وتقوضت الإيديولوجيات، وانهارت السياسات، وتبخرت كل تلك الأشكال القديمة من الإنشاءات.. لنجد أنفسنا الآن أمام مهمة ملحة وحيوية وضرورية لإعادة إنتاج أسئلة أخرى، تنطلق بدءا من حقبة ما بعد "الاستشراق" كلحظة تأمل ومساءلة مغايرين.. -1- قبل ثلاثة أشهر وجهت إلي دعوة من طرف وزارة الثقافة والفنون الشعبية لدولة قطر، لأحاضر في جلسة أمام جمع من المثقفين العرب حول موضوع "من يكتب التاريخ؟!". وكان من أشار على المنظمين دعوتي، صديق جزائري إعلامي وكاتب مقيم بالدوحة.. ولقد تواصل معي الأستاذ عصفور لنتناقش وإياه حول طبيعة الإشكالية. ولقد حضرت مداخلتي حول العلاقة بين الجزائروفرنسا، سواء تعلق ذلك بمسألة كتابة التاريخ وتأويله والتعاطي معه خلال فترات مختلفة متباينة انطلاقا من الرسومات المختلفة والمتباينة الموازين والقوة.. وانطلاقا من تحول التاريخ نفسه إلى أرضية للصراع بين المخاييل والاستراتيجيات المتحولة والعوالم غير المنظورة والمرئية واللغات ذاتها، وهي تتسربل بأزياء متعددة ومختلطة.. تعاطيت مع الموضوع كمحلل يعتمد التفكيك وإعادة التركيب والتشكيل والصياغة المتجددة التي لا تعترف بالحدود المتخيلة أو الحقيقية على أرضية الفكر والإنشاء، وليس كمؤرخ أكاديمي أو تقليدي. وبالفعل، أثمر اللقاء نقاشا متعددا ومفتوحا ومتجاوزا كل ما هو مشجع على التسييج. وكان ما شجعني على التركيز على تلك العلاقة الشائكة بين فرنساوالجزائر، عدة دوافع، منها مرور خمسين سنة على استقلال الجزائر تميزت بركود في الساحة الثقافية والعلمية بالجزائر. وباندفاع متجدد لإثارة المسألة التاريخية والكولونيالية، وما بعد الكولونيالية في إعادة الكتابة والمساءلة في الوسط الثقافي والعلمي والأكاديمي والإعلامي الفرنسي. والدليل الساطع على ذلك، هو الكم اللافت للنظر في النتاجات الثقافية والتاريخية والأدبية والفنية في الساحة الفرنسية، وما ارتبط بذلك من لقاءات وملتقيات وتظاهرات.. بينما عندنا كان المشهد محزنا وبائسا ومثيرا للأسف الغاضب والكآبة. لم تتعد التظاهرات مستوى الحالة الرسمية، أو الانتقالات ذات الطابع السطحي والنفعي ببعده الضيق والريعي والانتهازي.. ومع كل ما يدعو إلى القنوط، فإن ثمت أعمالا تتعلق بالمذكرات والشهادات وبعض المحاولات في الكتابة التاريخية، والتي ليست بالضرورة ذات صلة مباشرة بالخمسينيات، ظهرت خلال السنوات والفترات الأخيرة، يرجع بعضها إلى العشرين سنة الأخيرة تستحق القراءة والاهتمام، لما احتوته من قيمة معلوماتية جديدة قد تساعدنا على فهم أحسن لأشياء عديدة مازالت في طي الغموض والالتباس.. ومن بين هذه الأعمال والكتابات التي لم تلق اهتماما أو تنبيها، يمكن ذكر كتابين جد مهمين للمفكر مالك بن نبي، صدرا ضمن مجلد احتوى كتابين قديمين، وهما: الطفل والطالب، وهذان الكتابان هما مذكرات كاتب ويوميات تمتد من العام 1948 إلى غاية 1973، أي إلى أيام قلائل قبل وفاته.. دار النشر هي رحمة، ولكن إلى حد الآن لم يشر المعلقون إلى هذين العملين المهمين من حيث المعلومات التي تضيء مرحلة حاسمة من تاريخنا الحالي، سواء ما تعلق بحرب التحرير وصراعات فاعليها، أو ما تعلق بالسنوات التي تلت الاستقلال خلال فترة الستينيات وبداية السبعينيات.. وأيضا يمكن الإشارة إلى كتاب في غاية الأهمية أعادت طباعته دار بوشان، للطبيب الجراح مارتيني ميشال، وهو من مواليد 1926، انضم إلى الثورة الجزائرية في بداياتها، وسجن بوهران عام 1956، تم طرده من الجزائر، واتجه إلى تونس ليكون في صفوف جبهة التحرير. وفي مذكراته الممتدة من 1946 إلى غاية 1972 يكشف مارتيني عن عدة أسماء وقضايا تتعلق بحرب التحرير، وبرجالاتها وبصراعاتها وبآمالها وأتراحها وخيباتها.. رسم الحياة من داخل مؤسسات الثورة وفي زوايا كواليسها المظلمة. وكذلك الإشارة إلى أعمال سيلفان باتيو عن إسهام اليساريين في صفوف جبهة التحرير التاريخية في مقارعة الاستعمار. و«جنان الزيتون"، وهي مذكرات الشيوعي وليام سيورتيس الذي اختار جبهة التحرير، واختار الجزائر الثائرة والمستقلة على فرنسا وعلى قومه، فهو يهودي جزائري وشيوعي.. والشهادة الثمينة لرئيس الهيئة التنفيذية عبدالرحمان فارس الذي أشرف في ظل مرحلة دقيقة على نقل السلطة من فرنسا الكولونيالية إلى الحكومة المؤقتة التي كان على رأسها ويوسف بن خدة... لكن المحزن والمحير أن هذه الأعمال التي صدرت لم تلفت إلى يومنا، ونحن ننتهي من الاحتفال بخمسينية الاستقلال، نظر الجامعيين والمثقفين والمعلقين لإثارة نقاش سواء على أعمدة الصحف أو في الفضاءات العمومية.. أين يكمن الخلل يا ترى؟!! -2- دخل "الاستشراق"، وذلك منذ أن أثار تلك السجالات في أوساط العائلات الثقافية والإيديولوجية، والقبائل الأكاديمية والعلمية في أمريكا وأوروبا والبلاد العربية، وبالرغم من أن سعيد حاول توسيع رقعة الاستشراق، ومحاولة تجاوزه إلى أعمال أخرى مثل "الثقافة والإمبريالية" و«نفطية الإسلام".. إلا أن الاستشراق ظل يشكل بالنسبة لسعيد وقرائه وأصدقائه وأنصاره وخصومه الكتاب الأساسي، والمرجع الأساسي، والنظرية التي شكلت لحظة التأسيس، وحالة الحذر لكل تلك الكتابات والمحاولات التي تلت عمله الأساسي الاستشراق.. ولقد كانت هناك انتقادات متعددة وعنيفة في كثير من الأحيان ضد سعيد، مثلما كان الإطراء الذي كاد يصل عند البعض إلى درجة تحويل سعيد إلى أيقونة، وخاصة بعد رحيله المحزن إثر سقوطه صريعا بمرض السرطان.. إن سعيد شكل ظاهرة مثيرة للجدل ومولّدة للسجالات المتضاربة باعتباره ناقدا، ومؤوّلا ومفسرا في مجال النقد الثقافي، ولما يشكله من تركيبة ثقافية معقدة وشديدة الازدواج.. كفلسطيني، عربي ومسيحي، وكأمريكي أقرب إلى النقدية اليسارية ذات الاحتكاك مع إرث نيتشه وفوكو وغرامشي، ولكن كذلك فرانز فانون صاحب تلك الروح المزمجرة والخلاقة المتجلية في عمله الأساسي والفريد والمهم "معذبو الأرض". وأرى أن الفانونية وجدت سبيلها إلى عقل سعيد بقوة وعنفوان حيويين، حتى وإن كان الكثير ممن اهتموا بسعيد عربا كانوا أم أجانب لم يعطوا للفانونية حقها كقوة ملهمة لوجهة سعيد الفكرية والثقافية النقدية ولموقفيّته السياسية.. لقد كان فانون يحمل عبئه باعتباره صاحب بشرة سوداء ملعونة ومقهور، كما يحمل المعذب المسيح صليبه على ظهره.. وكان انصهاره في تجربة حرب التحرير الجزائرية أساسا، كأرضية للتحرر الجمعي، العرفي، الثقافي وبالتالي السياسي، بمثابة الطريق الملهم لإنجاز فعل الخلاص، والذي هو في جوهره وفي نهاية المطاف عملية محو عنيف للنظام الكولونيالي. وكذلك كان الأمر بالنسبة لسعيد، المستأصل من أرضه المقدسة (القدس)، والتائه في بلاد الغرب. وهذا الغرب، هو ذات الغرب الذي هجاه فانون ورأى فيه مصدر الظلم المطلق، والقهر المطلق، والعنف المدمر المطلق للهويات وللثقافات الأخرى.. لقد صدر "الاستشراق" في منتصف السبعينيات، وكان يومها أستاذا في جامعة ستانفورد، وكان العالم العربي في مفترق الطرق، يعيش اختبارا حقيقيا في مجال الأفكار والاستراتيجيات ووجهات القوة.. صراع بين الفكرة القومية المتأرجحة بين إغراءات التسلط والمقاومة والاستسلام، والفكرة الدينية المحافظة المنضوية تحت مظلة الأنجلوأوروبية، بحثا عن الحماية مجددا. وصراع بين الأمل واليأس، وبين الرؤى الجريحة بفعل الهزائم المتتالية والانتصارات الخادعة. لكن لم يمر وقت طويل ليجد العالم العربي نفسه يدخل أتون انهيارات كبرى ومتسارعة، بدءا من اجتياح لبنان على يد الجيش الإسرائيلي وطرد المقاومة الفلسطينية من الأرض اللبنانية، وحدوث مجزرة مروعة مثل مجزرة صبرا وشاتيلا أمام أنظار العالم وعجز العرب، واغتيال السادات على يد جهاديين على المباشر، ودخول العراق في حرب مرعبة ضد إيران، واندلاع الجهاد في أفغانستان، وميلاد جيل جديد من المجاهدين العرب الجدد. واندلاع حروب أهلية معقدة ومتعددة بدءا من لبنان مرورا بالجزائر، وانتهاء بالعراق وسوريا. وما تخلل ذلك من حراك معقد وصف بالثورة حينا وبالتمرد حينا آخر، و ب"ما" بين هذا وذاك أحيانا أخرى.. تداعت اليقينيات، وتقوضت الإيديولوجيات، وانهارت السياسات، وتبخرت كل تلك الأشكال القديمة من الإنشاءات.. لنجد أنفسنا الآن أمام مهمة ملحة وحيوية وضرورية لإعادة إنتاج أسئلة أخرى، تنطلق بدءا من حقبة ما بعد "الاستشراق" كلحظة تأمل ومساءلة مغايرين.. ما الذي يمكن أن تعنيه اليوم أوصاف مثل "عربي" أو "ثورة" أو "إسلام" أو "عرب"؟ لقد كان سعيد الاستشراق هو نهاية وبداية مفتونة في الوقت ذاته بكل ذلك المسار الذي أطلقه مفكرون عرب ومسلمون وأفارقة وآسيويون، نذكر منهم: ياسين الحافظ، إلياس مرقص، فرانز فانون، جلال العظم، أنور عبد المالك، حسن حنفي، عمار أوزڤان، عبدالله العروي، عبد الكبير الخطيبي، محمد أركون... ويقول الكثير من المراقبين والمثقفين والسياسيين والمعلقين إن ما حدث فيما وصف بالربيع العربي، كان مفاجأة للعديدين. وهذا ما خلق هوة كبيرة اليوم بين الفكر والممارسة، بين النظرية وما يحدث. ومن هنا تعتبر اللحظة الراهنة والمندرجة في سياق ما بعد الاستشراق، هي البداية لتدشين قراءات، وليس فقط قراءة لما قبل وما بعد حقبة الاستشراق.. -3- اتصل بي، ذات صباح قبل أيام، صديقي وزميلي الإعلامي سعيد نمسي عن طريق الهاتف، وتفاجأت عندما أخبرني أنه في مقر التحرير بالجريدة، شارع بيردو، وكنت لحظتها غارقا في عمل إداري بدار الصحافة في ساحة أول ماي. طبعا كان الأمر سارا بالنسبة لي، لأنني اشتقت إلى هذا الجليس الذي غادر الجزائر إلى فرنسا منذ خمس سنوات مضطرا بسبب ظروف عائلية.. وكان سعيد من حين إلى آخر يتصل بي ويقترح علي مواضيع للنشر، البعض منها تقديم كتب، وترجمات، والأهم من كل ذلك، اقتراحه لي كتابا تاريخيا له أهميته بالنسبة للإعلاميين، لكن أيضا بالنسبة للكتّاب، يتعلق بالسجون المرعبة التي أقامتها فرنسا في مستعمراتها، مثل سجن كَيان الرهيب، ولقد كتبه مؤسس فن الروبورتاج، ألبير لوندر، صاحب رائعة "دانتي لم ير شيئا". قام سعيد بترجمته من الفرنسية إلى اللغة العربية. ولقد قامت منشورات سقراط التابعة للجزائر نيوز بنشره. ولكم تمنيت، من خلال نشره، أن يطلع عليه الإعلاميون والمثقفون والقراء عموما، وذلك لما يكتسيه الكتاب من أهمية وثائقية ومتعة أدبية وإعلامية.. التقيت بسعيد نمسي في اليوم التالي بمشرب فندق جنيف، ثم اتجهنا إلى المكتب واسترجعنا ذكرياتنا في العشرية الحمراء، عندما كان هو في جريدة الوقت، ثم الخبر، وكنت أنا لحظتها على رأس تحرير أسبوعية الحدث التي تعرضت في منتصف التسعينيات إلى الحظر، واضطررت بعدها إلى مغادرة الجزائر العاصمة وبوفاريك لأمكث مدة عامين ونصف بسيدي بلعباس.. قبل عودتي من جديد إلى الجزائر العاصمة لأخوض مغامرة الخبر الأسبوعي عام 1998.. وفي جلستنا الحميمية تلك استعدنا وجها رائعا، دافئا وعبقرية موسيقية حاصرها الإهمال وثقافة اللاعرفان، واللااعتراف، وهي شخصية فنان العود، عللا، كلانا مولع بهذا الفنان الفذ، الذي أبدع في العود بحيث أنتج طابعه الخاص والذي سماه ب«الفوندو".. لم ألتق في حياتي بعللا، وإن تمنيت ذلك أكثر من مرة.. اكتشفت عمله الفني في منتصف الثمانينيات عندما كنت رفقة سعيد نمسي في الخدمة العسكرية التي قضيت فترة التدريب منها في ثكنة فظيعة بمدينة تيارت، ومن يومها رحت أقتني كل تلك الأشرطة ومن بعدها السيديهات ذات القطع الموسيقية المتسمة بالخلق والتجديد. وفيما يبدو أن عللا الذي انزوى بضاحية في باريس قد قطع كل صلة تربطه بمسقط رأسه القنادسة ببشار، وبالجزائر. ويقول سعيد الذي التقاه أكثر من مرة، إن الرجل يحمل جرحا عميقا، وكآبة لا تضاهى تجاه بلده الذي لم يقدره، وحط من شأنه. طبعا عندما أقول البلد أقول الرجال المخيبين والرجال الموئدين للمواهب والأصالات.. الرجال أو بتعبير أصح أشباه الرجال، وأشباه المسؤولين الذين أفلحوا في تطويق كل ما هو جميل وخلاق وولاّد للحساسيات الجميلة، ولم يخلقوا من حولهم وحولنا سوى تلك الرائحة الكريهة والنتنة للرداءات الحاملة أقنعتها المضللة والخادعة.. وفهمت من سعيد أن الرجل طوى صفحة بينه وبين مسقط الرأس والبلد، واكتفى أن يغرد هناك بعيدا في صمت وخلف الستائر؛ ستائر الزمن الكثيف، الصامت والرمادي، بحيث لا يبقى لنا سوى أصداء هذا الصوت؛ أصداء هذه العبقرية المتخفية تذكّرنا كآبتها بزمن قد نسميه ذات يوم غائم ومتداع زمن عللا.. عللا الشبح، عللا الذكريات الدفينة تحت رماد الذاكرة.