أثار التعاطي مع قضية مرض الرئيس بوتفليقة من قبل السلطات تساؤلات وتعليقات شتى تلتقي معظمها في غياب الشفافية والإقناع، ولمعان الخطاب الصامت المكتنف بالغموض والضبابية.. والغريب أن الإعلان عن مرض الرئيس إثر إصابته بوعكة صحية مباشرة أشاع بعض الأمل لدى المراقبين، معتبرين ذلك خطوة جيدة في مجال التواصل والإتصال مع الرأي العام. إلا أن مثل هذه الخطوة الجيدة سرعان ما انكفأت على نفسها بمجرد مرور أيام على مرض الرئيس، حيث اعتبر الوزير الأول أن الرئيس تحسنت حالته الصحية وأنه يتابع عن كثب ملفات السياسة الوطنية، إلا أن التصريح عانى من انتفاء قوة الصدقية في غياب الصور التي تثبت كلام الوزير الأول وغياب الدقة في الخطاب.. لكن هل ذلك يعود إلى نقطة تتعلق بمجال الإتصال، أم يعتبر هذا جزءا من استراتيجية قد نصفها بسياسة السلبية الفعالة. وقد يبدو أن السلبية تتناقض أساسا مع الفعالة التي تدل على الحركة والإيجابية، لكن هذا على مستوى الظاهر اللفظي، إلا أننا نرى من حيث الجوهر أنه قد تكون السلبية فعالة من حيث انعكاساتها في الميدان وعلى توجهات الشأن العام والسياسات المتبعة سواء داخليا أو خارجيا.. وترجع جذور هذه.. السلبية الفعالة.. كسياسة وتصور ونهج واستراتيجية، إلى حقبة ميزت الجزائر بانسحابها من الواجهة الدولية كلاعب فاعل وانشغالها بمشاكلها الداخلية، وذلك منذ الفترة الأخيرة من مرحلة الشاذلي بن جديد، وما تلا رحيله عن الحكم من عواصف ونزاعات وصراعات كانت في أغلبها حادة وعنيفة ودموية. خلال هذه الفترة أثيرت أسئلة عديدة في غياب الإجابات الواضحة والدقيقة، ومنها ما تعلق بما جرى من تراجيديا إثر إيقاف المسار الإنتخابي. وبالرغم من عودة الجزائر إلى الشرعية بعد انتخابات 95 الرئاسية، إلا أن سؤال من يحكم وكيف يحكم بقى غامضا، وهذا ما أوحى أكثر من مرة عن تعدد مراكز القوة ذات الطابع غير الواضح وغير الدقيق في إدارة دفة الحكم وفي صناعة القرار، وبالتالي في رسم الإستراتيجيات والسياسات التي غالبا لا نعرف بالضبط من يقف وراءها ومن يرسمها على الأرض، وفي ظل أي إطار أوميكانزمات.. وهذا ما كان يجعل من العطالة تبدو القانون الأساسي الذي يحكم السياسة الجزائرية.. وتحولت هذه الملامح إلى سياسة أو آلية يمكن وصفها أو تسميتها بالسلبية الفعالة، مع فترة عبد العزيز بوتفليقة التي استمرت أكثر من 10 سنوات، والأمثلة على ذلك عديدة، فالوئام المدني الذي كان مخططا له أن يتحول إلى مصالحة وطنية ذات مضمون نوعي جديد يوفر الإنتقال إلى مرحلة حكم توافقي جديد، توقف في منتصف الطريق، ولم يتجاوز الحدود التقنية إلى الفضاء السياسي، ليحدث قفزته النوعية في المخيال وفي الميدان. ونفس الشأن حول ما أثير عن القيام بالإصلاحات الكبرى.. فالسلبية هي التي تغلبت وكانت انعكاساتها عميقة في الميدان على وجهة ووضعية الفاعلين الآخرين.. كذلك الأمر بالنسبة لتعديل الدستور الذي أثيرت مسألته منذ قدوم بوتفليقة إلى الحكم.. وكذلك ما يتعلق بالمسائل الدولية الحساسة مثل العلاقة مع إسرائيل، فبعد أن قام بوتفليقة بالمصافحة التاريخية مع باراك سرعان ما تبع ذلك جمود غامض.. ولما اندلعت نيران الربيع العربي أثار الموقف الجزائري الرسمي عدة ردود أفعال، اتصفت كلها بالحدة النقدية تجاه غموض وليس الموقف الجزائري الرسمي تجاه ما حدث أوما يحدث على الساحة العربية.. إلا أن هذه السلبية التي لمع بها بوتفليقة سرعان ما أصبح ينظر إليها من طرف البعض على أنها حكمة وبعد رؤية، خاصة بعدما عرفته بعض دول الربيع العربي من قلاقل واهتزازات ونزاعات.. أن هذه السلبية الفعالة حافظت بشكل مؤقت على استقرار الوضع في الجزائر. وتمكن الحكم في ظلها من توظيف الوقت الكامل لصالحه وبالتالي تحقيق بعض انتصاراته ذات الطابع التكتيكي واحتواء عدم الرضا، وفي الوقت ذاته كسب ثقة بعض القوى العظمى في مجال أداء الخدمات الخاصة، خاصة ما تعلق منها بمكافحة الإرهاب.. وهذا ما برز مؤخرا في التعاطي مع مرض الرئيس وإدارة الفترة الصامتة التي لا تفصلها سوى أشهر عن موعد تاريخي كبير، وهو الرئاسيات القادمة.. لكن هذه السلبية الفعالة بقدر ما مكنت أصحابها من الإستمرار في إدارة اللعبة السياسية من منظار أحادي وفر نصرا مؤقتا للنظام، إلا أن الإستمرار فيها يشكل خطرا قد تتولد عنه لحظة انفجار للتناقضات المروضة يصعب التحكم فيها وفي توجهاتها، وعندئذ نكتشف أن حلبة الصراع قد لا يعترف أصحابها الجدد بأي قاعدة للعبة وبأي حكم.. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه ساعة الإنهيار الكبير..