي أخذ على الداعية الجديد مسألة تكفيره للناس ووصفه المؤمنين بالمشركين ولقد اتهم سليمان أخاه محمد بالتعصب والجهالة، في كتاب له، أسماه “الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية"، لكن محمد بن عبد الوهاب لم يتأثر بانتقادات أخيه، بل واصل معركته التي كان يعتقد أنها فصل من فصول الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وإعادة الإسلام إلى لحظة نقائه وصفائه القصويين، فقام مدعما من طرف أتباعه بحرق شجرة الذئب التي كانت تتردد عليها الفتيات والنساء العاقر في الصحراء رغبة في الزواج والإنجاب، قام بتدمير ضرائح وقبور صحابة الرسول حتى لا تتحول إلى مزارات وأماكن تمسح وعبادة.. أثار هذا الإنتقال إلى الخطة الهجومية لمن أسموا أنفسهم بالموحدين وأطلق عليهم خصومهم نعت الوهابيين مخاوف وقلقا عميقين لدى القيادات من رجال الصوفية والحنبلية التقليدية والفرق الشيعية وذلك ما أدى إلى التوحد والتنديد بهذه الدعوة الجديدة المثيرة للفتن بحيث تجندت هذه النخب المختلفة بالرد على دعوة “الوهابيين" بإصدار الفتاوى الناعتة زعيمهم وأنصاره بالمبتدعة والضالين والكفار.. وذهب البعض من هؤلاء الممثلين للنخب الدينية التقليدية إلى المطالبة برأس محمد بن عبد الوهاب.. وكان رد محمد بن عبد الوهاب على هذه العاصفة التي أثيرت من طرف خصومه ضده وضد دعوته أنه ينتمي وأنصاره بدعوتهم الجديدة إلى الفرقة الناجية وفق الحديث المنسوب إلى الرسول (ص) القائل (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل (....) إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، وكلها في النار إلا ملة واحدة، قيل له: ما الواحدة؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وبالرغم أن محمد بن عبد الوهاب كان لا يساوره الشك في صدق أمير واحة العيينة اعتناقه لدعوته إلا أنه كاد يصعق عندما أبدى هذا الأخير مخاوفه وعدم ذهابه إلى أقصى حد في حماية صاحب “التوحيد" أمام تعاظم الضغوط التي مارسها زعماء قبائل بني خالد الذين لوحوا بالقضاء على الواحة التي آوت هذا “الداعية المارق" الذي قام بتحديهم وتهديد حياتهم ومصالحهم.. لقد أذعن أمير واحة العيينة وذلك برغم حماسته للدعوة الوهابية مفضلا مصلحة إمارته على التضحية في سبيل محمد بن عبد الوهاب ودعوته المثيرة للجدل والغضب ولم يجد صاحب الدعوة إلا اللجوء إلى الدرعية التي ستصبح أهم مركز للدعوة الوهابية، ويقال أن زوجة محمد بن سعود التي كانت متعاطفة مع دعوة محمد بن عبد الوهاب قد مارست تأثيرها على زوجها الذي كان يكن لها حبا كبيرا، ويقال أيضا أن أخوا الأمير وهما مشاري وشيبان وكذلك ابنه قد شكلوا نوعا من اللوبي باعتبارهم من أنصار مجدد المذهب الحنبلي وكان تأثيرهم العميق في نفسية الأمير محمد بن سعود في الإنحياز الرمزي والملموس لهذا الداعية المطارد والمهدد في حياته، وكان ثمة إلى جانب التأثير العائلي لاتخاذ مثل هذا القرار الحاسم والتاريخي والخطر عامل آخر مساعد، تمثل في عدم ارتباط عائلة سعود التي حكمت الواحة لمدة قرنين بأية مصالح اقتصادية أو عائلية وثيقة مع الإتحادات القبلية في المنطقة.. وترتب اللقاء بين الداعية والأمير في العام 1745 على تشكيل تحالف مقدس بين الرجلين، كان بمثابة الزواج بين الدين والسياسة وبين المال والعمل المسلح الذي اتخذ رداء دينيا تحت مشروعية وشرعية الجهاد.. وعلى إثر هذا الإتفاق التاريخي بين القائدين باشر محمد بن عبد الوهاب في نشر دعوته بالقوة وذلك من خلال وضع الأطر المساعدة على نشر مذهبه وذلك من خلال إقامة مراكز للتدريس، ونشر مختصرات العقيدة في أوساط العوام وفرض إقامة صلاة الجماعة، وإرسال المبشرين بدعوته إلى الواحات وبالفعل تم استقطاب أنصار جدد في كل من حريملاء ومنفوحة وثرمداء مما أعطى للدعوة قوتها واندفاعها وتمكن هذا الحلف الجديد من خلق كيان سياسي فعلي دعامته جيش صغير منظم وبيت مال كان بمثابة العصب الحقيقي للحرب المقدسة التي شنها هذا الثنائي الصاعد وكانت النتائج مشجعة ما بين الأعوام 1747 1758 بحيث نجح محمد بن سعود وابنه عبد العزيز في صد جيش أحد أمراء واحات المنطقة يدعى همام بن دواس، ولقد تحولت الدرعية إلى قاعدة إقليمية فعلية لمحمد بن عبد الوهاب، بحيث تمكن الأنصار المنخرطون في جهاد دون هوادة تحت قيادة عبد العزيز بن محمد بن سعود من صد هجمات قبائل بني خالد، وشيعة نجران، والسيطرة على إقليمي الوشم والعارض وعلى الرياض وكان ذلك خلال الفترة الممتدة من 1758 إلى 1774.. وخلال ثلاثة عقود تمكن جيش آل سعود من بسط سيطرتهم كاملة على مناطق نجد بحيث سقطت قطر وجزء من ساحلها الشرقي عام 1788، وتم مهاجمة عمان عام 1791 ليفرض عليها دفع الأتاوة وفي العام 1795 تصل قوات آل سعود إلى حدود الحجاز لتتقدم في العام الموالي على أبواب اليمن، وفي العام 1798 تصل إلى العراق وسوريا وفي 1800 تتعرض البحرين لنفس الغزو، وفي 1802 تسقط على يد جيش آل سعود كل من كربلاء والطائف لتستسلم في 1803 و1805 مكة ثم المدينة ويخضع الحجاز للقوات السعودية الصاعدة عام 1806، كما يقود أحد أحفاد ابن سعود جيوشه إلى اليمن بحيث يحاصر صنعاء ويسيطر على حديدة على البحر الأحمر ويحتل جزءا من فلسطين بعد استيلاء على ضواحي من حلب في سوريا، وبالتالي أصبح جيش آل سعود بفضل التحالف مع الداعية يسيطر على حوالي 4000 كيلومتر، ولم يتوقف زحف هذه القوة الماردة إلا في حدود عام 1810 على يد البريطانيين بشكل مؤقت.. ليبدأ الهجوم المضاد الذي ستشنه الإمبراطورية العثمانية الجريحة التي أصابها الفزع من تعاظم هذه القوة التي تنامت بشكل يهدد رمزيتها وقوتها السياسية، وكان ذلك عام 1811 ليمتد إلى عام 1818 من خلال الجيش الذي قاده ابن حاكم مصر، محمد علي، إبراهيم باشا الذي قضى على الدولة السعودية الأولى وألقت قواته القبض على أحد أبناء الداعية محمد بن عبد الله، وخليفته عبد الله، بحيث اقتيد إلى مصر، ومن ثم إلى الباب العالي حيث السلطان محمود الثاني، ولقد علق مقيدا بالأغلال لمدة ثلاثة أيام قبل قتله والتنكيل به ليرمى جسده للكلاب.. كما قام إبراهيم باشا بإعدام عدد كبير من العلماء المنخرطين في الدعوة الوهابية بالرصاص، ومن بينهم قاضي الدرعية الذي انتزعت منه أسنانه وعذب حد الموت، وعملت قوات إبراهيم باشا على تعذيب أحد أحفاد مؤسس الدولة السعودية الأولى عن طريق إسماعه الموسيقى التي طالما حاربها المذهب قبل القضاء عليه، ولم تبقِ قوات إبراهيم باشا أي أثر من مركز الوهابية الدرعية التي دمرت على آخرها... وعندما عادت جيوش إبراهيم باشا إلى مصر، كانت الأراضي السعودية وواحاتها عبارة عن خراب ودمار شاملين ولجأ بعض الناجين من تلك المذابح الرهيبة إلى واحة الرياض فارين بجلودهم...