لا توجدُ "يوتوبيا" مرجعية (جاهزة)، يستند عليها كلُّ مشروع كاتب لضمان انتماء أكيد لحقل الكتابة الإبداعية، وإنما لكلّ كاتب/ مبدع، بحكم تكوينه النفسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي، قدرته على خلق "يوتوبياه" بوصفها "فانطازما" ذاتيا، هي بالنهاية والأساس ما يميّزه عن غيره من المشتغلين بالحقل نفسه، وهي في ذات الوقت "وقوده" لتحقيق صفة الإبداعية للكتابة، والنأي بها عن جبروت الاجترار والصنمية والسطحية والسخافة. «اليوتوبيا" ليست انفصالا عن "الواقع" أو تجاوزا له، وإنّما هي اختراق لمآلاته وتثوير لأقصى حدود ممكناته غير المنظورة، وهي بذلك وصفة سحرية في غاية الذاتية، ستحدّد لا محالة الصفات غير المشتركة بين كاتب حقيقيّ وآخر موغل في الزيف: ثمَّ فرق جوهريّ، مثلا، بين كاتب يقضي شهرا كاملا ليرضى نسبيا عن صياغته لفصل من روايته في حدود خمس مئة أو ألف كلمة، وآخر يكتب روايتين في شهر واحد بسلخه عبارات وجمل من كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية وحوارات الأفلام المدبلجة. هل يُعقل أن يقنعني كاتب ما، ممّن يزخر بهم مشهدنا الإبداعي، بقصة "حبّ" وأنا أعرفُ مسبقا أن هذا الكاتب لم يسبق له أن أحبّ أيَّ شخص في حياته، بل إنه كتلة من العقد والحقد والكره، ربما كان سيكتبُ أجمل قصة "حقد" لو استثمر هذا الجانبَ المعتمَ في ذاته، وينجحُ بالتالي في إعطاء قارئيه وإقناعهم بالصفات النوعية للحاقد (هي قصّته بلا منازع)، بدلا من محاولاته اليائسة في أن يقدّمَ "صورة" عنه لا علاقة لها لا بالواقع ولا بال "يوتوبيا" (هي لا قصّته أبدا). ثم فروقات جوهرية بين "اليوتوبيا" و«الانفصام" في الشخصية، يُمكنُ كذلك التفريقُ على ضوئها، بين "الأصيل" في الكتابة و«الدخيل" عليها. إنها الفروقات ذاتها بين "نجمة" كاتب ياسين، والأعمال الكاملة لأحد الشباب المتشبّهين به ممن يرتكبون الأخطاء النحوية في عناوين رواياتهم، ويتركون العنان ل "مؤخراتهم" و« بطونهم" تنتفخُ بشكل عجيب وغريب، هو في الأصل سرُّ "اختلافهم" عن الأصل. وعلى هذا الأساس، ومصداقا للحكمة العربية القائلة (كلُّ إناء بما فيه ينضح)، فإن لكل حالة إبداعية جانبها الضروري من الحلم والوهم و«اليوتوبيا".. لتنتقل الكتابة من "السخافة" في نقل الواقع أو "سلخه" إلى رحابة "تخليقه" وتنويع مصادر حياته وديمومته كاحتمال أبدي للجمال لا يتوقفُ أبدا عن إثارة سبب وجوده واختلاف "محبيه" عن أسباب حبهم له، والسرُّ الكامنُ وراء هذا هو أنَّ "اليوتوبيا" ليست "وصفة" جاهزة، يسهلُ تعميمها.. إنما هي "برزخ" الوجود، وجوهر الكتابة وعنوان إبداعيتها. لا يحتاج الكاتب إلى استعارة ما ليس فيه من "أوهام" و«أحلام" و«فانطازمات" و«يوتوبيا"، وإلا صار تاجرَ "خردوات" في سوق الإبداع الوطني والإنساني، قد تذكره السوق المحلية بحكم نشاطه في "المكس"، وسوف يختفي تماما من المشهد بدخول "مكّاس" جديد للسوق، يكون بالضرورة صنوا له في "الانتهازية" و«الزّيف" و«الجشع". الكتابةُ الإبداعية سلوك إنساني راقٍ لا يقبل بالوسطاء والأشباه والمتشبهين.. ووراء كل كاتب "عظيم" "يوتوبيا" أصيلة، نابعة من حبّ الحياة والرغبة بتجاوزها، وخلقها من جديد. تلك هي المسألة:(الحياة دوني ليست بالضرورة سيئة، وعلي بالتالي أن أوهمها بالعكس.. ثمَّ اليوتوبيا سبيلي الوحيد لإثبات جدارتي بالحياة). لم يكن ممكنا أن أكتبَ (أنا لست بخير)، وأضعَ بها حدّا لحياتي الشعرية لو لم أكن وفيا لأوهامي و«يوتوبياتي" الجشعة للبقاء على "القيد".