غادر و إلى الأبد يوم السبت 28 نوفمبر الحالي صاحب كتاب /مدارات حزينة/ المفكر الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي يعدُّ رائد المدرسة البنيوية الأكثر حضورا في الفكر الإنساني المعاصر· و هو بالإضافة إلى ذلك العالم الذي فتح آفاقا هائلة في علم الإناسة ]الأنثربولوجيا[ من خلال دراساته التي قام بها في مناطق نائية في غابات الأمازون لدراسة عادات وتقاليد القبائل المحلية الموغلة في البدائية· و لقد كان لتلك الدراسات الأثر البليغ في خلخلة العديد من الدوغمائيات الغربية السابقة له والتي تناولت الإنسان من حيث الأصول و الأعراق معتبرة إياهما أمرا محددا لمسارات الشعوب و انفتاحها على الحضارة· لقد أسهمت كتبات كلود ليفي شتراوس بشكل حاسم في تطوير نظريات ومناهج أضحت - فيما بعد - معالم جديدة يستنير بها الباحثون في جميع أصقاع المعمورة لفهم الموروثات الإنسانية من أبواب لم تكن مطروقة أو مألوفة من قبل· فهو المفكر ذو الأصول اليهودية الذي يتميز بنزعته الإنسانية الخالصة والمضادة للنزعة العنصرية التي قام عليها فيما سبق علم الأنثروبولوجيا· إنه يبدو لنا اليوم من الإنصاف و الضروري للغاية التأكيد على هذه النقطة بالذات واعتبارها مسألة هامة ومحورية في الاشتغال المتواصل ضمن كافة أبحاث كلود ليفي شتراوس والتي جاءت لمجابهة التيارات والأحكام المسبقة التي تلونت بها الدراسات الاستعمارية العنصرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر· فالكثير من الأنثربولوجيين الغربيين اعتبروا الشعوب الخاضعة للهيمنة الكولونيالية شعوبا تنتمي إلى ثقافات أدنى و إلى أعراق أقل شأنا من الغرب، غير أن كلود ليفي شتراوس بنزعته الإنسانية المتفتحة على جميع الثقافات و المتقبل للآخر في جميع تمظهراته استطاع تخليص علم الإناسة من تلك النظرة الفوقية المتعالية إزاء الشعوب الأخرى بما فيها قبائل الأمازون والمكسيك الضاربة جذورها و تقاليدها في أعماق التاريخ البشري· وحري بنا الإشارة إلى أن كلود ليفي شتراوس كان شأنه شأن معلمه الروحي جان جاك روسو - و الذي يعتبره هو شخصيا أحد مؤسسي الأنثربولوجيا - ذو ميل شديد لنقد الحضارة الغربية المتعالية في أناها على الأخر، معتبرا نزعتها المواجهة للعلوم الطبيعية بوصفها معينا لا ينضب للمعرفة موقفا مناوئا بعيدا عن الصواب، و هذا تحديدا ما سيدفع به إلى التوغل في أدغال الأمازون و العيش وسط الطبيعة العذراء مع القبائل البدائية التي تمثل - حسب نظرته الخاصة طفولة البشرية - ليدحض هذه الفكرة المسبقة الخاطئة عند مقاربة علماء الغرب للإنسان الآتي من الحضارات والثقافات الأخرى· وبهذا النسق الفكري الجديد المبني على اعتبار علم الأنثربولوجيا مجالا يحتمل شتى ثقافات الإنسان و في جميع أبعادها دون النظر إليها على أنها إنتاج لآليات التخلف أو التطور، تمكّن كلود ليفي شتراوس من تأسيس فكر يتوق إلى الإنعتاق من وطأة النظريات الاستعمارية السابقة ذات البعد القائل برقي الشعوب الغربية وتخلف ما سواها من الشعوب· لقد مهّدت كتابات شتراوس لمعرفة المجتمعات المجهولة حيث الطقوس والعادات والهامشي والبدائي معطيات إنسانية تستعيد مكانة المركز· بهذا الرحيل فقدت البنيوية مؤسسها الكبير الذي شهد أزمنة عصيبة، تركت فيها همجية الحروب وتعسف الأنظمة الشمولية بصمة لا تمحى· وما من شك أيضا في أن شتراوس أضحى علامة فارقة في القرن العشرين، عاشها مؤيدا لفكرة حقوق الأقليات والديمقراطية وحقوق الإنسان· فلقد عاش - رغم جذوره اليهودية - مفكرا حرّا لم يتردد في انتقاد الكيان الصهيوني بصراحة لا غبار عليها· فهو الذي راسل ذات يوم المفكر الصهيوني /ريمون أرون/ معاتبا إياه على موقفه قائلا: /لا يمكنني أن أنظر إلى تدمير الهنود الحمر كجرح، وأتصرف عكس ذلك حين يتعلق الأمر بالعرب الفلسطينيين/·