أزمة حكومية في لبنان؟ على مدى العقود الأربعة الماضية، لم يعش لبنان يوما خارج دائرة الأزمات - الداخلية منها والمستوردة - لتشكل استقالة حكومته أزمة سياسية غير مألوفة، لكن لاستقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي نكهة خاصة يصعب إنكارها. عمليا حكومة الرئيس ميقاتي هي التي استقالت من عهدة رئيسها بعد أن تحولت في أواخر عهدها إلى مجرد «غطاء شرعي» لممارسة ممثلي قوى الأمر، الواقع فيها أجندتهم السياسية الخاصة حتى وإن كانت تتناقض مع الخط السياسي الرسمي للحكومة. وتأكيد الرئيس ميقاتي أنه في حال كلف مجددا برئاسة حكومة جديدة لن يشكل حكومة من لون واحد «تحت أي عنوان» قد يكون أبرز عبرة استخلصها من ترؤسه حكومة أقطاب «الأمر الواقع». هذا لا يعني إنكار جرأة الرئيس ميقاتي في تقديم استقالته في هذا المنعطف الدقيق في تاريخ لبنان والمنطقة ككل بعد أن طفح الكيل وباتت مؤسسة الدولة أعجز من أن تحتوي تناقضات مكوناتها الحكومية المتقاطعة مع خلفيات خارجية لا تقل عنها تعقيدا.. وتحريضا على اللعبة الديمقراطية في لبنان. من هنا التحسب من أن تفتح استقالة الرئيس نجيب ميقاتي الباب واسعا على أزمة نظام، لا أزمة حكم فحسب.. وإذا كان لبنان قد اعتاد على أزمات النظام كما اعتاد على مسارعة «المصلح العربي» على مداواتها بالتي هي أحسن، فإن الأمر مختلف هذه المرة: لبنان، اليوم في ذيل قائمة هموم العرب الملحة، ما يعني أن عليه «أن يقلع شوكه بيده» حسب مقولة المثل اللبناني الشائع، وبالتالي العودة إلى ما يسميه القاموس السياسي اللبناني ب«طاولة الحوار الوطني».. وهنا الإشكالية الكبرى. لبنان اليوم أشبه ما يكون ببرج بابل بعد أن بلبل الله ألسنة أبنائه فتفرقوا أيدي سبأ لعدم فهمهم لغة بعضهم البعض: كل شريحة مذهبية تتحدث لغة مختلفة تماما عن لغة أتباع المذهب الآخر، وكل فئة حزبية - حتى وإن تكلمت العربية - تنطقها ب «لكنة» لا تمت كثيرا إلى اللهجة اللبنانية التقليدية.. هذا في وقت لم يسبق فيه للمذهبية السياسية أن أصبحت شعار العمل السياسي في لبنان كما هي اليوم. ويبدو أنه لم يعد خافيا على دعاتها أنها تشكل مدخلا سهلا للتسلل إلى السلطة، إضافة إلى أنها تمنحهم «حصانة» طائفية متينة بحيث لا يحاسبون على تصرفاتهم السياسية وحتى الأمنية مهما اشتطوا بها خصوصا إذا عمدوا إلى إطلاق لحاهم في محاولة لإضفاء «وقار ديني» على مناوراتهم السياسية. وكأن «مذهبة» العمل السياسي لا تكفي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان، تطالب كتلة وافرة من نوابه وأقطابه بتحويل المذهبية إلى مؤسسة برلمانية قائمة بحد ذاتها عبر دفعهم لإقرار مشروع قانون الانتخاب المعروف ب«الأرثوذكسي»، وهو قانون يحصر حق انتخاب نواب كل طائفة في لبنان بأبناء هذه الطائفة دون غيرهم من اللبنانيين «الدخلاء» على دائرتهم الانتخابية.. ما يعني أن برلمان لبنان القادم سيكون - في حال إقرار هذا القانون - مجلسا مليا بامتياز. من هنا دقة الأزمة الحكومية الراهنة في لبنان، فهي تحدث في مرحلة «تعطلت» فيها لغة الكلام وفي أجواء تشنج، يعكسها تربص كل فئة مذهبية أو حزبية بالأخرى، وفي وقت ينتظر خلاله الجميع انقضاء «الوقت الضائع» قبل حسم الثورة السورية مصير النظام في بلادها.. ووضع أتباعها في لبنان استطرادا. لذلك تبدو مهمة إعادة خطوط التواصل بين مختلف الفرقاء اللبنانيين المقدمة المطلوبة لتشكيل حكومة إنقاذ تضم كل الأقطاب السياسيين وشبه السياسيين، بصرف النظر عن اللغات أو اللكنات التي يعتمدونها في التخاطب.. والأصح التخاصم السياسي على أن تكون أولى أولوياتها عقد طاولة حوار وطني جدي يضع نصب أعينه تحديد مستقبل اللبنانيين وهويتهم قبل تمديد نفوذ الآخرين في أرضهم. قد لا يكون من المبالغة في شيء القول بأن حكومة لبنان المنتظرة ربما ستكون آخر محاولة لتجنيب اللبنانيين مصير أهل برج بابل.