لا يختلف إثنان، في أنه لا مواطنة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون مواطنة "فهما وجهان لعملة واحدة". فالمواطنة باعتبارها حياة جماعية قائمة على روابط تشريعية وسياسية وثقافية وإنسانية، وإطار تتحقق من خلاله الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية اللازمة للمساواة والعدالة، لا يمكنها أن تصبح فعالة وبناءة إلا عن طريق مشاركة كل فرد في تدبير شؤون مجتمعه بإبداء الرأي، والقيام بمبادرات تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة، والمشاركة باعتباره ناخبا أو مرشحا في اختيار نوع السلطة التي يجب أن يخضع لها المجتمع. هذه المشاركة التي ستسمح بتثبيت الديمقراطية، فلا يستقيمُ عُودها إلا بمشاركة جميع فئات وشرائح المجتمع من رجال ونساء. فهي إذاً حق للجميع، حيث تتنوع وتتعدد وتتكامل من خلال مجموعة من الإجراءات والسلوكات والممارسات، التي تشكل ميدانا خصبا لتفعيل القدرات والمهارات. وإذا كان التركيز في عالمنا العربي يربط المشاركة عموما بالمشاركة السياسية بشكل خاص، فإن الكثير يختزلها في الإنتخابات، إلا أن واقع الأمر يفيد بأن المشاركة هي مشاركات، فنجد المشاركة السياسية، والمشاركة في المجتمع المدني، المشاركة في الحياة اليومية... إلخ، وينبغي الإنتباه إلى ضرورة خلق توازن بين هذه المشاركات، هذا التوازن الذي يجعل الديمقراطية صيرورة نامية لا مجرد شعارات وادعاءات فارغة. وعليه، وفي هذا الصدد وبالعودة للجزائر، فبالرغم من كون الدستور الحالي الخاص ب 28 /11 /1996، أهم وثيقة دستورية عرفتها البلاد والتي تقر بالمساواة القانونية الكاملة بين الرجال والنساء، وبشكل خاص في المستوى السياسي. حيث إنه يخصص للنساء حقا مساويا للرجال فيما يخص القيام بالإقتراع وأهلية الترشح سواء للوظائف الإدارية أو الإستحقاقات الإنتخابية، تبقى وضعية النساء الجزائريات النظرية (القانونية) منها أو الواقعية (الميدانية) بعيدة عما يجب أن تكون عليه في بلد حالم، مضى نصف قرن على استقلاله. وبالنظر أيضا، لما أقره القانون الجزائري من مبادئ المساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز بينهما تبعا للجنس، منذ السنوات الأولى من التحرر، يبقى تمثيل وعدد النساء في شتى المجالات بما فيها المجال السياسي محتشما، الأمر الذي يصبح صادما، خصوصا إذا ما قورن بما تمثله النساء من نسبة المجتمع الجزائري الكلي، من جهة. وإذا ما قورن برغبة الجزائر الظاهرة في تجاوز جميع أوجه السلوكيات التمييزية ضد النساء، باعتبارها انخرطت ضمن البلدان المؤيدة لجميع المواثيق الدولية الخاصة بالحقوق السياسية المدنية، الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية منذ 1966 (انظر المرسوم الصادر في 16 ماي 1989، J.O.R.A n« 20 du 17 mai 1989") ومعاهدة كوبنهاجن في 1979 حول استبعاد جميع أوجه التمييز اتجاه المرأة، من جهة أخرى. وعليه وبعيدا عن لغة الأرقام الحالمة التي يشيد بها البعض وبشكل مناسباتي، إن لم نقل ديماغوجي (سواء في عيد المرأة، عيد الأم، إقتراب المواعيد الإنتخابية الشعبية، الولائية والرئاسية،......) والتي تحاول المقارنة وبشكل مفارق وغير موضوعي بين وضعية المرأة قبل و بعد الإستقلال، فتدلل بما آلت إليه فيما يشبه الجدول الآتي: تحاول هذه المداخلة التركيز على أنه: لا تزال مشاركة المرأة في الشأن المجتمعي العام، محدودة وغير منتظمة وضئيلة، مما يؤشر على محدودية تمتعها بجميع الحقوق السياسية، المدنية، الإجتماعية والإقتصادية، الحقوق التي أقرتها مختلف الدساتير عبر تاريخ الجزائر المعاصرة بالمساواة بين الرجل والمرأة. وسنعتمد للإستدلال على هذا الواقع على التحليل السوسيولوجي للمعطيات الظاهرة في الجدول المبين فيما أعلاه، تماما كما سيتم وبالإضافة إلى ذلك إبراز مؤشرين اثنين لا يقلان عن المعطيات السابقة من حيث الدلالة السوسيولوجية ألا وهما: إنخراط المرأة الجزائرية في الأحزاب السياسية ومشاركتها في عملية الإنتخابات سواء أكان ذلك كناخبة أو مترشحة. وعليه، وبالعودة للأرقام المبينة يتضح وبشكل عام أنه: 1. لا تتوصل المرأة الجزائرية ولا في أي قطاع من القطاعات لأن تساوي أو تتجاوز النسبة النصفية. 2. تتوزع المرأة الجزائرية على القطاعات بشكل ثنائي لافت، فهناك أربع منها - باستثناء القطاع البرلماني - تتخطى نسبة وجودها فيها ال30٪ وصولا وكأقصى حد إلى 45٪، وأخرى وعددها الخمس، أين لا يلامس تمثيلها حتى عشر النسبة المئوية. وذلك إن دل على شيء فهو يدل وبشكل مفارقاتي كيف تعاد موقعة المرأة وبالنظر لجنسها ضمن القطاعات المنزلية "domestiques"، تماما كما يتم القيام بذلك كلاسيكيا في الأسرة ومنه في البيت: حيث تتواجد المرأة وبقوة فقط أين يطهى الطعام، وتداوى الجروح وتذاكر الدروس للأطفال. في حين أنها تغيب أو تستبعد وبشكل حاد من القطاعات السيادية والحرة، حيث تترك المساحة للرجل ليقوم على الأمن، التجارة، المقاولة والحكم بشكل عام، بل وحتى الرياضة الفن والأدب. هذه الإستنتاجات التي لا يمكن إلا مفصلتها مع واقع ثقل التقاليد والموروثات الإجتماعية والسيطرة الذكورية التي يتشبع بها المجتمع الجزائري، شأنه شأن كل المجتمعات العربية الأخرى، والتي تعيد لتأصيل مناخات تحصر دور المرأة داخل الأسرة والبيت (طاعة الزوج، تربية الأطفال،...)، لأنها وببساطة كيفما كانت تظل في نظر المجتمع كائنا، غير قادر على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات المصيرية، لدرجة تكرست فيه هذه الأفكار بشتى الطرق والوسائل داخل المجتمع إلى أن أصبحت واقعا ثابتا في حياة المرأة. هذا الواقع، الذي إذا ما ربط بما يحدث على المستوى السياسي وهو بيت القصيد- يُمكنُنا وبسهولة من فهم أن ضعف التواجد السياسي للنساء، لا يتعلق بالأساس بكونهن غير متحمِّسات للعمل الحزبي التنظيمي، الذي يعتبرونه ترفا، أو عدم إيمانهن بأهمية وفعالية النشاط السياسي، بل يعود وبالدرجة الأولى إلى وعي أغلبهن بمدى تضييق مفهوم العمل السياسي نفسه. وعليه، فهن إن لم يترشحن مثلا لرئاسة حزب، أو مجلس أو مجتمع بأكمله فذلك لأنهن يعلمن بأن الأنانية الذكورية في القيادات الحزبية أو غيرها، لن تسمح بفتح المجال للنساء للتمثيل الحقيقي سواء على مستوى الحزب في المناصب القيادية، أو خارجه كالتمثيل البرلماني أو الرئاسي. فيكفي وعلى سبيل المثال: ملاحظة وبشكل عكسي كيف تتسع وعلى المستوى الهرمي، القاعدة النسائية للمناضلات اللواتي تلعبن دورا أساسيا في تقوية أي حزب، لكنه وبمجرد العودة إلى المناصب القيادية ،نجد على أكثر تقدير بين خمسة عشر وعشرين رجلا، تشغل المرأة منصبين يتبرع بهما الرجل لها، الأول: يتمثل في التكليف بشؤون المرأة وهذا أمر طبيعي وكلاسيكي، أما الثاني، فسيقدم لها في شكل منصب لا يكاد يكون له دور في القرارات وليست له أي مسؤولية وطنية كتكليفها وعلى سبيل المثال لا الحصر بأمانة المكتب. وفي كلتا الحالتين يعتبر ذلك تضييقا وتقليصا منظما لدور المرأة. وإن كان هذا المخطط يسير بهذا المنطق عندما يتعلق الأمر بالحزب، فهو صالح أيضا لتفسير آليات الإشتغال بكل المؤسسات السياسية الأخرى كالمجالس الشعبية، الولائية والوطنية ككل، حيث يهيمن الرجال على كل المناصب السياسية القيادية، في حين تدفع النساء للعب أدوار ثانوية داخل المؤسسات السياسية، بحيث لا يمكنها سوى أن تقتصر على التعبئة والتأطير والأعمال التضامنية والإعلامية البسيطة. ومن ثم، فإن كنا قد استثنينا تفسير تزايد نسبة تمثيل المرأة الجزائرية في البرلمان، حيث تساوت وبشكل تقريبي مع نسب القطاعات الدوميستيكية، وبلغت الثلاثين في المئة، فذلك لا يعدو عن كونه مؤشرا على استحقاق المرأة وإصرارها ومن ثم نجاحها أمام الرجل في ولوج قبة البرلمان، بقدر ما يرد إلى سياسة نظام الحصص أي ال كوطا النسائية الذي أقره رئيس الجمهورية في سنة 2008 وتم التصويت عليه برلمانيا في سنة 2001. والذي لا يمكن تحليله بعيدا عن محاولات لتلميع صورة البلاد الديمقراطية من جهة، والإعتراف الضمني والمستتر بعجز الأحزاب وغيرها من المؤسسات السياسية من تبني مبدأ المساواة في ترشيح قوائمها الإنتخابية، من جهة ثانية. كما يعود وبالدرجة الثانية، إلى قياسهن لمدى قبول واستيعاب ذهنيات أفراد المجتمع ككل بمشاركتهن السياسية: فلا يختلف إثنان من أنه و بالرغم من أن المجتمع الجزائري ومن ثم مختلف شرائحه، قد قطع أشواطا كبيرة نسبيا في الحداثة والعصرنة، إلا أنه قد بقي وفيا لبعض القيم والأفكار الإركائيكية التي مفادها أن الممارسة السياسية أكثر من غيرها من الممارسات التي تأخذ من القائم بها حيزا هائلا من الوقت، الجهد والإهتمام. وبناءً على ذلك، فالنساء اللائي يصررن على الممارسة السياسية فهن - ومن خلال سبر آراء لعينة من الطلبة في جامعة سطيف - لا يمكنهن إلا أن يصنفن في إحدى الفئات، فإما: - نساء متشبهات بالرجال. - نساء علمانيات وغير متدينات. - متزوجات لكنهن مهملات. - أمهات فاشلات في تربية أطفالهن. - زوجات مطلقات. - نساء عازبات، معقدات وباحثات عن ملئ الفراغ العاطفي. - نساء ذوات صلة برجال يمارسون السياسة: قرابية، صداقة، أو غيرها. - نساء ذوات سوابق غير أخلاقية. وهن بهذه الصفات التشكيكية، في كونهن مواطنات عاديات، يهدفن وعلى غرار الرجال مهما كان واقعهن، إلى المساهمة في تسيير البلاد، يخضعن لعديد من الإكراهات، الأمر الذي لا يمكنهن سوى إما المواصلة في الممارسة السياسية مع احتمال توليد لديهن الشعور بالإحباط نتيجة التبخيس والإحتقار وإما الكف عن الممارسة والإستقالة من الحياة السياسية. ثم إن النظر إلى الفئات المعلنة أعلاه، يؤكد مرة أخرى ثقل الحمولة الثقافية للتصورات حول الجندر وعنفها الرمزي، بحيث تدل مجتمعة على عدم الإعتراف الجمعي بكيان إسمه المرأة بعيدا عن تبعية ودعم لكيان آخر تعددت أدواره (أب، زوج، أخ، صديق، زميل) وتوحد إسمه ألا وهو: الرجل. هذا، وبالعودة إلى المؤشرين الذين سبق وأن تمت الإشارة إليهما آنفا، فيجدر التنويه بأن جميع عمليات الإنخراط ضمن جماعة، تنظيم أو منظمة ما، لا تتم إلا بناء على قناعات تبنى على مبدأ التشاركية حول واحدة أو جملة من القضايا الإقتصادية والإجتماعية. فمن أجل تنظيم وتصريف تلك القناعات بصفة قانونية وبشكل يقوم فيه على أساس احترام مبادئ الديمقراطية والانفتاح، تتم إتاحة الفرصة للإنضمام والإنتظام في إطارها، والمساهمة في صياغة برامجها، وتنفيذ تلك البرامج الهادفة إلى ترسيخ مبادئ معينة تفضي إلى تغيير الممارسة الإجتماعية اتجاه قضية ما (ثقافية، إجتماعية، تنموية، تربوية...). وعليه، فبالرغم من أن الدستور يكفل المساواة في التمتع بالحقوق السياسية، بما فيها الإنخراط في الأحزاب السياسية إلا أن نسبة الإنخراط المؤنث ضمن الأحزاب تبقى ضعيفة، مما يحيل إلى وجود مفارقات بين ما هو نظري والممثل في الدعوة إلى إشراك العنصر النسوي في تسيير الشؤون الحزبية وما هو ميداني، أين يثبت الواقع المعاش عكس ذلك تماما. هذا ويسجل المتتبعون للمشهد الحزبي بالجزائر، بأن الأحزاب السياسية مسؤولة بصورة شبه كلية في أمر استبعاد النساء وفي تغييب شراكتهن، حيث يعيبون على قوادها وكوادرها عدم المبادرة أصلا للتفكير في استراتيجيات لجذب النساء الأكثر ظهورا إعلاميا والتزاما للنشاط ضمن تنظيماتهم الحزبية، ونزوعهم عن قصد أو عن غير قصد عند الحاجة لتوظيف المرأة، لإعادة بعث وإنعاش صيغ العصبية القبلية التي يتم بموجبها اختيار نساء بعيدا عن الكفاءة والأهلية والإعتماد بالمقابل على صلات الرحم، القرابة الأسرية والعروشية. الأمر الذي سينجر عنه وبشكل آلي، ترسيخ صورة نمطية للمرأة التي لا يتم قبول وجودها سوى ك«ديكور" أو خوفا من الإنتقاد، أو طمعا في مقابل معنوي يظهر به المسؤولون عن الحزب بالصورة الأكثر انفتاحا ومن ثم تقدمة لأكبر عدد من المرشحات النساء في الإستحقاقات الكبرى. الشيء سيان بالنسبة لمشاركة المرأة في عملية الإنتخابات، سواء أكان ذلك كناخبة أو مترشحة: فمادامت المشاركة الإنتخابية تقتضي ترشحا، جمع توقيعات، إقتراع، برامج، مناقشات ومساءلات. فقد قوننت الدساتير هذه العمليات، ونصت المواد على استحقاق المواطنين الذين استوفوا شروط العقل وبلوغ السن القانونية للقيام بها ذكورا أكانوا أم إناثا. ولعل أهم ما يلاحظ، أن العلاقة بالإنتخابات هي علاقة ثنائية، فالمرأة الناخبة موجودة وبقوة، في حين تظهر فيه المرأة المترشحة وبشكل عكسي غائبة وهي إن حضرت فذلك بشكل هزيل. حيث تؤكد الأرقام بل وحتى المعاينات بالنسبة للأولى، على الإنخراط القوي للناخبات في العملية الإنتخابية، فهذه الفئة هي الأكثر تعاطيا مع الإنتخابات، مما يجعل الأحزاب تراهن عليها، وتلجأ لكل أساليب الإستمالة من أجل كسب أصواتهن. تماما كما برهنت المرأة على قدراتها العفوية في التسويق والإشهار السياسي خلال الحملات الإنتخابية، فالمرشح الذي يعتمد في حملته الإنتخابية على رجل مثله قد يربحه صوتا واحدا، والذي يتواصل مع إمرأة فذلك يكسبه أصواتا، لا لشيء سوى لتحول الإنتخابات في الجزائر وعلى غرار أي تظاهرة جماعية أخرى إلى فعل نسائي بامتياز. و ليس في الأمر علاقة بدرجات عليا من الوعي السياسي للناخبات، بقدر ما هو أثر عكسي لانتشار نسب الأمية والفقر لدى النساء أكثر منه لدى الرجال، هذا الوعي الذي ينعكس على اللعبة الديمقراطية ككل، فتقف تلك الفئة بدون وعي وراء نجاح فئة أخرى. وأما بالنسبة للثانية، أي المرأة كمترشحة، فيبدو أن واقعها معقد طالما أنها لا تتمكن إلى إتقان قوانين اللعبة السياسية في حضور الرجل الذي لا يسمح لها لأن تتصدر اللوائح والقوائم الحزبية، ومن ثم فاحتكار الرتب الأولى من طرف الرجال وتذييل القوائم بالنساء كثيرا ما يعيق ترشيح هذه الأخيرة. وهي إن فكرت في بدائل وحلول أخرى، كأن تتقدم تحت هيئة مترشح حر، فهي لا تتوصل لإقناع الناخب الجزائري سلفا بالنظر لجنسها، هذا إذا أضفنا قضية ضعف الدعم المالي لترشيحها مقارنة بترشيح الرجل. لتنتظر ما ستفضي إليه الأوامر والضغوطات الفوقية الدولية منها أو المحلية، تماما ك نظام "الكوطا"، الذي ساعدهن - وإن كان على حساب صورتهن - على الصعود إلى المناصب السياسية من أجل الرفع من تمثليهن في الأحزاب والبرلمان والحكومة. هذا الشكل من التعامل مع المشاركة السياسية النسوية الذي وإن كان ظاهره إيجابيا، إلا أنه يحمل في طياته عنفا وتهميشا رمزيا منظما لا تنفك وأن تتعرض له المرأة في المجال السياسي. *بقسم علم الإجتماع- سطيف 2-