الفكر العربي لم يتخلص من ظاهرة الاستعمار في كيانه يعتقد الدكتور وحيد بن بوعزيز والأستاذ عبد الكريم أوزغلة، الباحثان في قضايا الاستشراق والاستعمار، أن الخطاب الاستشراقي رافق الحملة الاستعمارية وكرّس فكرة هيمنة الغرب على الشرق، وتجلى ذلك حتى في الإنتاج الأدبي والفني الذي رافق الحملة الاستعمارية وكان جزءا منها، وأشارا إلى أن جزءا كبيرا من الفكر الغربي تخلى عن عقدته ودعا إلى حوار متساوٍ، لكن الفكر العربي لم يتخلص من ظاهرة الاستعمار في كيانه. يرى الدكتور بن بوعزيز أن الدراسات الاستشراقية من المنظور التاريخي كمؤسسة، تجاوزت تنظير الأفراد إلى تنظير المؤسسة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويرى كثيرون، وعلى وجه الخصوص إدوارد سعيد، أن هذا الانتقال يعود إلى البعد الامبريالي الذي وجد صداه الكبير في القرن التاسع عشر، فليس هناك من خطابات معزولة بل كل ذلك مرتبط بالقوة. وقال الدكتور بن بوعزيز، خلال مشاركته في ندوة ''الخبر'' حول طبيعة الاستشراق، رفقة الأستاذ عبد الكريم أوزغلة، إن الخطاب الاستشراقي ساهم في إفادة الامبريالية مثلما ساهمت هي في إفادته وقد جرى تواطؤ تاريخي بينهما. ويكمن هذا التواطؤ في ما يسمى بتمثلات الآخر، حيث ساعد الخطاب الاستشراقي في موضعة الآخر وخلق مسافة بين الأنا الغربي والآخر الشرقي، فقام بمحو كل التفاعلات الثقافية. فأرنست رينان، مثلا، كان يعتقد أن الخطاب الشرقي له جوهرانية خاصة والخطاب الغربي بدوره يملك خاصيته، إذ يعتقد أن ابن رشد شوّه الفكر الغربي. وتقوم إستراتيجية الاستشراق على خلق مسافة بين الشرق والغرب. وحسب هذا الخطاب، فإن الشرقي بعيد كل البعد عن الحضارة والعقلانية، وكل هذا لتبرير الحملة الاستعمارية عليه. من جهته، قال عبد الكريم أوزغلة بخصوص تعريف الاستشراق: ''هو طلب معرفة الآخر الشرقي من أجل التمكن من السيطرة عليه؛ معرفة قيمه الثقافية وعقائده وانتماءاته الروحية وطباعه وردود أفعاله. ومع تحول الاستشراق إلى مؤسسة تعضد الامبريالية، صار مطلب معرفة الآخر أمرا ملحّا ليس من أجل التفاعل معه أو محاولة الاستفادة منه وإفادته، وإنما من أجل السيطرة عليه وتقديم الصورة التي تبلورت عند هذا الغرب عنه كما لو أنها الحقيقة التي لا تقبل النقاش. وقد سار تطور الفكر الاستشراقي بالتوازي مع تطور الإمبراطورية أو الامبريالية، إلى جنب مؤسسة الاستعمار، حيث نجد إمبراطورية الفكر والمعرفة التي تعطي الجانب المصلحي والأيديولوجي أهميته المقررة سلفا.. في ظل هذه الأطروحة لم تعد المعرفة مطلوبة لذاتها بل صارت أداة تخدم الحملة الاستعمارية، ومنها توجيه القارئ لهذا العالم حتى لو تطلب الأمر ترجمة ألف ليلة وليلة، واعتبارها وثيقة اجتماعية تساعد المؤسسة الاستعمارية على الانتشار''. فانون اعترض على فكرة ابتعاد الجزائري عن الحضارة وفي ما يتعلق بالتجربة الفرنسية، قال بن بوعزيز: ''لا ننسى أن فرنسا كغيرها كانت تتنافس على المستعمرات. في البرلمان الفرنسي مثلا، كان هناك دائما اعتراض كبير بين المناوئين للاستعمار، ليس ضد الاستعمار في حد ذاته بل من أجل الاستعمار الهادئ. وهناك من كانوا يفكرون بطريقة مباشرة ويفضلون الاستعمار والإبادة معا. كانت هناك مشكلة أن الاستشراق ساعد المؤسسة الاستعمارية وخلق اختلاقات المتوحش، بمعنى أن الآخر يختلف عني بشكل تراتبي، على طريقة الداروينية التي ترى الشرقي متدنيا، فكل من أرنست رينان ومونتسكيو وكوندورسيه وخطاب العنصرية الاستعمارية، ساهموا في تجسيد هذا الخطاب. والبداية كانت، طبعا، كعنصرية عقلانية، لكنها تطورت لتغلف خطابها بالطابع العلمي، لهذا نجد أن فرانز فانون في رده على ''مانوني''، منظّر العنصرية النفسانية، يرد ردا عنيفا في كتابه ''بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء''، على فكرة العنصرية العملية، ويعترض على فكرة أن الإنسان الجزائري فقد علاقته بالحضارة لأن له ''مخ صغير'' كما تروّج الداروينية''. وعن سؤال حول الخطاب المعادي لهذه العنصرية في الغرب، قال وحيد بن بوعزيز: ''فعلا ظهر المعادون للاستعمار خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على غرار الروائي جوزيف كونراد الذي انتقد الاستعمار وكذا ألبير كامي. لكن النصوص الأدبية، وبالأخص رواية ''في قلب الظلام'' لكونراد، نجدها مدججة بالخطاب الاستعماري. كما أن كامي كان ينتقد الاستعمار وكان يتصور وجود ثلاث طبقات للفرنسيين، فهناك الفرنسيون من الأصول الفرنسية أو المعمرون، وهناك الفرنسيون من الدرجة الثانية ويقصد البسطاء، والأغلبية الساحقة وهم الأهالي. كامي ينتقد الاستعمار، لكنه يدافع عن طبقته من الدرجة الثانية، ونجد في نصوصه أن الطبقة الثالثة غير موجودة. وهذا يخدم نظرية الاستعمار على أساس أن المكان فارغ ويجب ملأه''. وفي نفس السياق، عاد أوزغلة لرواية ''الغريب''، وتساءل: ''لماذا هذا التغييب لهوية هذا الذي يسمى العربي؟ ''ميرصو'' بطل رواية ''الغريب'' يذكر بالاسم، في حين أن الأهلي يذكر بهوية ضبابية ودون تعيين وهو ''العربي''، دون خصائص نوعية ثقافية أو اجتماعية، ولا حتى وقائع الأفعال، وحتى دون أن يتكلم، بل هناك من يتكلم في مكانه''. وعن المقاومة للخطاب الفكري العنصري من قبل الأهالي، قال بن بوعزيز: ''لو نتكلم عن الجزائر، فإننا نجد أن بداية ما يسمى الخطابات المعادية للاستعمار تأخرت كثيرا، بدأت بكتاب ''المرآة'' لحمدان خوجة وخطابات الأمير عبد القادر، ثم برز تيار ''المتجزئرين'' مع لويس برتراند. ونلاحظ أن الجزائريين سايروا هذا الخطاب على أساس أنه يدعو إلى الانفصال عن المتروبول، لكن المشكل أنه يتفق مع غايات استعمارية امبريالية. فالانفصال يخدم المعمرين ولا يخدم الأهالي، ومن هذا الخطاب تشكلت أيديولوجية الأقدام السوداء الداعية للانفصال عن المحلية الاستعمارية، من أجل فرض هيمنة محلية، لكنها احتفظت بنفس العنصرية تجاه الأهالي''. وحلل أوزغلة هذه الفكرة المتعلقة بفك الارتباط عن المتروبول، فقال: ''لكن في نفس الوقت هناك تدعيم للأواصر التي جاءت في الخطاب الاستعماري الذي يقول إنها جاءت لتعيد الصلة التي افتقدت لقرون مع التراث اللاتيني الروماني الموجود في الجزائر، فحينما وطدت فرنسا أركانها هنا توجهت هذا التوجه الذي يحاول معرفة تاريخ المنطقة من خلال الآثار الباقية، وتمت إضافة هذا التوجه في الدراسة نحو الموضوعات الانتروبولوجية لتعزيز الهيمنة وإبراز الصلة بين فرنسا الاستعمارية وماضي المنطقة الذي افتقد بسبب الإسلام. المهمة، إذا، هي إحياء هذه الصلة وتطوير المنطقة وتنويرها، حسب زعمهم. ومن هنا فالنزعة الجزائرية ليست في الواقع فكا للارتباط مع المتروبول، بل تعزيز بالتفافة له عبر الأيديولوجية الاستعمارية''. الأدب الغربي خدم الإمبراطورية الاستعمارية وعن سؤال حول بروز العقلية الاستشراقية في الإبداع، ذكر بن بوعزيز أن الأدب تواطأ كثيرا مع صناعة مخيال استعماري، حيث تمثلت الوظيفة الأولى للأدب في وضع الآخر موضوع دراسة، وقال: ''لو نشتغل على بعض المذكرات كمذكرات أوجين دوماس مثلا، حول القبائل، نجد شيئا لم يذكره حتى إدوارد سعيد وهو ما يتعلق ب''النوفونية''، حيث إن السارد يتكلم مكان الأهالي، في حين ترك ''دوما'' المجال للأهالي بواسطة التعدد الصوتي، محاولة منه للاقتراب من الواقع وفهم الآخر، ثم بعد معرفة الآخر أصبح إفراغ الآخر من محتواه الإنساني هو المهم. اتيان ديني الذي أسلم بعد عودته من الحج، ألّف نصا روائيا من صميم الخطاب الاستشراقي الغرائبي ''خضراء راقصة أولاد نايل''، حيث أعاد إنتاج الخطاب الاسشتراقي حول المرأة النايلية في صمتها وحضورها عبر جسدها فقط''. ويعتقد أوزغلة أن الاستعارة تتجلى من خلال هذه العملية الإغرائية، فقال: ''إغراء مواطني المتروبول للذهاب إلى الشرق أو الشرق الإفريقي، وهو تقريبا ما عبّر عنه ''جان لازار'' في دراسته للتشكيلي الفرنسي أوجين دولاكروا ولوحته ''نساء الجزائر في مخدعهن''. دولاكروا، في لوحته، كان مرتبطا بالمخيال الجمعي لإنسان الإمبراطورية الغربية أكثر من ارتباطه بخصوصيات المكان الاجتماعية والثقافية والإثنية، فنساؤه في الحقيقة لسن أكثر من ''الربات الثلاث'' التي نجدها في الميثولوجيا اليونانية والرومانية ضمن الديكور الشرقي لا أكثر ولا أقل''. وفي نفس السياق، عاد بن بوعزيز لظاهرة مقاومة عنصرية الاستشراق، واعتبر أن الظاهرة تُقسم إلى قسمين، وبرزت بين الحربين مع صعود تيارات معادية للاستعمار، وفكر الأنوار في الغرب مثل الوجودية والسريالية، حيث تبلور وعي ناقد للاستعمار مثل أفكار سينغور وفانون. وفي الجزائر، نجد رواية ''نجمة'' لكاتب ياسين، التي تعتبر بداية نقد الاستعمار من منظور فني. ومن ذكاء كاتب ياسين أنه استعمل الزمن الحلزوني المنفرط لنقد الغرب. كما نجد نص ''تصفية التاريخ الاستعمار''، لمحمد الشريف ساحلي الذي يسير في هذا التيار. وهناك فكر يبحث عن مرحلة ما بعد الاستعمار، وهذا يختلف عن نقد الاستعمار. ولحد الآن، الفكر الشرقي قل أن يتجاوز الخطط التي رسمها له الاستشراق، إنه لم يقتل الأب الجديد ممثلا في الاستعمار. أعود إلى فكر عبد الله العروي وأجده يقول إن الاستعمار، رغم سلبياته، يوجد فيه معطى إيجابي، حيث استطاع إحداث قطيعة في الفكر العربي، لولا مرحلة الاستعمار لبقي الفكر العربي قروسطيا. أما في الجزائر، فقد كان محمد ديب واعيا بالمسألة، ومن ذلك نجده يتناول المنفى، الجنة، الاغتراب، الأنا والآخر، ثم هناك المرحوم عبد القادر جغلول.. فلابد من دخول مرحلة ما بعد الاستعمار وخلق ثقافة بعيدة عن تأثيرات الاستعمار، وهذا من عمل المؤسسات وليس الأفراد''. نعيش حرب الذاكرة لكننا لم ندخل فيها وفي سياق الكتابة المضادة أو التشكيل المضاد، ذكر عبد الكريم أوزغلة أن ''دولاكروا مثلا، أعطى لنا نسختين من نساء الجزائر، جسد فيهما رؤية استشراقية أصيلة واستعمارية في أيديولوجيتها. وحينما نصل إلى سنة 1954 وبالتحديد إلى 13 ديسمبر، يخرج علينا فنان تشكيلي ومثقف وفوضوي، حسب التعبير الفرنسي، هو بابلو بيكاسو فيعيد لنا معالم نساء الجزائر لدولاكروا، ولكن الشيء المتميز، في تصوري، أنه عمل على تعرية المنظور الاستشراقي الاستعماري. عمل بيكاسو على إخراج هؤلاء النسوة للعلن وتجريدهن من لباسهن ورسمهن عاريات كما لو أنه يريد أن يقول لدولاكروا: هذه هي الصورة التي رغبت في رسمها، أليس كذلك؟''. وأضاف: ''ثم هناك نص ''موسم الهجرة إلى الشمال'' للطيب صالح، حيث لاحظت، مثلا، أن نسوة الطيب صالح اللائي التقاهن مصطفى سعيد واقعات تحت سطوة الفكر الاستشراقي، بل يمثلن نموذجا للإنسان الشرقي: أي الرجل/المرأة اللذان صنعتهما المؤسسة الاستشراقية بامتياز: فانظروا إلى المآل الذي قادت إليه هذه النظرة. وهو ما يشكل في نظري نقدا لاذعا وجميلا في نفس الوقت للاستشراق الاستعماري، ودعوة لإعادة النظر في مسلماته الفكرية وآليات عمله''. وعلق الدكتور بن بوعزيز قائلا: ''أعتقد أن نص الطيب صالح، يعتبر نصا راديكاليا، يتناول التواصل المستحيل، وكأنه يعيد طروحات نص فانون.. المرأة البيضاء والرجل الملون، لأنه يوجد اختزال الآخر في الرغبة. أعتقد أن الأصل هو الاعتماد على الهوية الخلاقة المنفتحة التي تقوم على الاعتراف، لتجاوز نظرة الأنانة في الفكر. فكر ينفتح على الغيرية، والتواصل عند هابرماس مثلا أو الحوار عند تودوروف.. الكرة الآن موجودة عندنا ولكننا نقوم بعملية التفاعل مع الآخر الذي تجاوز عقده. والواقع أن هناك الآن مراجعات كبيرة في الفكر: دريدا، تودوروف، وبعض المشتغلين على الفكر التفاعلي الثقافي، حيث نجد نقدا واضحا للذات''.