/الكلاب تنبح والقافلة تمضي/، كتب ثرفانتس في أوائل القرن السابع عشر على لسان فارسه دون كيشوت، غامزا من قناة الحسّاد ومعتلّي النفوس، ثم ردّد هذه المقولة وراءه بعد نحو من مئة عام الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير، الذي تُلقى الأضواء عليه اليوم في إطار المعرض الضخم في مكتبة فرنسا الوطنية والمتمحور حول عصر الأنوار· في مقال حديث نفّاذ لفيليب سولرز، نكتشف كم كان فولتير الخطير مضطهداً في زمانه، وكم كان /يسلّيه/ هذا الاضطهاد، وكم كان يسعده الهجوم الذي تشنه عليه /فضلات الأدب/، مثلما كان يسمّي أعداءه· /الكلاب تنبح والقافلة تمضي/، قالها دون كيشوت إذاً، ورددتها وراءه في القرن التاسع عشر جورج صاند، التي يحتفي مسقطها باريس الآن بالذكرى المئة والثلاثين لغيابها (1876)، وهي التي لم ترحمها الألسن ولا الأقلام خلال مسيرتها الأدبية والحياتية الاستثنائية: المسيرة الحرون بامتياز· القولة إياها، أيضاً، رددها في القرن العشرين كلٌّ من نابوكوف، سيلين، ميللر، جينه، غينسبرغ، نين، فاليري، بوكوفسكي، بازوليني، ومجموعة لا تحصى من المكروهين والمحسدوين، من الناجحين المتمردين، من مشاغبي الكتابة والحياة الذين لم يعيروا أي اهتمام لسهام النميمة والتحامل الشرسة التي استهدفتهم، بل تركوا /الكلاب/ تنبح على غارب /حناجرها/ إمعاناً في تجاهلها واحتقارها· مثلهم فعل الكاتب النمسوي بيتر هاندكه، الذي رفض التعليق على قرار المنع الذي حال دون عرض مسرحيته /رحلة الى بلاد الصخب أو فن السؤال/ في /الكوميدي فرانسيز/، · قرار المنع صدر نتيجة مشاركة هاندكه في مراسم دفن سلوبودان ميلوسيفيتش واعلانه عن سعادته لكونه قريبا من الديكتاتور الصربي الذي /دافع عن شعبه/· لسنا هنا بالطبع في وارد الدفاع عن مواقف هاندكه القديمة الجديدة، المؤيدة لميلوسيفيتش، ولا نحن في صدد الاستنكار، أو المناداة بالفصل بين نص الأديب وحياته، أو محاسبة كاتب احترف المواقف المتطرفة والجدلية والصدامية· ليس هذا هو الموضوع، بل جملة هاندكه الساحرة: /أنا كما أنا· فكِّروا كما شئتم· وكلما همزتكم أحقادكم وغيرتكم للافتراء عليّ، ازدادت حريتي إزاءكم/· كتب لي الشاعر الصديق كمال العيادي أخيرا: /أيّ حياة بائسة و تافهة هذه ، لو كانت خلت من حطب الحسّاد الذي يؤجّج جمرة الإبداع والنجاح؟/· ذكّرني بجملة مدام دو شاتليه الشهيرة: /أفضل انتقام من كارهينا هو أن نكون ناجحين/، وأيضا ذكّرني بأحد أحبّ خواتم أنسي الحاج على قلبي: /إن كنتُ لا اعترف بك فليس لأني أكرهك بل لأني أرحمك/· ثم تذكرتُ كلاماً للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي: /لو أن أحداً أراد أن يكون خصماً لك /بالقوّة/، حتى لو لم يكن ندّاً لك في أي حساب شعري أو ثقافي أو إنساني، فلِمَ لا يكون على الأقل خصماً نبيلاً؟/· طرح سبتي هذا السؤال في إطار ردّه على مقال قدح وذم وشتم كتبه أحدهم ضدّه· نسي الشاعر الفقيد، ربما، أن ثمة أناسا لا يعرفون اللغة النبيلة· لا يجيدون سوى العواء على أطلال فشلهم ونقمتهم و عقمهم· وسيظل هؤلاء ينفثون بخار نباحهم العفن، في أذيال القافلة المتقدمة أمامهم، حتى القرن التاسع والثلاثين، أو حتى تقوم القيامة· ليكنْ· فهذا لعمري مدعاة للتلذذ· بل للشفقة التي تُذلّ المشفَق عليه، وبلا هوادة، وبلا شفقة·