جسد المهرجان الثقافي للسينما المغاربية، في طبعته الأولى المنعقدة في الفترة من الثالث من نوفمبر وحتى الثامن من الشهر ذاته، مجموعة من الحقائق التي كادت أن تمثل استثناء في واقع المواعيد الثقافية المتعلقة بفعاليات وتظاهرات كبرى ظلت تنظمها الوزارة الوصية طوال العام الماضي. ولعل أهم تلك الحقائق تتمثل في أن "المنتوج الثقافي" قادر على تجاوز الكثير من الحواجز القائمة بين الشعوب، وعلى رأسها إذابة جبل "الجليد المفترض" الذي أجادت افاعيل السياسة في إقامته سدا منيعا، ففي الوقت الذي شهدت فيه العلاقات السياسية توترا حادا بين الرباط والجزائر، نجح السينمائيون في مد الجسور الناعمة، ليتقبل الجمهور الجزائري مخرجات السينما المغربية بتقدير يفوق غيرها من المنتجات المقدمة خلال هذه الدورة الأولى، كما نجحت الشاشة الكبيرة في جلب السياسيين لسقف "قاعة الموقار" في لحظة تجاوزت الآني والراهن وانتمت لقيم الفن التي هي في الواقع "قيم مجتمعية وإبداعية بامتياز". أما الحقيقة الثانية، فتمثلت في أن اختيار أصحاب الكفاءة والقدرة في إدارة المهرجانات كفيلة بالوصول إلى الحالة المرجوة من هكذا تظاهرات فنية وصولا إلى لحظة الإشباع.. وكان واضحا أن محافظة المهرجان المغاربي للسينما قد تمكنت من القيام بمهامها بشكل مرض للجمهور وللأهداف المسطرة سلفا. سواء من حيث ترشيح واختيار الأفلام المشاركة في الدورة أو من حيث التدابير التنظيمية المرافقة لهذه الطبعة. حيث عكست الأعمال المقدمة في الدورة تنوعا واضحا، ورؤية محكمة في انتقاء أحدث وأجود مخرجات السينما المغاربية، ليقع الجمهور بين متعة المشاهدة وحيرة المفاضلة بين عمل وآخر. كما كشفت هذه التظاهرة البكر، ما حققته الدول الشقيقة من وثبات فعلية على هذا المستوى، خاصة إذا تعلق الأمر بكل من المغرب وتونس على التوالي. حيث حمل المغاربة مجموعة من الأفلام التي رشحت للتتويج منذ عرضها الأول وعلى رأسها "خيول الله" و"اندرومان" و"زيروا" - في قائمة الافلام الطويلة - والتي تفاعل معها الجمهور العاصمي باختلاف أنماطها وتيماتها الفنية. كذلك الأمر بالنسبة لتونس التي قدمت مجموعة من الأفلام منها: "البروفيسور" و«مانموتش" التي عكست جزء من مسيرة السينما ومن خلّفها الواقع التونسي ماضيا وحاضرا بجانب الأفلام الجزائرية والموريتانية. فيما اقتصرت مشاركة ليبيا في الندوات المرافقة وعضوية لجان التحكيم. ما يقال بشأن الأفلام الروائية الطويلة يمكن أن يقاس عليه أيضا في الأفلام القصيرة والوثائقية التي شهدت تنوعا وتعددا على المستويين الفني الموضوعاتي. وهي في مجموعها تعكس احترافية اللجان المكلفة بالانتقاء وتسيير الفعالية ككل. الحقيقة الثالثة تتعلق بلجان التحكيم التي غالبا ما تثير الكثير من اللغط وتسيل الوفير من الحبر في أكثر من تظاهرة فنية، حيث بدت مخرجات هذه اللجان مقنعة للجمهور من جهة ومنتمية للقيم والمحددات الفنية من الجهة الأخرى، بعيدا عن منطق التوزيع الجغرافي، والترضيات القطرية، أو ما أطلقنا عليه سابقا بمنطق "التبراح" في تقدير الأعمال الفنية وبالتالي في توزيع الجوائز. لتأتي التتويجات هذه المرة متقاطعة تماما مع المحددات الفنية المتعارف عليها، بعيدا عن الأحكام الأخلاقية أو سيطرة الواقع السياسي في تقييم المنتج السينمائي، وكان ملفتا أن يستبق الجمهور إعلان اللجان بالهتاف منحازا لجودة المُنتج، لا لجنسيته أو انتمائه الجغرافي أو الفني. ولعل هذه الدورة الأولى قد كشفت ضمن ما كشفته من الحقائق، التي ستظل تؤرق المنتج السينمائي الجزائري، والمتعلقة بضرورة التفكير بجدية في واقع السينما الجزائرية على المستويين الإخراجي والمضاميني من خلال ملاحظة ذلك التفاعل الجماهيري الكبير مع الأعمال المغاربية (المغربية والتونسية) والاستفادة من هذه اللحظة التي كشفت الكثير من الأمور، من بينها ضرورة تجاوز الصور النمطية المكرسة للجمهور المفترض، ومخاطبة تطلعاته، للوصول إلى منتج أكثر جودة يلامس تفكيره ويجسد واقعه دون رتوش ودون "إقامة جبرية" في رؤى جاهزة ومكررة بشكل تقريري. كما أضحى أمام الوزارة الوصية فرصة نادرة للقياس وإعادة التقييم بين "المهرجان المغاربي" الذي حقق وثبة حقيقية في دورته الأولى وبين مهرجانات نظيرة ظلت تعقد في غياب التميز وشروط الاحتراف. وفي الوقت نفسه، ستمثل هذه الدورة "حالة تحدٍ" حقيقي لمحافظة المهرجان، عن مدى قدرتها في المحافظة على التقدير الفني الذي خرجت به، وعن امكانيات استمرارها بالمستوى المرموق ذاته، سواء على مستوى اختيار الأفلام أو التنظيم.