لم يفرح الموريتانيون بديمقراطيتهم أكثر من عام ونصف، فقد أصبحوا يوم الأربعاء الماضي على وقع أقدام العسكر، وعادت المؤسسة العسكرية الموريتانية إلى أسوأ العادات القديمة التي درجت عليها الدول الأكثر تخلفا، واستولت على الحكم بعدما أطاح - بالنظام المدني - أقربُ الشخصيات العسكرية إلى الرئيس الذي انتخبه الشعب الموريتاني بطريقة ديمقراطية لأول مرة منذ استقلال هذا البلد، وكان كثير من الناس يعتقدون أن انقلاب 2005 الذي قاده العقيد علي ولد محمد فال ضد الانسداد السياسي الخطير - الذي كاد أن يفجر المجتمع الموريتاني الموزع على مختلف المشاكل والأزمات - سيكون آخر الانقلابات في موريتانيا نظرا لمباركته الشعبية الواسعة ولوفائه بالتزاماته في إعادة بناء الحياة السياسية بشكل ديمقراطي بمشاركة جميع المكونات الأساسية والسياسية وهو ما شهدت به المنظمات الإقليمية والدولية التي راقبت الانتخابات الرئاسية التي وصل فيها إلى قصر نواقشوط على تواضعه الرئيس المطاح به سيدي الشيخ ولد عبد الله . إذا كان تاريخ موريتانيا السياسي يرتبط عضويا بالانقلابات، حيث شهدت في أقل من أربعين عاما خمسة عشر انقلابا أو محاولة انقلاب نجح قليلها فقط، فإن عديد الملاحظين راهنوا على "الهبَّة" الديمقراطية التي أسَّس لها العسكر على اعتبار أن خروجهم ذاك هو آخر شكل من الأشكال المتخلفة التي يتدخل أصحاب الأحذية الثقيلة بها في الحياة السياسية، وظنوا أن أساليب اللعبة قد تغيّرت لتأخذ شكلا خفيا- على الأقل - كما هو جارٍ في بعض الدول العربية والإسلامية، ولكن يبدو أن النخب العسكرية لا ترى الأشياء إلا من زاوية ضيّقة وتزداد ضيقا كلما تعلق الأمر بمصلحتها الفئوية أو الشخصية، فقائد الانقلاب محمد ولد عبد العزيز لم يحتج على الرئيس لما رقَّاه إلى جنرال، ولكنه عندما مارس صلاحياته الدستورية فعزله من منصب القيادة اعتبر ذلك مساسا بالمصالح العليا للبلاد! وكان ما كان ، وبذلك لم يشذ عسكر شنقيط عن" أشقائهم" في معظم بلدان العالميْن العربي والإسلامي حيث المؤسسة العسكرية تمسك بزمام كل التفاصيل، وقد يكون ذلك نتيجة حرصها الشديد على حماية الأوطان حتى سجنتها في" فيطوهات" ُتعيِّن لها الحراس برتبة رئيس كيفما ترى وُتغيِّرهم كلما اشتدت الأزمة، فتخلق أزمات جديدة هي ما قهر المجتمع العربي وربطه إلى جذوع التخلف وجعله أضحوكة العالمين. الرئيس الموريتاني المخلوع الواصل - سابقا - إلى كرسي الرئاسة عبر طريق ديمقراطي تنافسي شفاف يكون هو الآخر قد ساهم في الحالة المَرَضية التي حلت بموريتانيا، إذ يبدو أنه لم يتخلص من عقلية حكم العسكر السابقة فقد تميزت فترة حكمه القصيرة بنزوعه إلى الفردانية التي تتنافى مع قواعد الديمقراطية التي أوصلته وتجلى ذلك في محاولاته المتكررة تجميع صلاحيات واسعة في يديْه واحتكارها واختطاف مهام المؤسسات الدستورية الشريكة وسد معظم الأبواب أمام شركائه الطبيعيين، ما ولَّد توترا سياسيا أفرز أزمات اجتماعية واقتصادية في أقل من عامين من حكمه، جعل المقربين منها سياسيا ينفضُّون ِمن حوله وينضمون إلى خصومه، بل وجعل الشارع يشكك في جدوى الممارسة الديمقراطية أصلا إن هي استبدلت مستبدا في لباس عسكري بآخر يرفل في الأثواب المدنية فكان عمله أشبه بالانقلاب المدني الذي أسقطه العسكر. أجهض العسكر إذن تجربة كانت - إلى يومين سابقين - فريدة من نوعها في المنطقة، ويستدل بها أنصار الديمقراطية على إمكانية التداول على الحكم بالوصول السلمي إليه عبر صناديق ينفخ فيها الشعب من روحه لا صناديق يأتيها الباطل والتزوير من أمامها وخلفها ومن كل الجهات، لبلوغ المجتمع الحداثي الناهض بفضل شراكة حقيقية بين مختلف أطيافه السياسية والاجتماعية والاقتصادية مهما كان حجم البلد وإمكانياته وموارده ولكن هذه التجربة اليوم أصبحت محل نظر وتشكيك في إمكانية حدوثها على جغرافية يحكمها التخلف المرَكَّب مما سُيتفِّه وُيسفِّه أية محاولة أخرى - ولو كانت صادقة- وبذلك دخل الحالمون بالديمقراطية حلقة ُمفرَغة ُمفزِعة : هل خيار الديمقراطية يسبق تأهيل المجتمع لركوبها أم أن بناء هذا المجتمع حسب رؤى َمن يحكم هو الذي يجب أن ُيعتمَد؟ ولن تكون محاولة الخروج من تلك الدائرة المغلقة إلا بعملية تكسير إجبارية ستُحدِث تصدعات علي المجتمع لا يمكن التنبؤ بمخاطرها. لم تتخلف الدول الكبرى الفاعلة في شأن البلدان التابعة والمجرورة عن المنظمات الإقليمية والدولية في التنديد بإسقاط أول رئيس ُيفضِّله الموريتانيون عن غيره من "فرسان" السباق الرئاسي، وإن كان استنكار العواصمالغربية يأتي فقط لينسجم مع الشعارات التي ُتسوِّقها دائما للتخدير وإعادة الهيمنة، فإن الموقف الحقيقي سيتكيف مع مدى محافظة الحكام الجدد في نواقشوط على المصالح الحيوية لتلك الدول التي لا يهمها على الإطلاق مسألة الديمقراطية ولا تطور المجتمع الموريتاني، ففرنسا مثلا تقول المصادر الصحفية العليمة إنها علمت بالانقلاب قبل وقوعه بأربع ساعات على الأقل كما كانت تعلم بسابقيه، بل اشتركت ودعمت كثيرا من" أبطاله"، وهو ما يجب أن يعرفه الموريتانيون لأنه جزء من التجاوز السلس للأزمة، لا ُتلغَى فيها المؤسسات الدستورية ولا الهيئات المنتخبة ولا الحريات الفردية والجماعية ولامتنفس الحريات السياسية والصحافية ، في انتظار أن يرحل العسكر عن الشارع وعن هاجس المواطن، ويعودوا إلى ثكناتهم في أقل مما حكموا فيه قبل فتح المجال للفسحة الديمقراطية التي تأكد أن مفاتيح فضاءات فتحها وإغلاقها بأيديهم والباقي إما تابع أو ممثل والقلة الصادقة منزوعة الفاعلية بينهما...