لم تكن الجمعة الماضية استثناء في الفعل السياسي الذي بدأ يتشكل منذ الثلاثين من الشهر الماضي بمصر، حيث لا تزال الميادين سيدة الفعل، سواء تعلق الأمر بميدان التحرير، رمز الثورة الشعبية المصرية، أو الميادين التي استحدثت ما بعد الثورة كميدان "نهضة مصر" و«ميدان رابعة العدوية"، اللذان ارتبطا بالتيارات الدينية، بشقيها الإخواني والسلفي. ولأن تلك التيارات المطالبة بعودة الرئيس المعزول محمد مرسي للحكم، كانت قد قررت تنظيم "مليونية الزحف" في هذا اليوم، قررنا أن نقف على فعاليات تلك "المليونية" المنتظمة أمام مسجد "رابعة العدوية". الطريق إلى "رابعة" بمدينة نصر (شرق القاهرة)، بدا خاليا إلا من بعض المركبات، فيما كانت حافلات النقل الجماعي تسير حاملة بعض منتسبي الجماعات الإسلامية، نحو الوجهة ذاتها. حيث بدأ المتظاهرون يتقاطرون على موقع المظاهرة من مختلف المحافظات والأحياء. مداخل "الميدان" تعج بالبائعين الجائلين للإعلام والبوسترات والصور.. إعلام من كل حجم ونوع، وصور الرئيس المعزول محمد مرسي، وشعارات جماعة الإخوان المسلمين، جميعها معروضة للبيع على المداخل، بأسعار زهيدة. وهي مهنة مستحدثة أصبحت تدر أموالا على بعض الباعة الذين يتصيدون الاعتصامات والمظاهرات لإعداد شعارات وأعلام تعبر عن فئة المظاهرة بغرض بيعها. أولى المظاهر التي تقابلك قبل الولوج لدائرة الاعتصام هي تلك الحلقة المصغرة من الشباب المتجمعين حول سماعة عملاقة، والمنتشين بأداء رقصة "دبكة سيناوية" على أغنية "مصر إسلامية أسلامية رغم أنف العلمانية" وهي أولى المشاهد التي ستهز الصورة المختزنة لديك ربما حول الكثير من الأخبار القادمة من تلك المنطقة وطبيعة التيارات المجتمعة فيها. بعد هذه الحلقة المصغرة، تبدأ وحدات تأمين المكان، حيث تنتشر أعداد كبيرة من المتطوعين على طول المداخل للتثبت من هويات الوافدين إلى الموقع، كما تقوم وحدات أخرى بتفتيش ذاتي لكل فرد. وكانت معلومات قد وردت إلي عن أن تلك الوحدات المكلفة بالأمن قد منعت الكثير من الصحفيين التابعين للمؤسسات الصحفية والتلفزيونية المصرية من دخول الموقع، متهمة الإعلام المصري بالانحياز لما تسميه "الانقلاب على الشرعية"، بينما ترحب بأي مراسلين صحفيين من دول غربية وعربية! وبدءًا من المداخل وحتى منتصف الدائرة الرئيسية للاعتصام، تنتصب الخيم المختلفة الأحجام والسعة، فبعضها يبدو أنه للأسر التي وفدت بكامل العدد، وبعضها الآخر يتسع لكل من يريد أن يأخذ قسطا من الراحة، والبعض الثالث للنساء. وهن يمثلن عددا لا يستهان به من حيث كثافة التواجد لا نوعية التفاعل. حيث بدا حضورهن في المنصة شحيحا بشكل واضح. وعلى الجهة الشمالية للمدخل الشرقي المواجه للمنصة تمتد المطابخ التي كانت حينها قد بدأت مرحلة الإعداد لوجبات الفطور. فيما نشط عدد من المتطوعين لجلب ألواح الثلج من الخارج، من أجل إعداد المشروبات الباردة لوقت الإفطار. ولأن درجة الحرارة كانت تجاوزت سقف الثلاثين حينها، فإن عددا كبيرا من المتطوعين كان قد استقدم "المرشات" الخاصة بالمبيدات الزراعية، من أجل استخدامها في رش الماء على المتظاهرين من أجل تخفيف وطأة الحرارة عنهم. المشهد من الداخل لا يبدو مختلفا إلى حد كبير من الصور المسوقة في الخارج إلا في القليل من التفاصيل، فجل المعتصمين من أنصار التيارات الدينية، يغلب عليهم الملتحون بنسبة كبيرة جدا، وجميع النساء من المحجبات والمنقبات، والشعارات الكثيرة تدور أيضا حول الخطاب والتوجه ذاته. إما المنصة التي هي "دينمو الفعل"، فبدت أنها تحاول بالكاد تجاوز هذا الأمر الذي يحصر مؤيديها في تيار واحد، ويفقدها تعاطف الآخرين، خاصة العالم الخارجي، الذي بدا واضح الاهتمام به. وكان قبيل هذا اليوم قد تسرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مسجل داخل مسجد رابعة العدوية فيما يبدو ندوة تدريبية أدارها الإعلامي بقناة الجزيرة أحمد منصور، لمنظمي الاعتصام ومنشطي المنصة، ركزت على ضرورة التخفيف من الخطاب الديني والتركيز على مفاتيح أساسية في الخطاب وترديد أن المعضلة الرئيسية ليست عودة مرسي بل عودة الشرعية، وأن المسألة لا تتعلق بالسلطة بل بالدفاع عن إرادة الشعب وأمانته، كما دعا منصور في ذلك الفيديو إلى ضرورة إشراك المنشقين من التيارات الأخرى، وجعل الخطاب العام في المنصة ينصب حول الشرعية والديمقراطية بدلا من الإسلامية والعلمانية، وإرادة الشعب وصوته بدلا من مرسي.. إلى غيرها من الإرشادات التي بدا أنها بدأت تعرف طريقها للمنصة والاعتصام. وفيما يبدو تطبيقا فعليا لإرشادات منصور، حرص مقدمو فعالية "جمعة الزحف" على تنويع الكلمات بل والتركيز على شباب محسوب (حسبما قالوا) على تيارات أخرى، فتم تقديم أحد الشباب باعتباره منشقا عن حركة السادس من أبريل، والذي أدلى بشهادته وموقفه من "خارطة الطريق" التي أعلن عنها الجيش، مؤكدا أنه يصطف مع "الشرعية" التي يمثلها محمد مرسي. كما تم تقديم أحد الناشطين ممن شاركوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير ليحكي شهادته حول مشاركة شباب الأخوان في الثورة. وكذلك خذلان المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي لأهداف الثورة. كما شارك ناشط آخر في سرد تجربة القوى الثورية من حركات وائتلافات ثورة 25 يناير مع المجلس العسكري السابق، بقيادة المشير حسين طنطاوي، محذرا من تكرار الأمر مع المجلس الجديد بقيادة وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. وقد حرص مدير المنصة على اقتصار الشعارات على عدد قليل جدا يحمل طابعا عاما على عكس ما كان يجري بداية الاعتصام في الأسبوع الأول من شهر جويلية الجاري. حيث كانت معظم الشعارات إسلامية الطابع، في حين أن جمعة الزحف أقتصرت شعاراتها على "ثوار أحرار حنكمل المشوار" وشعار آخر "إرحل يا سيسي مرسي رئيسي" و«الشعب يريد إسقاط السيسي" وجميعها تدين شخص السيسي وليس المؤسسة العسكرية ككل. كما هو معهود في الشعار الذي رددته الكثير من الحركات الثورية أثناء فترة المجلس العسكري السابق "يسقط يسقط حكم العسكر"! كما يمكن ملاحظة اللافتات المكتوبة باللغة الإنجليزية بشكل كبير سواء تلك التي تطالب السيسي بالرحيل أو تلك التي تدين الإجهاض على "الشرعية"، أو تلك الداعية إلى وضع حد للانقلاب العسكري (كما تسميه). كما يمكن ملاحظة أن "الجمعة" أريد لها أن تكون بداية لانطلاق مليونيات الزحف نحو القصر، قد بدت أنها أقل من المأمول بكثير سواء على مستوى العدد أو الفاعلية، حيث غص الميدان عن آخره كما في الأيام الأولى للاعتصام، ولربما ساهم توزيع الميادين في تلك الحالة، حيث أضحى هناك ميدانا آخر بالجيزة وهو ميدان نهضة مصر.