لأنوار نور النور في الخلق أنوار وللسر في سر المسرين أسرار الحلاج ظل "الروح المبدع" واحدا من أهم الأسرار التي اعتنى بها الفكر الصوفي على مدار الجنون الذي عرفه النص الإنساني، خاصة بين رواد هذا المذهب، وراح سؤال "التجلي" يلح ويتكاثف مع كل كلمة أو همسة تترجم تفردا فنيا يرد مصدره إلى القلب، فكان استنتاج "النفري" الأكثر رقة وشفافية في الوجود: أخرج من الحجاب تخرج من البعد أخرج من البعد تخرج من القرب أخرج من القرب ترى الله! في هذه العملية المعقدة التي تربط كل الحواس بمصدر الإبداع "الصدق"، عاد الشاعر إبراهيم صديقي إلى عالم النشر مجددا، لكن هذه المرة ليس عبر ديوان جديد، وإنما "مزاوجة فنية" لا تقتصر على حاسة السمع وحدها، بل هي تجربة بصرية أيضا، في كتاب "حروف تتجرأ" الذي يرافق فيه لوحات الفنان التشكيلي الجزائري العالمي "حمزة بونوة"، فكانت المزاوجة كما قدم لها صديقي: إذا رسمت لوحة عليك أن تبدع في الأفعال والأسماء وإن كتبت الشعر أتقن الألوان والظلال والضياء كلاهما يعيش كي يعطي للآخر ما يشاء هذا التقديم "الشعري" للكتاب قد يوحي بالمبالغة في بداية الأمر، بالنظر إلى صعوبة حصول تماهي فنين مختلفين في تركيب واحد، لكن خصوصية الفن التشكيلي بالليونة تجعله قادرا على استيعاب أية فكرة فنية واحتوائها بصفاء، وهو ما حدث بين عمل "صديقي" و«بونوة"، اللذين قدما تجربة مختلفة سمعية/بصرية، تحسب إضافة إلى الرصيد الفني الحديث في الجزائر، خصوصا في غياب الاحتكاك المباشر والدائم بالفنون "الحية" كثنائيات، وعدم اطلاع الجزائريين على أعمال الفنان "حمزة بونوة" الذي يأتي كوافد من الخارج بالنظر إلى التجربة التي خاضها في المعارض الدولية قبل أن تحدث محاكاة مع أعماله في الداخل، أما الخصوصية الثالثة فهي نشر صديقي مجددا لبعض قصائده بعدما ظل ديوانه "ممرات" يتيما قرابة عقد من الزمن، هذا الرجل الذي يقول عارفوه إنه رغم كرمه يبقى دائما "بخيل" في الكتابة، حيث لا ينشد أكثر من قصيدة واحدة في السنة، وأحيانا يلزمه وقت أطول من ذلك. الهارب من بيت "الخليل".. العائد نحوه في "حروف تتجرأ" تتأكد ورطة الشاعر إبراهيم صديقي مع الإيقاع وعشق الأوزان، فإن بدا يحاول التملص من بيت الفراهيدي من حين لآخر، لينتمي إلى جنون عصره في تكسير الأطر، إلا أنه يبدو مجددا مسحورا ب "كلاسيكية" اللغة، فيعود "غير مخير" إلى بيت الخليل، لكنه يبدو سعيدا بتلك العودة القهرية في تلاعبه بالبيان وتجليه حينا واستتاره دوما: يجيء مختبئا في غفوتي فإذا أفقت ينساب من كأسي فأشربه ومثل سر دفين لا أبوح به لكنني خفية شعرا أسربه ألفه باستعاراتي لأبهمه... وإن بدا واضحا في التو أشطبه مقاطع صديقي الواردة في تجربة "حروف تتجرأ"، التي كانت تحاكي أفكار أبناء جيله وجذوتهم في بناء متنهم "غير المقدس" وهم واقفون في طريق الحداثة "حيارى" بأسئلتهم في زمن "النقد المعاصر"، تؤكد "ورطة" الرجل التي أشرنا إليها، فهذا العطشان إلى زمنه وجنونه لم يرتوِ بعد من المنهل، فيقول: من حقك أن تسأل ما لون الأصفر؟ ما شكل القرص الدائر؟ ما طعم المر؟ وما رائحة العنبر؟ لا يوجد شيء في الدنيا أكبر من أي سؤال ملح ينساب على قلق النهر المنساب على شجر الأشياء المنسابة في وجه ذباب منساب أعلم أنك لم تفهم شيئا وأنا أيضا لم أفهم ما قال الشاعر لكن... هذا ما يعشقه نقد قيل معاصر. هذا الواقف على باب الخليل يستجدي رحمة بحوره، في "حروف تتجرأ"، يقدم البعض من جنونه والكثير من عذوبة غزله، حيرته وقسوته على شعره وهيامه بالمطلق: عش بعيدا عني لكي ألقاك واستتر مثل فكرة لأراك ما "هنا؟" ما "هناك؟" فانتظرني هنا، تجدني هناك. بين الظل والحرف ينسكب "المعنى" ظل اسم الفنان التشكيلي "حمزة بونوة" غائبا أو "مغيبا" عن الساحة الثقافية الجزائرية، لذلك بقدر ما اختبرنا تجربته عبر الصور سنبقى نجهلها، ما دمنا لم نحتك بمادتها الأولية -ماديا وفنيا-، لكن هذه الخطوة التي أقبلت عليها منشورات anep، عبر كتاب "حروف تتجرأ" تعد مهمة على الأقل لأنها تطلعنا على أهم المجموعات التي قدمها سابقا، لكن هذا يبقى غير كاف لتشكيل فكرة عميقة حول أعماله، لأن قوة الفن التشكيلي في عملية الاحتكاك البصري المباشر، وما يمكن أن يخلفه هذا الاحتكاك عبر مادة الصناعة "زجاج، بلاستيك، خشب، قماش، ألوان..."، وأيضا نظرة فكرية. من خلال كتاب "حروف تتجرأ" تبدو تجربة "بونوة" التشكيلية عصرية، لكنها منتمية إلى المكان والموروث بشكل ما، ذلك أن المجموعات المقدمة تعتمد على خصوصية الحرف واللون، فالأول الذي يبرز بقوة في اللوحات سواء عبر "شخوص حروفية، حروفيات، دائرة صوفية..."، يظهر جانبا كبيرا من الموروث الإسلامي بالمنطقة، خاصة الصوفي منه، وهذا يظهر حتى في بعض تسميات اللوحات "دائرة صوفية، نون..."، وحتى المقاطع الشعرية التي خصت بها هذه اللوحات في التركيب الثنائي تعكس تلك الحيرة: وأستجيب لصوت لست أسمعه وخطوتي في طريقي لم تجد قدمي كما يتجلى في أعمال "بونوة" البعد المكاني ومعالم الهوية، عبر الألوان الفاقعة والرموز التي تبرز الخاصية الإفريقية ونوعا ما الأمازيغية، وذلك بشكل ملفت في الجدارية الموجودة في الكتاب ومجموعات "شخوص في عروج، شخوص من ضوء، ولوحة عالم ذهبي". هذه الخصوصية التي تبدو على أعمال "حمزة"، لم تغيب التجريد الذي يظهر بشكل قوي في الكثير من أعماله، سواء ما اعتمد منها على اللون أو رصد التحولات الإنسانية التي يبدو أنها تشد اهتمام الفنان، وهذا قد نلمحه من خلال "مجموعة مسح، حروف تجريدية، مدينة في الأسود، مجموعة حرف يتوضأ" وبعض اللوحات التي كانت بدون عنوان. الكتاب يقدم أيضا مجموعة من البورتريهات التشكيلية، التي لا تعتمد على إعادة التصوير، وإنما يحاول الفنان التشكيلي عبرها وضع لمسته الذاتية في شكل الرأس الذي يختاره ووضع العيون، وحركة اليد التي غالبا ما تحمل تعبير الاستفهام أو التساؤل المباشر ، مع هذا لم تكن هذه المجموعة بالقوة نفسها التي قدمتها مجموعاته المعتمدة على الحرف، خاصة تلك التي تجسد ملامح بشرية غير واضحة وإن تمت مقاربتها إلى الفكرة تشعرك بأنك فعلا تختبر عالم الإنسان بشكل مركب "جسد وروح". يبقى أن نشير إلى أن هذا الكتاب جاء في "طبعة فاخرة" وسعره ليس في متناول الجميع، خصوصا وأنه مهم للتجربة الفنية التي تزاوج بين حاستي السمع والبصر، حسب إشارة الناشر، في ظل القحط المعرفي في الفنون التشكيلية الذي تعرفه الجزائر. الكتاب: حروف تتجرأ (تجربة تشكيلية شعرية مشتركة). الكاتب: حمزة بونوة، إبراهيم صديقي الناشر: منشورات anep الصفحات: 380 صفحة من الحجم الكبير "طبعة فاخرة" السنة: 2013