صدور المرسوم التنفيذي المتضمن رفع قيمة منح المجاهدين وذوي الحقوق    وزير التكوين والتعليم المهنيين يشرف من البليدة على الدخول التكويني لدورة فبراير    مجلس الأمن يعتمد قرارا يدين الهجمات في جمهورية الكونغو الديمقراطية والاعتداء على المدنيين    تقديم العرض الشرفي الأول لفيلم "من أجلك.. حسناء" للمخرج خالد كبيش بالجزائر العاصمة    الطارف : انطلاق التربص التكويني لمدربي كرة القدم FAF1 بالمركب الرياضي تحري الطاهر    شبكة وطنية لمنتجي قطع غيار السيارات    تعديل في نظام تعويض أسعار القهوة الخضراء المستوردة    اقتناء "فيات دوبلو بانوراما" يكون عبر الموقع الإلكتروني    اجتماعٌ تنسيقي بين وزير السكن ووزير الفلاحة والتنمية الريفية    ربيقة يشارك في تنصيب قائد جيش نيكاراغوا    رهينة إسرائيلي يقبل رأس مقاتلين من كتائب القسام    معركة فوغالة كانت بمثابة القيامة على جنود العجوز فرنسا    بوغالي يلتقي اليماحي    جنازة نصر الله.. اليوم    القانون الأساسي لموظفي التربية    نثمن الانجازات التي تجسدت في مسار الجزائر الجديدة    اتحاد التجار يطلق مبادرة لتخفيض أسعار المنتجات الغذائية    باتنة: الدرك الوطني بوادي الشعبة توقيف عصابة تنقيب عن الآثار    خنشلة: الأمن الحضري الأول يوقف شخص تورط في قضية النصب    جائزة التميّز للجزائر    هناك جرائد ستختفي قريبا ..؟!    هذا جديد مشروع فيلم الأمير    سايحي يتوقع تقليص حالات العلاج بالخارج    الجزائر المنتصرة تفتخر بانجازاتها العظيمة اليوم وغدا    رئيس مجلس الشيوخ المكسيكي يجدّد دعمه للجمهورية الصحراوية    احتجاجات تعمّ عدة مدن مغربية    الإجراءات الجمركية مطبّقة على جميع الرحلات    تكنولوجيا جديدة لتقريب الطلبة من المحيط الاقتصادي    تعزيز المطارات بأنظمة رقابة رقمية    عشرات الأسرى من ذوي المحكوميات العالية يرون النّور    المجاهد قوجيل يحاضر بكلية الحقوق    وفد من المجلس الشعبي الوطني يزور صربيا    اعتماد 4 سماسرة للتأمين    مستفيدون يُجرون تعديلات على سكنات تسلَّموها حديثاً    مبادرات مشتركة لوقف إرهاب الطرق    نادي ليل يراهن على بن طالب    مولودية الجزائر تطعن في قرار لجنة الانضباط    دراجات/الجائزة الدولية الكبرى لمدينة الجزائر: ياسين حمزة (مدار برو سيكيلنغ) يفوز بنسخة-2025    استعمال الذكاء الاصطناعي في التربية والتعليم    تراث مطرَّز بالذهب وسرديات مصوَّرة من الفنون والتقاليد    رضاونة يجدّد دعوة ترسيم "الأيام العربية للمسرح"    مدرب مرسيليا الفرنسي يوجه رسالة قوية لأمين غويري    العاب القوى/الملتقى الدولي داخل القاعة في أركنساس - 400 متر: رقم قياسي وطني جديد للجزائري معتز سيكو    الأولمبياد الوطني للحساب الذهني بأولاد جلال: تتويج زينب عايش من ولاية المسيلة بالمرتبة الأولى في فئة الأكابر    كرة القدم/رابطة 1 موبيليس (الجولة 17): نادي بارادو - مولودية الجزائر: "العميد" لتعميق الفارق في الصدارة    رئيس الجمهورية يدشن بتيبازة مصنع تحلية مياه البحر "فوكة 2"    عرض النسخة الأولى من المرجع الوطني لحوكمة البيانات    صِدام جزائري في كأس الكاف    صحة: المجهودات التي تبذلها الدولة تسمح بتقليص الحالات التي يتم نقلها للعلاج بالخارج    أنشطة فنية وفكرية ومعارض بالعاصمة في فبراير احتفاء باليوم الوطني للقصبة    تسخير مراكز للتكوين و التدريب لفائدة المواطنين المعنيين بموسم حج 2025    اختيار الجزائر كنقطة اتصال في مجال تسجيل المنتجات الصيدلانية على مستوى منطقة شمال إفريقيا    حج 2025: إطلاق عملية فتح الحسابات الإلكترونية على البوابة الجزائرية للحج وتطبيق ركب الحجيج    هكذا تدرّب نفسك على الصبر وكظم الغيظ وكف الأذى    الاستغفار أمر إلهي وأصل أسباب المغفرة    هكذا يمكنك استغلال ما تبقى من شعبان    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقنية السّرد المكرر
نشر في الجزائر نيوز يوم 26 - 05 - 2014

الأحداث التي تبدو جوهرية، من وجهة نظر المتلقي، لا تؤدي بالضرورة إلى ردي النص القصصي. كما هو الحال بالنسبة إلى رواية "غدا يوم جديد". هناك أحداث عرضية تم التركيز عليها بالاعتماد على المتغيرات الأسلوبية ووجهات النظر، أو انطلاقا من المستويات اللغوية المتحولة من مقطوعة إلى أخرى، ومن مستوى تبئيري إلى آخر.
الملاحظ أن عملية الرّدي خصّت وقائع لفظية وفعلية كانت ثانوية أحيانا، مقارنة بالحكاية -الإطار-، غير أنها تواترت بحيث غدت الأصل، أما الأحداث الأخرى، رغم أهميتها، فقد نقلها السرد المفرد بنوعيه.
مع ذلك لا يمكن إغفال هذه الوقائع العرضية المبنية على ارتدادات داخلية تتعلق أساسا ببعض الحواشي المرتبطة بماضي البطلة وبمجموع علاقاتها السابقة. وإذا كان من المتعذر التطرق إلى كافة السرود المكررة، فإننا نتناول قسما منها للتدليل على كيفية تمفصلها.
أ- وفاة المخفي:
تبين التنافرات السردية أن هذا الحدث ورد في شكل لواحق أسندت إلى رواة متباينين: "هي تعتقد أن الجزائر تقع في النقطة التي تغيب فيها الطريقان عن الأنظار، وهي نقطة مؤلمة حقا بالنسبة إليها، ففي تلك الأدغال يقع "المحجر" الذي قُتل فيه زوجها، المخفي".
إن الأهم في هذه المقطوعة لا يتمثل في المحجر، وإنما في الأدغال كمكان قيمي يذكّر باية بشخصيتين اثنتين: أ- ابنتها مسعودة. ب- زوجها المخفي.
إن للمكان علاقة مباشرة بالفقدان، لذا لا يرد التكرار انطلاقا من الذات، من العلامة النفسية المستقلة، وإنما من الواقع الخارجي الذي تمثله الأدغال كمرجع ممتلئ، لأنه يغدو حافزا على التذكار: "تلك الأدغال التي قيل لها: فيها قُتل المخفي هي الأدغال نفسها التي تخفي وراءها الجزائر التي أخذت منها مسعودة! مسعودة رفيقة الشباب وذكرى الحياة الزوجية الأولى السعيدة!".
لقد قدم المخفي كعلامة بيضاء من حيث إنها لا تحيل على أية قيمة أو بطاقة دلالية تميزه عن الشخصيات الأخرى، غير أن التواتر السردي سيؤدي وظيفة أساسية تتمثل في شحن هذه العلامة تدريجيا. لذا أمكننا القول بأن التكرار لم يرد اعتباطيا، لأن قول السارد: "مسعودة رفيقة الشباب وذكرى الحياة الزوجية السعيدة!"، يمثل بطاقة من حيث إنه يشير إلى السعادة. أما المضمرات فتحيل على النقيض.
حتى المسكوت عنه يترجم لاحقا على مستوى البنية الصريحة، إذ يلجأ الراوي إلى توضيح العلاقة بين باية وعزوز، وبينها وبين المخفي بإعادة الحدث وتدعيمه بنعوت تشكل مجالين تصويريين متضادين: "بالأمس فقدت زوجها الحبيب، واليوم هاهي تفقد ابنتها (....) إن عزوز هو السبب. إنه رجل جشع قاس، ظالم، يبيع أمّه، لو كانت له أم من أجل المال".
تشير الأوصاف إلى حقيقتين متضادتين: حقيقة المخفي وحقيقة عزوز، من منظور الراوي. ثمة تصعيد دلالي واضح: لقد قدم المخفي على أنه زوج، ثم أسندت له الأيام السعيدة، وفي المقطوعة الأخيرة أسندت له صفة الحبيب ليتخلص تدريجيا من البياض الدلالي الأولي. وهذا يدل على أن التكرار لم يرد لذاته، وإنما لتدعيم حالة أولية انطلاقا من الأصوات السردية المتباينة، إذ كلما حصلت إعادة للحدث إلا وبرزت تنويعات لفظية وأسلوبية تعد إضافات جديدة تضيء الشخصية، الموضوع. غير أن هذا الاقتراب لا يؤدي بالضرورة إلى الكشف عن حقيقة الشخصية نتيجة اختلاف زوايا النظر التي تسهم في تراكمات صورية متباينة.
أشرنا إلى أن وفاة المخفي من أهم الأحداث المعاودة، وغالبا ما دخلت شخصيات أخرى لتخضع إلى التبئير الجزئي، وقد ترد الإعادة ليس من أجل تصعيد الدلالة، وإنما من أجل تأكيد معنى سابق: "عندما قتل أبوها زعم (عزوز) أنه الوريث الوحيد للمخفي من الذكور، ما دام أن اسمهما العائلي واحد. لكن نصحه الخوجة لأن الناس يعرفون الحقيقة".
ثمة تكرار لحدث موت المخفي. إلا أن المقطوعة تميل إلى التأكيد على البطاقات السابقة التي أسندت إلى شخصية عزوز من حيث أنه: - جشع، قاسٍ، ظالم، يبيع أمه من أجل المال.
لأن محاولة الاستيلاء على الأرض والإرث معا هي تفسير للصور السابقة، وما التكرار سوى تأكيد يدعم المجال التصويري، سالكا بذلك الشبه أو المماثلة في تجسيد العناصر اللغوية.
تنطلق التنويعات السردية من فعلين: قتل، فقدت، الدالين على الماضي البعيد، أما الماضي القريب فهو عبارة عن معلومات تؤكد نتائج الانفصال المتمثل في رحيل المخفي. وغالبا ما يرد هذا التواتر مرفقا بتكرار حدث آخر مضمن في المقطوعة ذاتها. خاصة عندما يركز السرد على شخصية باية التي ترى أن فقدان الزوج تسبب في زواجها من عزوز، وزواج ابنتها مسعودة من رجل غريب: "لم تمض سنة على مقتل زوجها حتى وجدت نفسها ضرة، تقاسم امرأة أخرى هذا الرجل الجشع! ولم تمض سنة ثانية حتى أصبحت ابنتها مسعودة، رغم سنها، زوجة لرجل غريب من المدينة".
ثمة سرد مكرر على سرد مكرر، يتمحور الأول حول حدث مقتل المخفي، أما الثاني فيتمثل في تواتر زواج مسعودة، أما المتغيرات فتتمثل في بعض التنويعات الأسلوبية والمعنوية، والأمثلة الآتية تعكس طريقة إعادة البنية مع المحافظة على المجاورة الدلالية:
- "لو كان حيا لما" بيعت "مسعودة للغربة".- بالأمس فقدت زوجها الحبيب واليوم ها هي تفقد ابنتها. - في الواقع ليست قضية سن مسعودة هي التي كانت تمنعها من الزواج، إنما الرجل وما أشيع حوله من تهور. - باية لم ترد هذا الزواج المتسرع لابنتها الوحيدة. إنها لا تعرف أي شيء عن هذا الصهر. - باية إذن غير مطمئنة لهذا الزواج، ولهذا الختن الذي دفع ألفين وخمسمائة فرنك مهرا إلى عزوز، وبالدين، قالوا!. - من المسائل اليقينيات التي لا تقبل النقاش لدى باية ولدى غيرها، هو أن عزوز لا يحب أحدا. مصاهرته لقدور لم تكن سوى عملية اختلاس."
تبين المقاطع القيمة الاعتبارية لطريقة القص والفضاء الدلالي الذي يتشكل أثناء إعادة نقل المتن لفظا، أو نقل المتن معنى دون اللفظ لإثبات المعنى الذي يكتسب سمة الأصل، وهذا يعني أن اختلاف السند هو طريقة لتأكيد الجوهر الثابت، لتصبح الأغراض تنويعات على أصل واحد، "لأن تواتر الملفوظ لا يخضع إلى أي تواتر حدثي"، بمعنى أن طاقة التكرار تهدف إلى خدمة حدث واحد تتأصل قيمته من خلال إعادته وفق تنويعات.
لقد خضع حدث مقتل بن المرابط لقراءات ناتجة عن تموقع الشخصيات المبئرة، ليظل شخصية غامضة يتعذر القبض عليها. حتى وفاته بقيت لغزا نتيجة خضوع الحدث إلى تأويلات، ويبقى التواتر سمة بارزة أضفت على بعض المقاطع مظهرا لا يستقر على معنى.
يشير النص إلى أن المخفي من أصدقاء شكيب أرسلان، ويقال إنه شيوعي، ومن أكبر أنصار الأمير خالد. ويشاع عنه أنه قاطع طريق وصديق الفقراء: "نظم جماعات مسلحة في..."، تبرز المقطوعة كيفية ميل السرد المكرر إلى الذاتية نتيجة التأويل، ليعود الراوي ثانية لإيراد الحدث نفسه، ليس بتغيير الألفاظ والبنى الأسلوبية فحسب، وإنما باستحضار أسباب أخرى: "قالوا في إشاعة أخرى تزعم أنه لم يقتل في المحجر، وإنما هرب منه، وأثناء البحث عنه اشتبك بالجيش الفرنسي.".
هذا التواتر ناتج عن اختلاف زوايا النظر، وبالتالي عن تباين الأصوات، إذ إن تكرار الحدث هو محاولة لإضاءته، غير أنه كلما أعيد نقله من زاوية مختلفة ضاعت صورة الشخصية. لذا يصبح السرد المكرر طريقة لتكثيف الرؤى والبطاقات الدلالية المتضاربة، ومن ثم تمييع الصورة. ما يعني أن التواتر، المتعلق بموت المخفي، لا يتجه نحو تفسير الحدث بواسطة الشبكة التراكمية للجمل، وإنما تقنية لتعويمه. أي أن الصيغ السردية وُظِفت كآلية هدفها محو الرؤية الواحدة. أما الحقيقة فتبقى قراءة ذاتية للحدث، كما ورد على لسان مسعودة: "أما الحقيقة التي نعرفها نحن أهله، أنه قتل بالمحجر. قتلته فرنسا وموهت القتل بحادث المتفجرات. نعلم أيضا أنه قرأ مع ابن باديس."
وفاة محمد بن سعدون:
يعد هذا الحدث من أكثر الأحداث تواترا، لأن محمد كان حلم الجميع. ولعل تركيز الرواة على هذا الحدث هو تركيز قيمي. لقد بينت مختلف الملفوظات والسرود طبيعة العلاقات المركبة بين الشخصيات في مكان مغلق، ومن ثم ضبابية التعريفات والأوصاف، لخيارات جمالية. لذا سيساهم التواتر الحدثي، المتعلق بهذه الشخصية في انفجار الدوال وعدم استقرارها.
بإمكاننا اعتبار محمد بن سعدون قاسما مشتركا نتيجة تمفصل بعض أجزاء الخطاب حوله، أو تحوله إلى شخصية موضوع ظلت محل اهتمام الساردين.
الشخصية "لا تنمو إلا من وحدات المعنى، إنها تصنع من الجمل التي تنطقها هي أو ينطقها الآخرون عنها". يقودنا هذا التعريف إلى القول بأن ظهور العناصر اللغوية الجديدة يؤدي إلى مقروئية النص، غير أن عدم استقرار هذه العناصر سيؤدي إلى النقيض.
تعد الأغنية التي أُلفت عن علاقة بن سعدون بخديجة مدخلا إلى الكشف عنه: "إن وجهها لم تكن تفارقه البسمة إلى أن قُتل محمد! عندئذ تحولت إلى امرأة أخرى تماما. كأن حياتها انتهت، وبدأت تحيا حياة الآخرة".
اعتبرنا هذه المقطوعة تابعة للسرد المكرر رغم أن تجليها لم يرد سابقا، وذلك راجع إلى الطابع البنائي، أي إلى التنافرات. أما الحدث الأصل فقد ورد متأخرا، إن نحن أخذنا الأحداث كما وقعت في الحكاية، وليست كما نقلها الخيال نظرا لتباين "التكوين والتحويل"، باعتبار الأول ثابتا والثاني متحركا. ما يؤدي إلى القول بأن الأغنية التي انتشرت في القرية:
ضربوه في صفية عيسى آه،،، يا الاميمة والقلب لا بى ينسى". تمثل التكوين، أما المقطوعة المذكورة سابقا فتمثل التحويل والرّدي معا، وتكمن أهميتها في إبراز العلاقة بين العلة والمعلول، إذ إنه بمقتل محمد انتهت حياة خديجة. وتكمن الوظيفة الثانية من التكرار المقطعي، بأسلوب مغاير، في الكشف عن العلاقة بين خديجة وخطيبها قدور. لقد كانت علاقة في الدرجة الصفر، كونها قائمة على الظاهر، أما الباطن فكان يمثل النقيض نتيجة غياب المحمولات الثلاثة.
من هنا إمكانية التأكيد على أن إحدى غايات المعاودة تكمن في المباغتة، في هذه النقلة المؤدية إلى الانفجار الوظيفي، بحيث تغدو كل إضافة للمقطوعة أو الجملة -الأصل إضاءة أو محوا، سواء بتصعيد الدلالة أو بإدخال بطاقات دلالية تسهم في الإحاطة بالشخصية والحدث أو تمييعهما، وفي الحالة الثانية تكون المعلومات المقدمة غير مستقرة عند الانتقال من زاوية نظر إلى أخرى، لأن التحولات سمة متواترة.
تمثل المقطوعة الآتية كيفية انتقال السرد المكرر من التخصيص إلى التعميم، مانحا الحدث أهمية أكبر: "كم روّع الدشرة مقتل محمد! كلّ النساء حزنّ! وجد ملقى على حجر، مضرجا بدمائه. اخترقت رصاصة الجزء الأيسر من صدره والثانية بطنه. رصاصتا مسدس، قالوا...".
في البدء كانت الإشارة إلى تأثر شخصية خديجة، إذ أنه بمقتل محمد انتهت حياتها، ما يبرز الطابع الإفرادي للتلقى، ثم ينتقل السرد لتضمين كل النساء اللائي تعلقن به. غير أنّ الجديد هو تجاوز الخبر لتوضيح طريقة القتل التي تتسم بالطابع الإسنادي: قالوا، كما هو الحال بالنسبة لحدث مقتل المخفي، ما يؤكد إمكانية انزلاق المعلومات وتباينها.
وإذا كان السرد المكرر يؤسس على الفعل حزن، فإنه يعود ثانية للتصريح بمكانة بن سعدون: "محمد لم يكن حلم خديجة وحدها. كان حلمنا جميعا- قدور لم يقتله- في تلك الليلة كان بالقرية المركزية مع عزوز".
إضافة إلى إعادة الحدث، هناك إثراء للدلالة، إذ لم يعد محمد أمل خديجة وحدها، بل أمل القرويات. غير أنّ الساردة لا تشير إلى أية علاقة متعدية بين هذه الشخصيات، ماعدا اللقاء القصير الذي كان بين محمد وخديجة. هناك تغييب للمحمولات، سواء على مستوى السرد أو على مستوى الحوارات، ويبدو أنّ كلمة حلم كافية للإحالة على تواجد الرغبة وانمحاء البلاغ في مكان مغلق.
وقد أورد الراوي عبارة "قدور لم يقتله" لأن هذا الأخير اتهم بقتله بعد إدراك مدلول الأغنية التي ذاعت في القرية، لكن عزوز شهد أنه كان معه، ومن ثم لا تصبح وظيفة التكرار تأكيدية بقدر ما تسهم في ملء فراغ سابق ونفي قراءة المتلقى الذي يربط علامات الطبع، التي تميز قدور، بموت محمد.
ويعود النص إلى البدايات الأولى التي شهدت ظهور الأغنية: "انتشر الخبر فعم جميع البيوت: لقد قتل محمد بن سعدون، لقد قتل محمد بن سعدون، ولا يعرف أحد من قتله، ولا لماذا قتله".
ثم يرتد الراوي إلى أصول الحدث ناقلا إياه في شكل خبر جماعي. غير أن هذا الخبر تأكيد له. لأن الأغنية، التي تؤدي وظيفة سردية من حيث إنها ناقلة لحدث، هي الشكل المؤسس، أما الأشكال السردية الأخرى، فهي تابعة، امتداد للأغنية وتأكيد لها، أي مجرد "أسردة " للنموذج الشعري بالانتقال من السنن العلامية الشعرية إلى الكشف عن الدلالة، دون الاستقرار على مروي محدد، ما عدا تأكيد الحدث بمظاهر شتى، مع اختفاء السند أو تعدده. ويتجلى ذلك في استعمال الصيغتين: قال وقيل الدالتين على انمحاء المصدر. هكذا "يحل (الراوي) لفظه محل لفظ الذي سبقه، ويورد متنا رواه غيره". لذا يتعذر على الملتقى الكشف عن أصول الخبر والمستويين اللغوي والأسلوبي الناقلين له.
أما التواتر اللاحق فيؤكد تحقق سابقة خارجية ماضية. ذلك أن عزوز حذر أم محمد لإدراكه بأن هناك من يحقد على ابنها كونه يقلق أهالي الدشرة. إن عزوز شخصية عارفة نتيجة علاقاته. وعندما أوصى أمه بتزويجه، كان يعرف أن شيئا ما سيحدث، لأن العادات تعد قصصا متقدمة أو فواتح، وقد تشير من ناحية التحليل الوظائفي، إلى المنع. في حين أن حركات محمد بن سعدون تصبح خرقا للسنن الاجتماعية، ومن ثم إمكانية إدراك كيفية نمو الأحداث: "وهكذا تحققت نبوءة عزوز! لم يمهله أجله حتى تزوجه أمه وتحميه من شر الحاقدين! وُجد صباحا ملقى على حجر، مضرجا بدمائه".
يعود الحدث ليتكرر انطلاقا من زاوية نظر مسعودة، وهذا الردي لا يعد تأكيدا بقدر ما يقترب من التبئير، من أحد الأصوات السردية التي تحاول الكشف عن العلل التي أدت إلى الجريمة. لذا نعتبره تأويلا كبقية التأويلات ذات الحجج المتضاربة، كما تبين المقطوعة التي وردت على لسان مسعودة: "إنّني عندما أستعيد كلّ ذلك أقول في نفسي! إن نبوة قتله سبقت نبوّة عزوز. إنّها تلك الأغنية التي غنتها القرويات عن علاقاته الغرامية بخديجة بعد خطبتها من طرف قدور.".
يسهم التضخم النصي الناتج عن الردي، في إيقاف النمو الحدثي مانحا الأولوية للتأويل، لينتقل إلى رصف مجموعة من الانطباعات القائمة على السرد الذاتي. ونحن إذ نرصد بعض العينات، نهدف إلى إبراز القيم التحويلية للسرد المكرر الذي لم يستقر على وظيفة ثابتة أو على سارد واحد. لقد منحته التنويعات عدة أبعاد مجنبة إياه الحرفية، ما أدى إلى تميز الشخصيات وابتعادها عن المنوال.
لقد تركت وفاة محمد ردود أفعال متفاوتة، نذكر منها رد فعل مسعودة التي ارتبطت بجماله أكثر من ارتباطها بزوجها قدور، كما يوضح السرد الذي يتسم بالانفعال والدلالة الذاتية: "إن مقتل محمد كان اغتيالا للغرام في قلوب الفتيان والفتيات. كل من كان يخفي قي قلبه سرا غراميا دفنه. أصبح كل شاب ينتظر متى يحين دوره! لقد انتزع الحب انتزاعا من الدشرة ومن أغانيها."0.
تختلف هذه المقطوعة عن المقطوعات السابقة، في كونها سردا مكررا لا يميل إلى إثراء الدلالة فحسب، بل يهتم بالجانب التبئيري، بنقل انطباع شخصية لها علاقة ما بالحدث وبالشخصية المبأرة. غير أن هذا الموقف الواحدي يتعارض مع مواقف الآخرين، كما يوحي بذلك حديث عزوز.
ويتعمق هذا الموقف الأحادي أكثر عندما يتطور السرد ليقترب من السرد الملحمي، مؤكدا حدة المأساة وشموليتها من منظور الشخصية ذاتها: "إن محمدا قتل ولم يمت! حقيقة حية في قلوب وذاكرات كل القرويات يتناقلنها جيلا بعد جيل، إلى أبد الآبدين!".
بهذه الدلالة التصاعدية، المبنية على الاشتراك اللفظي، ينتقل الراوي من الوقتي إلى الخالد، من الشكل الأولي إلى الراهن بتعبير "توماشفسكي"، إلى شكل يجعل المتن الحكائي، رغم انبنائه على الانطباع، أكثر شمولية وإقناعا، وذلك ما يبرر بعض المقاطع الوصفية التي حاولت تجاوز حدود الكلمة لإعطاء صورة تقريبية عن شخصية بن سعدون. غير أن محاولة تصويره هي طريقة لتشويش الصورة. ومن ثم لا تصبح وظيفة التكرار المقطعي وظيفة ذات دلالة تأكيدية، وإنما تغدو نوعا من الهروب من الإدراك الدلالي القائم على الرؤية الواقعية للموضوع، سواء رؤية الراوي أو المتلقي: "لا أصفه لك. كل الأوصاف تنقص من جماله. إنه أكبر من أن يوصف بالكلمات! إنه محمد!".
إن هذا الوصف اللاوصف آيل إلى إلغاء أي لقاء بين الوصف والصورة، بين الدال والمدلول، ليصبح الاسم صفة وموصوفا، إذ لا يوجد مشبه به يكون سندا توضيحيا، ولعل ذلك ما أدى إلى الردي، إلى تكرار الحدث لاستحالة وجود العناصر اللغوية الدالة عليه، من منظور الشخصية المبئرة، وهو الشيء الذي جعل السرد المكرر يتسم بالطابع الانفعالي الذي نعتبره الطبقة التركيبية الأساسية المشكلة له.
أما الخاصية الأخرى لهذا النمط السردي، فتتمثل في كونه سردا غير حدثي، لأن "تواتر الملفوظ لا يخضع لأي تواتر حدثي"، إذ كلما تواتر الحدث تضخم النص ومال إلى الوصف والتأويل باتباع التنويعات اللفظية والأسلوبية، ومن ثم إقصاء الشخصيات الأخرى التي تصبح ثانوية، وستنحصر وظيفتها في التأويل والعرض. وتكمن إحدى خصوصياتها في الانطلاق من الأحكام المعيارية على المواد، "فيتحطم في الغالب وهم صحة المروي وجديته.".
نلاحظ أن الحدث الأخير، المتمثل في مقتل محمد، تأسس على خطاب صوتي تعكسه الأغنيتان معا، غير أن الخطاب الصوتي، المؤسس للسرد المكرر، سرعان ما "يتأسرد" فاقدا بذلك طابعه البدئي. وإذا كان هذا النمط ناقلا، فإن الأنماط الموالية ظلت تابعة، كونها اعتمدت على محاولة الاقتراب من الحدث والشخصية في مظهرها عن طريق الشبكة التراكمية للبطاقات، دون أن تولي أهمية للكينونة. ولعل الكاتب كان يهدف إلى تفادي رسم الشخصية ليجعلها قابلة لتشكيلات ترتبط بمستويات التلقي. لذا بقيت صورة محمد والمخفي غامضتين، ولم يفعل السرد المكرر سوى ترسيخ غموضهما.
وتتمثل وظائف السرود المكررة في: - المقابلة بين الأحداث، التصعيد الدلالي، تعويض البطاقات الدلالية أو التأكيد عليها بالشبه والمماثلة، إبراز تباعد الأصوات السردية واختلافها أثناء المعاودة، تأكيد المعاني السابقة بالاستبدالات اللفظية والأسلوبية، أو بواسطة الاشتراك اللفظي، تشويش الموضوعات وصور الشخصيات، إقصاء الدلالات الماضية، مباغتة المتلقي.
للموضوع مراجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.