ساد صمت قصير بعد أن تسللت ابنة الدكتور سعدي من زوجته الأولى إلى داخل البيت، وعاد سارج مارتيناز من جديد إلى طرح أسئلته على الدكتور إلا أنه كان يبدو غير مقتنع بكل ما كان يقوله الدكتور، بحيث قال فيما بعد للصديق المشترك بينه وبين الدكتور أن الدكتور سعدي أصبح غامضا وغير موفق في تحاليله كما السابق، ولقد حاول من جهته الصديق المشترك أن يعلل لسارج مارتيناز مثل هذا التحول الذي جعل من الدكتور يبدو على هامش الأحداث وبعيدا عن لب القضايا، ولقد حكى لسارج مارتيناز قائلا ما معناه أن الدكتور سعيد سعدي أصبح يدرك أنه لم يعد يمتلك على الساحة السياسية ذلك الوزن الذي كان عنده في السابق، فهو يعرف أن مصداقيته قد تآكلت، وشهرته قد اضمحلت، وتأثيره في منطقة القبائل قد انمحى، وأسطورته قد انقرضت.. كما قال الصديق المشترك لسارج مارتيناز، إن ما عاد يهم الدكتور في حقيقة الأمر هو الحصول على المزيد من المال.. لقد أصبحت علاقته تكاد تكون مرضية بالمال ولم يعد ذلك سرا خافيا على أحد.. وهو لهذا السبب قال، الصديق المشترك احتمى من جديد بعلاقته العائلية مع رجل الأعمال الشهير علي حداد الذي جعله يقبض مقابلا على موقفه غير المزعج لشقيق الرئيس الأصغر السعيد بوتفليقة عندما لم يعلن عداءه للعهدة الرابعة، بل شجع مكاتب حزبه للتنديد والتخويف من الخروج إلى الشارع ضد العهدة الرابعة، واكتفى أن ينضم إلى المتعاطفين الذين قد تخدم خطوتهم هذه في نهاية المطاف ترشح بوتفليقة إلى عهدة رابعة.. وذكر سارج مارتيناز فيما بعد، أن الصديق المشترك، قد أخبره عن عقدة حقيقية ظل يعاني منها الدكتور سعدي، وهي عقدة منصب وزير خارجية الذي حلم به لسنوات، وذلك منذ وصول بوضياف، الرئيس المغتال إلى الحكم.. ولقد كان الحلم بهذا المنصب هو الذي جعله يمضي لبوتفليقة صكا على بياض عندما تحالف معه في العام 1999، وأضحى كل واحد منهما ينادي الآخر، بصديقي.. وقال سارج مارتيناز وهو يكاد يشكك في كلام الصديق، أتظن أن مثل هذا الكلام دقيق وصحيح، فقال الصديق المشترك.. طبعا، أنا متأكد مما أقول لك يا سارج.. وتستطيع أن تعرف ذلك ذات يوم من الدكتور سعيد سعدي نفسه.. ويضيف الصديق المشترك مخاطبا سارج مارتيناز "إنني أذكر جيدا عندما جاءنا الدكتور وعلامات الفرح بادية على وجهه، بينما كنا مجموعة صغيرة من الأصدقاء والكوادر في الحزب، قائلا لنا، إنه توصل إلى اتفاق مع بوتفليقة ليكون على رأس منصب وزارة الخارجية، ولقد طلب منه بوتفليقة، أن يسكت عنه الألسنة السليطة لأصدقائه الصحفيين.. وبالفعل، كتب الدكتور سعدي رسالته الشهيرة إلى أصدقائه الصحفيين، طالبا منهم الكف عن عرقلة بوتفليقة وما يقوم به تجاه تحقيق السلم والتقدم في الجزائر، وقال يومها، إنه بصدد فتح ورشات كبرى من أجل إصلاح العدالة والتعليم.. لكن ما إن نشر الدكتور رسالته الشهيرة، حتى جاءت الضربة قاضية من طرف بوتفليقة الذي جرده من مصداقيته عندما قام بتعيين غريمه عبد العزيز بلخادم على رأس الخارجية.. "وما زال سارج مارتيناز يتذكر حرفيا ما قال له الصديق المشترك، عن الحالة النفسية التي تعرض لها الدكتور سعيد سعدي، بحيث راح يبكي بصورة لم يألفها عنه الصديق المشترك... وكانت تلك الحالة التي اعترت الدكتور مثيرة للحزن في نفوس أصدقائه...". ويذكر سارج مارتيناز وهما في طريقهما إلى الفندق من جديد، أنه سأل الصديق المشترك عن تلك العلاقة التي أصبحت تجمع بين كاتب قريب من حلقة شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة، وهو غاني قدوي، وبين رجل أشيع عنه أنه معارض عنيد لبوتفليقة، فقال الصديق المشترك.. يجب أن تعرف بشكل دقيق وجيد كيف يفكر الدكتور سعيد سعدي، إنه يدرك جيدا أن الكاتب غاني قدوي أصبحت كلمته مسموعة عند عصبة الرئيس، وهو إلى جانب ذلك يمتلك موهبة لافتة في الكتابة، قد يحاول الدكتور استعمال هذا القلم لصالحه، وهذه هي عاداته وطريقته في بسط السيطرة بشكل تدريجي على أصدقائه الذين يجعل منهم في نهاية المطاف مجرد وسائل ليصل إلى مقاصده ومصالحه، ومجرد أتباع "لكن سارج مارتيناز أعرب عن شكه في أن يتحول غاني ڤدوي إلى مجرد أداة أو تابع، بل العكس هو الصحيح، قال مارتيناز... "أظن أن غاني ڤدوي، برغم البراءة التي يرسمها على وجهه، والابتسامة التي لا تغادر ثغره، والنكت التي لا تنضب عنده، هو ليس بالشخص الساذج، أحسست أنه يخفي شخصا ذكيا، محنكا وبراغماتيا بداخله، وقدرته على استغلال الناس لصالحه أظنها ليست بالبسيطة". صمت الصديق المشترك، وهو يفكر في كلام سارج مارتيناز.. وعندما وصلا إلى فندق سان جورج، توجها إلى البار، بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب" وكانت الأطيراس مليئة بالإعلاميين والشخصيات الأجنبية، وعندئذ قال الصديق المشترك "فيما فهمت أن الدكتور خيب أملك يا سارج..." فقال سارج "ليس الدكتور وحده من وجدته مخيبا للآمال.. بل معظم سياسييكم وجدتهم مخيبين للآمال.. لا أفهم كيف تضيّع الجزائر في كل لحظة حاسمة منعرجها التاريخي نحو التقدم والديمقراطية..؟! ظل الصديق المشترك ينظر إلى سارج، وهو يهز رأسا موافقا...