عندما تتكرر التجربة مرات عديدة في أمكنة مختلفة وفي أزمنة مختلفة وبالمعايير نفسها التي حدثت بها في كل المرات، فهذا يعني أنها أصبحت أقرب إلى القاعدة الثابتة أو أنها صارت فعلا قاعدة ثابتة يجب التمعن في نتائجها وكذلك في منطلقاتها السببية. ما الذي يجعل مسألة التداول على السلطة طبعا وليس على غيرها، أمرا صعبا وخطيرا وكارثيا ومستحيلا في العالم العربي خاصة؟ وما هي الأسباب الذاتية والموضوعية التي تجعل منه منطقة حرن مأساوية ومصبّ مكابدات سياسية ومنابزات إيديولوجية ومطارحات موقفية تعكس في جوهرها مقدار الهوّة التي تفصل فكرة التداول عمن يسعى إلى تحقيقها وعمن يقف في وجه تحقيقها فهما وتمثلا وتنفيذا؟ ولماذا تبدو فكرة التداول على السلطة في عديد الدول الأخرى ذات المشابَهة التاريخية مع العالم العربي غاية في السهولة واليسر وعلى درجة كبيرة من التحقيق تمثلا وتطبيقا؟ وكيف يمكن لشعوب معنية أن تجد الآليات التنفيذية لتجاوز منطقة الحرن في مشوارها السياسي، في حين تنتج الأنظمة السياسية العربية سدودا منيعة غاية في المتانة والغموض تحول دون أي محاولة لنمو الحمل وتحقيق الحلم الذي تحمله الشعوب العربية على عاتقتها منذ تأسيس الدولة الوطنية في فجر الاستقلال الظاهر؟ ولماذا تجاوزت شعوب أمريكا اللاتينية وأنظمتها، وبغض النظر عن نوع أنظمتها السياسية وأطروحاتها الأيديولوجية، مسألة التداول بدرجة كبيرة من اللباقة والتحضر بعد مراحل عويصة مرّت بها في تاريخها، بينما لم يتسن ذلك لأنظمة عربية علمانية التصور نشأت أو أُنشئت أصلا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاهية السياسية والاقتصادية؟ ولماذا تجاوزت العديد من الدول الأسيوية التي تحمل الكثير من معايير التخلف الاجتماعي والاقتصادي المرتبطة خطأ بانتمائها للأمة الإسلامية عقدة التداول على السلطة على الرغم من انتماء العديد منها إلى العالم الإسلامي، بينما لم تفلح محاولات عربية عديدة في تيسير اندراج التصور الإسلامي في المنظومة السياسية المعاصرة أو العكس؟ وهل فشلُ تجربة التداول هي ظاهرة عربية خالصة ربما تجاوزت عقدة السلطة مع الحرية والدكتاتورية، ومع الديننة والدينوة، ومع اللائكية والإسلام، ومن ثمة فهي ظاهرة "جاهلية" بالمفهوم الزمني واللغوي معا؟ ولماذا لا نكون موضوعيين ونقول إن مشكلة الصراع حول السلطة هي مشكلة ما قبل دينية بالنسبة للعرب على الأقل ولم تكن مرتبطة بمجيء الإسلام ودخوله عنصرا جديدا مُحدّدا للهوية السياسية للعرب، مثلما أن مشكلة الديمقراطية هي ظاهرة ما قبل تنويرية مستمدة من الممارسة اليونانية للفعل السياسي ولم تكن وليدة عصر النهضة كما يعتقد البعض؟ قد لا نحتاج ضرورة إلى استحضار الدرس الخلدوني المستخلص من العبر المتراكمة في طيات التاريخ، تاريخ ابن خلدون المشهور، من أجل التأكد من اجتماع عناصر التجربة مرات عديدة. كما أننا قد لا نحتاج إلى إعادة قراءة "طبائع الاستبداد" وإحصاء عناصره التي ذكرها عبد الرحمن الكواكبي الواحد تلو الآخر وترتيبها وتحليلها من أجل الوصول إلى توصيف خالص ودقيق لما يعتري الظاهرة الديمقراطية في العالم العربي من نزوع نحو الإجهاض في كل مرة تحاول أن تجد لها طريقا إلى التحقق على أرض الواقع كلما اجتمعت شروط تحرك آليتها في الحراك المجتمعي، وكلما قدمت تباشير الحمل الطبيعي الأصيل الموعود منذ ما يقارب القرن من الممارسة السياسية المرهونة إلى زناد الزعماء الوطنيين الخارجين لتوهم من أبواب الثكنات المغلقة. ذلك أنه عندما تتكرر التجربة مرات عديدة في أمكنة مختلفة وفي أزمنة مختلفة وبالمعايير نفسها التي حدثت بها في كل المرات، فهذا يعني أنها أصبحت أقرب إلى القاعدة الثابتة أو أنها صارت فعلا قاعدة ثابتة يجب التمعن في نتائجها وكذلك في منطلقاتها السببية. هذه القاعدة التي سرعان ما تحولت إلى "عادة سرية" تُبدي رغبتها الدفينة في تحقيق نشوة الانقلاب على التاريخ، ثم تحولت مع مرور الوقت إلى "عادة علنية" تُرسّخ المنطق الاستقوائي في صلب الممارسة السياسية الهشّة، ولا تتوانى في الكشف عن عورتها الدموية، والمجاهرة بالعنف المُبرر أمام شعوبها المتعلقة تعلق اليتيم بشآبيب صورة زعيمها المنقذ من الضلال. وهي في انتقالها الدراماتيكي هذا، إنما تخبر عما يمكن أن تصير إليه هذه الشعوب وهي تحتكم إلى الأقوى وتعيش في ظل جبروته وتساعده على احتقار وجودها، فتكون بذلك قد تحولت من صناعة البطل المنقذ الذي ظلت تبحث عنه في لا وعيها الجمعي إلى صناعة الطاغية المستبدّ بمعايير تستند إلى موروثها الاستبدادي الحاضر دائما في ذهنها، ولكنها تُخضع عند الضرورة هذه المعايير إلى التحوير وفق ما تقتضيه ضرورات العصر وخصوصيات المرحلة وتعقيدات اللحظة. لقد تبين بما لا يدع مجالا للشك بعد تكرار حدوثها في أمكنة متعددة من الوطن العربي وفي أزمنة متباعدة نسبيا، أن التجربة الديمقراطية بما هي تداول سلميٌّ على السلطة، لا يمكن أن تجد لها طريقا للتطبيق أو منفذا للنجاح في العالم العربي في ظل ما أصبح يشكل تراكما مرجعيا في الإخفاق المنهجي لآليات البناء الديمقراطي كما تفهمها الدويلات الوطنية وكما تطبقها كلما اقتضت الضرورة القصوى للمصلحة الوطنية المهددة عموما بما لا يمكن أن يدخل في مكوناتها التأسيسية، وهو حرية الرأي والتداول السلمي المتحضر على السلطة. ولسنا هنا بصدد جرد الإخفاقات الكبرى أو الخصوصيات الوهمية المُتخَذة تبريرا واهيا وقناعا شفافا لعديد هذه التجارب التي مرت بها دول عربية كثيرة. كما أننا لسنا بصدد توصيف حالات الحمل الكاذب التي أدت في كثير من الأحيان بالشعوب المغلوبة على أمرها إلى الخلط الفظيع بينه وبين الحلم الحقيقي، فدفعت بذلك ثمنا باهظا من دماء أبنائها وكذلك من إصرارهم المغلق وتعنتهم الأعمى في كثير من الأحيان من دون الارتكان إلى رجاحة الموقف الذي يسبر أغوار ظاهرة الفشل الذريع للتجربة الديمقراطية، ومن دون الجنوح إلى علمية التحليل وعقلانيته في الكشف عن الأسباب الظاهرة والخفية وعن المعوقات الحقيقية والنظرية التي أدت إلى توقف هذه التجارب عند مرحلة التعددية والإخفاق الرهيب في تثمين الوصول إلى هذه المرحلة والاقتدار الواعي من ثمة، للمرور إلى تحقيق مبدأ التداول على السلطة بطريقة سلمية وحضارية. وليس بعيدا عنا زمنا ما مرّت به دول عربية قريبة أو بعيدة من حالات اعتقد الكثير من الحالمين أنها ستؤدي بمجتمعات هذه الدول إلى تخطي عقبة الفتنة على السلطة والوصول إلى بر أمان التداول السلمي عليها. غير أن الواقع المر المتخفي خلف ما أصبح يسمى ب (الدولة العميقة) أعاد الحالمين بالديمقراطية، أو الحالمين بالوصول إلى السلطة عن طريقها، أو المنتظرين حملها الموعود بفارغ الصبر، إلى واقع حالة الإجهاض المستديمة التي أصبحت تمارسها الدولة العميقة باعتبارها وريثة للدولة الوطنية بنية وتأسيسا وباعتبارها ممثلة لفشل مشروع مجتمعي كان من المفروض أن يكون هدفه الأصلي هو الارتقاء بالمواطن أفرادا وجماعات إلى مستوى الممارسة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة التي استطاعت أن تحققها شعوب فقيرة ومتخلفة في دول عديدة من العالم الثالث من دون أن تصل إلى حالة الإجهاض القسري التي أصبحت تميز التجربة الديمقراطية في العالم العربي. كما أعاد هذا الواقع المر إمكانية الحلم بتجاوز الرؤى المغلقة لمرحلة الأيديولوجيات الحاكمة التي امتد تأسيسها للدكتاتوريات الوطنية في فترة ما بعد الاستقلال، إلى واقع ينذر بالعودة إلى تأسيس مسار متعاكسٍ مع الزمن الديمقراطي، وعدوٍّ لتقدمه في العصر، وجدارٍ يواجه اندراجه في راهن الحياة، قادر على العودة بالدولة الوطنية إلى نوعٍ جديد من أنواع الاستعمار هو أفظع من النوع الذي مرت به الشعوب العربية وتحملت عقباته الكأداء طيلة مرحلة الكولونيالية. كما تبين بما لا يدع مجالا للشك كذلك، أن التجربة الديمقراطية الفتية كما يحلو للبعض تسميتها لتبرير صعوبة الحمل واحتمال الإجهاض، لا يمكن لها، بما تحمله من إمكانية انتقال الإنسان العربي من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة التسيّد، أن تنبت في تربة تبدو، بحكم تكرار التجربة، أنها غير مهيأة أصلا لأن تسمح بالنمو الطبيعي لهكذا تجربة في الأرض العربية، ولِأن تتحقق في واقع شعوبها التي لم تعد ترى غير ما يمكن أن تؤدي إليه هذه التجربة من عودة إلى الوراء بما يحمله هذا الوراء من جهل وتقهقر وظلم وتخلف وتبعية على مستوى ما كان يطمح إلى إنجازه طيلة ما يفوق القرن من الزمن تحت ظل ما يسمى بالدولة الوطنية التي قادته بعد كل هذه المدة من التجريب إلى واجهة جدار مغلق أصم أبكم، لا يستطيع استنطاق حاضره من خلاله، ولا يستطيع العودة به إلى البؤر المضيئة من ماضيه، ولا يستطيع استشراف مستقبله القريب نظرا لما يشكله هذا الجدار من سد أسود منيع لم يعد في إمكان هذه الشعوب أن تستعلي عليه بكل ما أوتي لديها من قوة وصبر وأنّاة، وبكل ما استخلصته من تجارب سابقة في الثورات والثورات المضادة، وبكل ما تراكم لديها من وعي لم يمكّنها من تخطي مرحلة بناء دولة وطنية على أسس عقلانية أصيلة، والمرور من ثمة إلى مرحلة بناء دولة المواطن البصير بحقوقه وبواجباته في مجتمع يطمح إلى العدالة والمساواة والحرية واحترام الرأي. لقد أكدت تجربة العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بما شهدته من أحداث تاريخية غاية في الخطورة والتعقيد أن العالم العربي لم يدخل بعد مرحلة الديمقراطية على الرغم من التضحيات الجسيمة التي قدمتها الشعوب للوصول إلى فك لغز السلطة بطريقة نهائية تمكن هذه الشعوب من تجاوز مناطق الحرن السياسي التي رهنت مستقبل الأجيال في الأحزمة الناسفة للرؤى السياسية المغلقة والرؤى السياسية المضادة التي لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في الوجهة الأخرى للصراع. كما أكدت هذه التجربة أن العالم العربي لا يزال أمامه الكثير من الوقت للعيش في مرحلة ما قبل الديمقراطية نظرا لما أبدته نُخبُه المتعلمة والمتنورة وسياسيوه المتصارعون من رباطة جأش في الدفاع عن وجهات النظر المغلقة التي لم تنقل الخطاب الفكري العربي إلى مرتبة أكثر سموا في التعامل مع ما أصبح في الدول المتحضرة مجرد عملية تنظيمية تُمكّن الأطراف الممثِّلة للمجتمعات الغربية التي تحترم التعددية من الانتقال السلمي للسلطة والتداول الدوري عليها بناء على مصالح سياسية وأيديولوجية تخدم المجتمعات والأفراد، ولكنها لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تضع قيم الحرية واحترام الرأي الآخر محل مزايدة أو مساومة، فما بالك بمجرد التفكير في الحجر أو التضييق أو النفي أو القتل أو التنكيل بأية دعوى من الدعاوى التي بإمكانها أن تُعمي بصيرة الممارسة السياسية بوصفها خدمة للمجتمع، وتُغيّب هدف الممارسة الديمقراطية بوصفها تداولا سلميا على السلطة. لقد شكلت تجربة القرن الجديد فاتحة متفائلة في بداية الأمر لكل من كان يطمح إلى وجهة تطور صحيحة للمجتمع العربي وانتقال متحضر لمرحلة تطبيق ديمقراطية خالية من العقد التاريخية والإيديولوجية لا بوصفها تداولا سلميا على السلطة فحسب، ولكن بوصفها حلا جذريا لمشكلة السلطة وفكا نهائيا لتشفيراتها الدافنشية الموروثة مما خبأته في طياتها العقد المتولدة عن متاهات التاريخ، ومطبات الجغرافيا، وسوابق الهويات والهويات المضادة. غير أن فاتحة التفاؤل هذه سرعان ما تحولت إلى خيبة كبرى أعادت الممارسة السياسية العربية إلى مرحلة الأحادية بعد أم ظن الكثير من المثقفين العرب والمنظرين المتمرسين في المنتجعات الأيديولوجية الفخمة أن هذه الممارسة قد تجاوزت مرحلة الخطر بسماح أنظمتها بالتعددية الحزبية المنفتحة على قبول الرأي الآخر وقبول ممارسته لحقه في التعبير عن مواقفه السياسية المختلفة عن الأطر التي تصب فيها الرؤية السياسية للممارسة الأحادية. ذلك أن رفض مبدأ التداول في كل مرة يتحرك فيها التاريخ بقوته الكاسحة وبعنفوانه المعهود، إنما يدل على قابلية كبيرة للمكوث المستديم في البيت الأحادي، ورغبة شديدة في تسييج بناءاته المتهالكة بما تنتجه الذات من خوف رهيب من نفسها ومن المستقبل. وهو أمر لا يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى ترسيخ الممارسات الممهدة لكل أنواع الاستعمار الجديد.