عندما يشتد الخناق، ويضرب الطوق والحصار على اللغة العربية في بلد أجنبي عن هذه اللغة؛ فإنني أفهم هذا، وأعتبره أمراً عادياً لأنه لا يمكن لنا أن ننتظر من بلد مثل فرنسا التي تتحدث بلغة "موليير" أن تتحدث وتكتب بلغة الجاحظ، وأن تهمش لغتها الأصلية لتتبنى لغة لا علاقة لها بها ثقافياً وتاريخياً واجتماعياً، وعندما يقرّ المجتمع الأمريكي - مثلا- اللغة الانجليزية، ويعتبرها رقم 1 في المعادلة اللغوية فنحن نفهم هذا و نعتبره ترسيخاً لهوية هذا الشعب لأنها لغته التي ورثها عبر الأجيال، وعندما تجعل إسرائيل من اللغة العبرية التي هي لغة ميتة، وعديمة التداول، تجعل منها لغة حية، و إسرائيل نفسها كيان مصطنع، و ترفع من مستوى معدّلها، وتجعل السقوط فيها رسوباً في الامتحان، فإننا نعتبر هذا أمراً معقولاً جدّاً، لأن أمةً تستغني عن لغتها، وتبحث عن لغة أخرى تتبنّاها، بأية دعوى تدّعيها وبأية ذريعة تتذرع بها؛ فإننا نعتبر هذه الأمة فاقدة الهوية. لقد أعجبتني عبارة قالها الدكتور "عبد المجيد مزيان" رحمه الله، في معرض تخلينا عن لغتنا واستبدالها بلغة أخرى : " توجد في كثير من بلاد العالم الثالث اليوم طوائف من المثقفين لقنت النقد الذاتي من مرايا مشوّهة تعكس لهم وجوههم في أبشع الصور، وحسب الرسوم التي يرسمها لهم مستعمروهم القدماء، وينتج عن هذا التشويه أنهم كرهوا صورتهم أشد الكراهية وأرادوا استعارة وجه جديد، أعطني صورتك أتقنع بها، أعطني دماغك أفكر به، أعطني يدك أعمل بها، أعطني لسانك أتكلم به، لو سمعنا إنسانا ينطق بهذه العبارات لقلنا أنه يهذي، إننا تعوّدنا في لساننا العربي أن نسمي هذيان الطائفة الاجتماعية استلاباً واغتراباً، إن المجتمع المسلوب الثقافة يشابه الشخص المسلوب العقل ". هذه عبارات قالها أحد علماء الجزائر المخلصين لهذا الوطن ، المنافحين عن لغة الضاد. إن من يتقمص شخصية غير شخصيته الحقيقية، ويفضل أن يُمارس لغة غيره، خطاباً وسلوكا ومعرفة، هو شخص فاقد الإرادة، مسلوب القدرة، و هو كمن يقول : أعرني لباسك لأظهر به، وامنحني لغتك لأتحدث بها، واغمرني بقوتك كي أجابه بها الأعداء. هناك مثل في الجزائر متداول لدى سكان البادية : " المكسي بمال الناس عريان ". في بلدي الجزائر، مرت اللغة العربية، لغة القرآن، التي خاطب بها الله سبحانه وتعالى الأمم و الشعوب، و أبان لهم كيف يحيون وكيف يعملون لما بعد الحياة، مرت هذه اللغة بمراحل منذ الاستقلال، حيث وجدت فيها لغةً أخرى حلّت محلّها وهيمنت على الحياة عموماً ؛ فأخذت اللغة العربية بالتدرج تسلك سلوك الصبي، وهو يقاوم الجاذبية ليقف وليحرك أصابع رجليه نحو تتابع الخُطى، و هو أمر طبيعي لأن حرب الاستعمار على الجزائر لم تقتصر على الجزائر كبلد و لا على مواطنيها كشعب، وإنما حارب الانتماء الذي تعتزّ به هذه الأمة ، وتحسّ به و تتخذ المرجعية التي لا غنى عنها. لقد ضايقت فرنسا اللغة العربية في الزوايا وفي الكتاتيب القرآنية وحتى في المساجد ودور العبادة، وشجعت التعامل باللغة الفرنسية وبالعامية، و أن تصبح هذه الألفاظ فيما بعد جزءاً من المفردات والتركيبات اللغوية في لهجاتنا؛ بل أكثر من هذا أصبحت هذه الألفاظ الفرنسية الغريبة عنّا، تُجمع كلماتها وتثنى وتطوّع لتكون ضمن ما نتلفظ به في حديثنا العادي، وأعطي بعض الأمثلة لذلك : اسبيطار والفارمسيان إذ تجمع على سبيطرات وفارمسيانات، والكروسة كرارس، و الفوتاي فوتايات، و الستيلوا استيلوات، و الإيكول إيكولات، والمارشي مرشيات، و الجدارمي جدارمية ، و البوليسي بوليسية. ونحن نلاحظ أن الاستعمال اليومي للألفاظ جزء كبير منه مأخوذ من اللغات الأجنبية، وخاصة الفرنسية ، لغة المحتل، فنحن لا زلنا نتعامل بالألف فرنك، والفرنك لازمة في كل أعداد الآلاف، عشرة آلاف فرنك ومئة ألف فرنك... إلخ . بل ذهبنا إلى أبعد من هذا ، حين تطلب الأم أو الأب من ابنهما أن يشتري الصابون إيزيس فلا يسمع منها الطفل إلا عبارة باكي أومو، وفي المدرسة يحدث العجب العجاب : أكريّو : (قلم رصاص) ، وكاية: (كراس) . وطابلية : (مئزر) ، وكارطابل : (محفظة) ، وهلم جرّا ، وفي الاستعمالات المنزلية : ماشين ألافي، و كوزينة، وفريجيدار، ويقصدون بها غسالة و مطبخ و ثلاجة. وبدلا من أن تسود اللغة العربية الفصحى لتحلّ محل اللغة الفرنسية حدث العكس. إن ما يحزّ في النفس أن يستبق الطلاب و الطالبات إلى دراسة اللغة الفرنسية و الإنجليزية و حتى الألمانية و الإسبانية، و أن يتباروا لمعرفة هذه اللغات، و لكنهم لا يولون اللغة العربية أو الأدب العربي أي اهتمام ؛ بل أكثر من هذا، فقد شاهدت بعيني كيف أن العاملين في السلك الطبي بمستشفى الكوبيين بالجلفة يحرص كثير منهم أن يتعلموا اللغة الإسبانية ليحسنوا التعامل مع الأطباء الكوبيين، وكان المفروض أن يتعلم هؤلاء اللغة العربية. ذكرتني هذه الحادثة بعبارة أوردها الدكتور "مولود قاسم" رحمه الله ، أثناء حديثه عن المتشبثين باللغة الفرنسية، و استنكافهم و عزوفهم عن لغتهم الأم، قال رحمه الله : أوفدت الجزائر وفداً من الطلبة الجزائريين ليدرسوا بألمانيا، فخيّرتهم الحكومة الألمانية، بين أخذهم مصطلحات تخص دراستهم باللغة الألمانية، أو اللغة العربية، فأصرّوا أن يدرسوا ما ذهبوا من أجله باللغة الفرنسية، فرفضت ألمانيا بطبيعة الحال، ثم قال الدكتور مولود قاسم ذكّرتني هذه الحادثة بأحد الأجانب الذي مكث في دولة أخرى خارج بلده أربعين سنة ثم عاد إلى بلده، و لمّا سألوه عن أهل هذا البلد الذي ذهب إليه، قال لهم إنه شعبٌ غبي ، لقد مكثت عندهم أربعين عاما و لم يتعلموا لغتي، وكان المفروض أن يتعلم هو لغتهم؛ فمثل هؤلاء الذين ذكرهم الدكتور مولود قاسم رحمه الله تشبّثوا بلغة لا صلة لهم بها إلى درجة أنهم تبنوها مثلما يتبنى شخص طفلا أجنبيا و يتخلى عن ابنه الأصلي . لقد أجمعت غالبية الإدارات و المؤسسات عندنا على عدم التعامل باللغة الأم و استبدلوها بالفرنسية، حتى بعض الصحف عندنا التي كانت تذكر من حين لآخر بضرورة انتمائنا إلى هذه اللغة التي هي أحد الثوابت الوطنية، إن اعتراف الدستور بهذه اللغة لا يكفي لأن تأخذ اللغة العربية مكانها و مكانتها ما لم تصبح هذه اللغة لغة التداول و التعامل اليومي في جميع مناحي الحياة اليومية. إن كثيراً من الدّول المتقدمة صناعيا واقتصاديا أخذت تدرّس اللغة العربية في جامعاتها حتى تتقرب أكثر من الزبون العربي، تدريسها لهذه اللغة ترمي من ورائه الوصول إلى تحقيق مكاسب مادية، فغير العربي يقترب منا، أما نحن فنبتعد عن أنفسنا، إن اللغات الأجنبية هي روافد للغتنا العربية، تضيف لها ثقافات أخرى مختلفة المشارب و المذاهب، لكنها لا تحلّ محلها، ولا تقوم مقامها، ولا تكون بديلاً عنها. على المجلس الأعلى للغة العربية أن يتواجد عبر ولايات الوطن، حتى يكون له الامتداد الحقيقي بين فئات الشعب، وأن يشجّع الملتقيات والندوات الفكرية التي لها علاقة بتطوير اللغة العربية ، وأن يخصص لها حيزاً من وقته ، ودفعاً و دفْقا من مساعداته . (*) الأستاذ يحيى مسعودي : أديب و شّاعر و كاتب