لم تكن الحرب الفيتنامية أو حرب أمريكا في فيتنام، وبالأحرى ما يصطلح عليها بالحرب الهندية الصينية الثانية 1956 1976 قد وضعت أوزارها بعد، كانت آثار القنابل وقصف الطائرات الأمريكية المقنبلة والعملاقة خصوصا من طراز ب 52 الشهيرة ذات السمعة السيئة ماثلة للعيان بكل مشاهدها وآثارها ونتوءاتها وحفرها في ذلك المطار الواقع على مسافة ستين كيلو مترا من هانوي عاصمة جمهورية فيتنام الشمالية قبل التوحيد. في حدود الساعة الحادية عشر صباحا، أقلعت واحدة من طائرات الأنتونوف الثلاث التي خُصِّصَت للوفد الرئاسي الجزائري الذي كان يرافق الرئيس الراحل هواري بومدين في زيارته الرسمية لفيتنام الشمالية للالتحاق بالطائرة الرسمية التي ستقل الوفد الرئاسي نحو الجزائر. وقبل وصول تلك الطائرة العسكرية كانت الإجراءات الأمنية المشددة قد اتخذت في ذلك المطار، حيث أخذ رجالات الأمن الرئاسي والتشريفات الجزائريين ونظراؤهم الفيتناميون أماكنهم في مختلف أركان المطار تأهبا لوصول الرئيس بومدين رحمه الله ومودعيه من الزعماء الفيتناميين، حيث كان الرئيس بومدين يستعد لمغادرة العاصمة الفيتنامية قبيل منتصف النهار عائدا لأرض الوطن بعد انتهاء زيارته الرسمية لذلك البلد الآسياوي إثر رحلة قادته قبل ذلك لباكستان التي ألقى في مدينتها الشهيرة لاهور خطابا تاريخيا أمام قادة الدول الإسلامية، إذ توجه إليهم بخطاب مرتجل بعد أن رمى بالخطاب الرسمي المكتوب جانبا بقوله الذي أصبح من أشهر الخطب في ذلك المؤتمر الذي عقد في نهاية فيفري 1977: “إنَ الناس لا يدخلونَ الجنة وبُطونُهم خاوية". أثارت هذه الفقرة بالذات من خطاب الرئيس بومدين مهمة داخل القاعة مثلما شدت انتباه مراسل صحيفة القبس الكويتية للمؤتمر، إذ اتصل بصحيفته ليخبرها بضرورة استبدال العنوان الرئيسي الذي كانت قد وضعته الصحيفة قبل ذلك، واستبداله بعنوان رئيسي آخر مقتبس من تلك العبارة المدوية للرئيس بومدين. ثم زار الرئيس بومدين إثر ذلك جمهورية الصين الشعبية التي كان على رأسها الزعيم الصيني الذائع الصيت ماوتسي تونغ ويرأس حكومتها الوزير الأول الراحل شوئين لاي، قبل أن يختتم الرئيس بومدين تلك الجولة بزيارة رسمية لجمهورية الفيتنام الشمالية التي كان على رأسها القائد الفيتنامي التاريخي هوشي منه، إلى جانب وزير الدفاع وبطل معركة ديان بيان فو الجنرال جياب الذي لقن جنرالات فرنسا أكبر الدروس في تلك المعركة والقائل بأن الاستعمار تلميذ غبي. أعاقت الرؤية السيئة قائد الطائرة العسكرية الفيتنامية أنتونوف 24 على النزول في بداية أرضية المطار، حيث نزل بطائرته بدلا من ذلك وسط المدرج. كان على متن تلك الطائرة 15 صحفيا هم من خيرة من عَرفت الجزائر في مجال الإعلام والاتصال في تلك الفترة. كانت المسافة الفاصلة بين المكان الذي حطت به الطائرة خطأ وبين نقطة التوقف النهائي قريبة جدا. حاول الطيار - وقد رأى الطائرة تكاد تفلت من يديه وتتجه به نحو المستنقعات وتخرج من المدرج نحو الأشجار المحيطة بالمطار من كل جانب - أن يقلع بها من جديد تفاديا للكارثة التي رآها تلوح أمام عينيه وكي لا يرتطم بالأرض. لكن مشيئة الله شاءت غير ذلك، فعند محاولة إقلاع الطائرة اصطدمت بإحدى الأشجار العملاقة المحيطة بالمطار وانفجرت تاركة لوعة في القلب ومرارة في الحلق تجاه كل من عرف أولئك الرجال الذين لقوا نحبهم جميعا في تلك الصبيحة المشؤومة التي كانت قاسية جدا على الوفد الجزائري وعلى رأسهم الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي طَلبَ بمجرد أن عَلمَ بالفاجعة أن يُحْضروا له جوازات سفر الضحايا، وراح الرئيس بومدين يتأمل الوجوه واحدا واحدا عبر صورهم في جوازات السفر ويذرف الدموع بحرقة كبيرة على فراقهم حيث كان يعرف الكثير منهم. قبل إقلاع تلك الطائرة بوقت قصير، صعد الصديق محمد الهادي حمدادو نائب مدير الإعلام بالرئاسة آنذاك سُلَم الطائرة ليكون إلى جانب الوفد الصحفي الجزائري، لكن القدر شاء غير ذلك للرجل، فقد التحق به عند أعلى سلم الطائرة النقيب الصادق أحد ضباط الأمن الرئاسي، الذي أصبح لاحقا ضابطا ساميا في الجيش الوطني الشعبي برتبة جنرال، - إذ كان الرجل من أطيب الرجال معاملة ومعاشرة - ليطلب من صديقه حمدادو أن ينزل من تلك الطائرة حتى يكون بجانبه في الطائرة الثانية التي كانت تستعد بدورها للإقلاع بعد لحظات فقط. وعندما حطت تلك الطائرة التي كان على متنها حمدادو وصديقُه الصادق وجدوا أن الكارثة قد وقعت. لم يصدق حمدادو وبقية مرافقيهم ذلك المشهد المروع وراح الجميع ينتحب على فراق أحبة كم كانت فرقتهم في آخر يوم من تلك الرحلة قاسية على الجميع. في الأسبوع الماضي ، استحضرتُ بكل مرارة وحرقة تلك الصور المروعة خصوصا وأنني كنت أعرف معظم أولئك الصحفيين الذين جمعتني بالعديد منهم عشرة طيبة وعلاقات مودة كبيرة، وكان عدد منهم نعم الأصدقاء في وقت كانت فيه الصداقة والوفاء قيمة جمالية وإنسانية كبيرة قد لا نجدها اليوم للأسف لدى البعض ممن يديرون ظهورهم لهذا الصديق المخدوع أو ذاك بغمزة أو لمجرد إشارة من أحدهم أو نزوة أو مصلحة عابرة. من ينسى عبد الرحمن قهواجي هذا الرجل الطيب ذو الابتسامة الدائمة.. كان قهواجي قبل تلك الرحلة في تمنراست يقوم بإعداد روبورتاج للتلفزيون وخاصة حول طريق الوحدة الإفريقية ودور شباب الخدمة الوطنية في إنجازه، واتصل به من هناك المدني حواس هذا الرجل الذي أنذر كل حياته لخدمة الوطن والإعلام ونسي نفسه ولم يستطع حتى اختيار شريكة حياته من أجل الوطن، ولكنه مثل العديد من الشرفاء اضطر للتقاعد وهو في عز العطاء، فقد كان المدني حواس حينها رئيس تحرير التلفزيون، وهو لمن لا يعرف المجاهد بالقلم وصاحب التعاليق الشهيرة التي كان يكتبها يوميا أثناء ثورة أول نوفمبر ويقرأها بدلا عنه المذيع والمجاهد الراحل صاحب الصوت الثوري المدوي عيسى مسعودي، عبر أمواج إذاعة الجزائر المكافحة، وطلب سي حواس من المرحوم قهواجي أن يعود إلى الجزائر العاصمة فورا لأن هناك مهمة مستعجلة تنتظره، ولم يخبره بطبيعة تلك المهمة. وأذكر أنني التقيت قهواجي قبل توجهه نحو تمنراست. كان المرحوم قهواجي يعلم أنني أستعد للقيام برحلة دراسية إلى مصر عبر تونس وليبيا ضمن وفد طلابي كبير، وهي الرحلة التي قادتنا فعلا إلى هناك مع مجموعة من الأساتذة في نهاية دراستنا الجامعية للصحافة. طلب مني قهواجي رحمه الله أن أشتري له مسجلا كبيرا من ليبيا ليستخدمه في المونتاج والاستماع للروبورتاجات التي كان الراحل يتفنن فيها بحب كبير لتلك المهنة التي أحبها مثلما أحبه الذين عرفوه، وهو ما قمتُ به فعلا حيث اشتريت له ذلك المسجل من طرابلس في طريق العودة إلى الجزائر، وسلمته للمدني حواس ليسلمه بدوره لعائلة قهواجي بعد أن بلغتنا أنباء الفاجعة. كنا بقاعة التحرير للإذاعة الوطنية في ذلك اليوم الحزين عندما بلغنا الخبر المفجع، راح الجميع ينتحب ويبكي بكاء مرا لفراق تلك المجموعة الكفأة والطيبة من أولئك الرجال، أما المرحوم محمد بومديني رئيس التحرير بالإذاعة الوطنية، فقد سقط من على الكرسي مغشيا عليه بعد أن بلغه الخبر المفجع الحزين. كان سي بومديني ابن مدينة القنادسة القريبة من بشار الرجل الطيب والكريم، الذي يحرص كل شهر من رمضان على دعوة العديد من الصحافيين الشبان لتناول الإفطار عنده في بيته المتواضع خلال معظم أيام الشهرالفضيل من كل عام، قد قطع رحلته بعد تغطيته لمؤتمر القمة الإسلامي بلاهور الباكستانية وقرر فجأة العودة إلى الوطن من تلقاء نفسه إثر وعكة صحية ألمت به. حاول الدكتور محي الدين عميمور مدير الإعلام والمستشار برئاسة الجمهورية آنذاك، ثني سي بومديني عن قراره بالرجوع إلى الجزائر، مستغربا منه تصرفه ذلك في رحلة مع الرئيس لا تتكرر إطلاقا في حالات كتلك. لكن الرجل أصر مع ذلك على العودة إلى أرض الوطن تاركا كل التأويلات جانبا.. فهل أن المقادير وإرادة المولى الذي لا راد لقضائه هي التي جعلت المرحوم بومديني يفضل الرجوع إلى الوطن بدل مواصلة الرحلة مع الرئيس والموت لاحقا في فيتنام؟ كان من بين من عرفتُ أيضا من تلك الكوكبة من الصحفيين والتقنيين عليهم رحمة الله المصور التلفزيوني البارع امحمد بكاي، والوجه التلفزيوني صالح الذيب، مواقي، ميدات، بوجمية وغيرهم. مضى الآن 39 عاما على ذلك الحدث المأساوي، وفي كل مرة تتذكر عائلات الضحايا والأصدقاء وبعض المسؤولين تلك الكوكبة من أهل مهنة المتاعب، بل وفي كل مرة ترتفع الأصوات لجعل هذا اليوم يوما وطنيا للإعلام. في 1983، نظمت الأمانة الوطنية لاتحاد الصحفيين الجزائريين حفلا كرمت فيه عائلات الصحفيين ال 15 الذين استشهدوا في فيتنام، وباعتباري كنتُ مكلفا بالإعلام والثقافة في أمانة الاتحاد فقد أشرفتُ شخصيا على تنظيم ذلك الحفل بمساعدة باقي أعضاء الأمانة، وفي الكلمة التي ألقيتها أمام الحضور أكدت على سعي الاتحاد مع المعنيين في مختلف الهيئات على جعل الثامن مارس أو أي يوم يتم اختياره للاحتفال بيوم الإعلام، ثم جدد الصديق محمد عباس الأمين العام للاتحاد حينها نفس الموقف والطلب. وطيلة الأعوام المتبقية من عمر الاتحاد قبل دمجه في 1985 مع اتحاد الكتاب، كان الاحتفال يجري بتلك المناسبة، ثم إن الأخ امحمد يزيد وزير الدعاية أثناء الثورة المسلحة سعى لدى مختلف المسؤولين في الثمانينيات لتخصيص يوم يُحتفى فيه بالإعلام. وأذكر أنني كنت عضوا في اللجنة الوطنية التي ترأسها المرحوم يزيد وخُصص عام 1984 على ما أذكر لتقديم جوائز وطنية للصحفيين المتميزين بعد عمليات تمحيص دقيق لمختلف الموضوعات والروبورتاجات التي أرسلوا بها إلى اللجنة، وقد أكد حينها الرجل سعيه لترسيم يوم يخصص للاحتفال بالمهنة. أذكر أنني جددتُ العام الماضي الدعوة للمسؤولين لتجسيد هذا اليوم على أرض الواقع وذلك خلال اليوم الاحتفالي لهذه المناسبة، الذي أقامته جمعية مشعل الشهيد التي يرأسها محمد عباد وهو واحد من الرجالات الذين يساهمون في صنع المشهد الثقافي بكل جد ببلادنا. اليوم نسمع من جديد أن وزير الاتصال محند السعيد أوبلعيد، قد تبنى دعوة المطالبة بتجسيد هذا اليوم. إنني آمل ألا يبقى تجسيد يوم يُحتفى فيه بمهنة الاتصال والإعلام مجرد حلم أو أمنيات تتكرر كل عام أو مجرد صيحة في واد. إن المرء ليتأسف للوضع الذي أصاب هذه المهنة بعد أن حولها بعض الدخلاء إلى وسيلة للقذف والتشهير بالآخرين، وجعلها بعضهم وسيلة للثراء الفاحش، وأرادها آخرون أن تكون بمثابة لعبة قذرة في أيدي البعض يضربون بها من تحركهم بعض البيادق المأجورة التي لا تشرف مهنة هي من أنبل المهن في هذا العالم، يحدث كل هذا في وقت يبقى فيه رجالات ونساء مهنة الصحافة للأسف يتفرجون على ما يجري، وهم ضحية هؤلاء وهؤلاء حيث أن أجورهم قد تقل في بعض مؤسسات القطاع الخاص حتى عن أجور فئات لا أود تحديدها كي لا يساء فهمي وحتى لا يقال بأنني أرغب في التقليل من قيمة وشرف هذه المهنة أو تلك. فأي محنة أصابت مهنة الصحافة التي لم يستطع المنتسبون لها وهم اليوم مشتتون دون تنظيم نقابي يجمعهم حتى يمكن لهم انتخابُ ممثليهم في هيئة الضبط للمهنة، وأي مأساة حلت بالمهنة وقد تحولت إلى أداة يستخدمها الغرباء عنها للقذف حتى ضد أهل المهنة أنفسهم بدل الدفاع عنهم وعن كل ما يخدم هذا الوطن وشرفاءه وناسه الطيبين، بدل الانغماس في أمور تبدو تافهة أحيانا وفيها الإثارة والتموقع المغشوش أحيانا أخرى إلى جانب من لا يستحق ليكون حتى مجرد ذيل مجرور؟ ولَئن أخطأ قائد الطائرة الفيتنامية منذ 39 عاما في المكان الصحيح والآمن من المدرج، فهل يعجز الصحافيون الجزائريون اليوم على إيجاد مجموعة رُبَّان يقودونهم من أجل الحفاظ على مهنية وأخلاقيات وشرف مهنة كل ما نخافه أن تصبح لعبة قذرة في أيدي مَنْ قد يتحكمون مستقبلا في الصورة والصوت والكلمة بعد دخول مشروع قانون السمعي البصري حيز التنفيذ، خاصة بعد أن كادت قدسية الحرف المكتوب عبر الصحافة تضيع منذ الشروع في التعددية الإعلامية قبل عشرين عاما مضت؟ هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته