تساءل الكثير لغياب المثقف عن عجلة شؤون الوطن؛ بل إن أحد المعدودين على الفئة المثقفة هاجم المثقفين عموما ورماهم بالتعالي والنرجسية والانكفاء على الذات، وأنا هنا أتحدث عن المثقف الحقيقي المستنير الذي أسهم بفكره ومعارفه في الحياة العامة، لا الذي يضع لنفسه عنوانا بارزا خلوا من كل عمق فكري أو ثقافي. لقد برز المثقف في سنوات السبعينات والثمانينات عبر مجلات كانت تصدر آن ذاك "آمال" ، "الثقافة" ، "ألوان"، كما ظلت المجلات العربية تمتلئ بها رفوف المكتبات. إن المثقف الحقيقي لم يغب هو بمحض إرادته عن الساحة، ولكنه وجد الساحة غابت عنه بفعل تسييس الثقافة بدلا من تثقيف السياسة. إن المثقف يريد أن يكون فاعلا في الساحة مؤثرا فيها لا متأثرا بها. السياسي ليس منظرا ولا منتجا للأفكار وإنما هو مساير لأوضاع تتجاذبه من هنا وهناك، منها ما هو سياسي يرافق أو يوافق اتجاهات سياسية دولية تفرض حضورها على العالم، ومنها ما هو اجتماعي يعمل على حل مشاكل المطالب الجسدية الملحّة. إن المثقف يريد أن يرقى بالمجتمع ليتجاوز التفكير في جلب وسائل سد الرمق إلى عمق ما يشغل المرء من ايجاد مجتمع مثالي لا يعيش بالخبز وحده ولكنه يحيى بالمبادئ والقيم والأخلاق التي هي سلوك اجتماعي راقي، ولهذا لم يفهم كثير من الناس الرؤية التي كان يحلم بها مالك بن نبي، وهي بناء الفكر لا بناء الجسد، ولهذا أيضا غاب المثقف عن الأحداث منذ الثمانينات، وغيابه هذا لم يكن من صنعه هو، بل غيّبه الساسة الذين سيّسوا كل شيء حتى نتائج الامتحانات التي خضعت في يوم من الأيام ل"الكوطة"، وخضع التقييم العام للمسيرة التنموية للكم دون الكيف : (كم بنت السلطة من مؤسسات، كم خرّجت من أعداد الدارسين والمتكونين وكم شقت من طرق) كل هذا خضع للتعداد دون التفكير في الاتقان والجودة وتطوير الانسان نفسه. لقد غُيّب الإنسان الجزائري في خضم المساعي الحثيثة من أجل الاهتمام بمحيط الإنسان. لقد بذلت جهود من أجل الوسائل دون التفكير بجدية في الغاية أو النتائج. لقد بلغ الأمر ببعض الطلاب أن أصبحوا يهددون الأساتذة، ويعملون على تخريب المؤسسة، ويعتبرون الجزائر غنيمة لابد وأن يكون لهم نصيب فيها، وهم قد شاهدوا كثيرا من المسؤولين يتسابقون نحو نهب خيرات الجزائر والاستيلاء على مقدراتها، لقد غيّبت السلطة الانسان، فاهتمت بعض الشيء بمحيطه، مثلما غيّبت المثقف، واهتمت بأن أقامت له مهرجانات ظنا منها أو اعتقادا بأن هذه المهرجانات ترضي فضوله أو تكون مدعاة لصمته، لكنها في الحقيقة لا تعنيه، ظنت السلطة أو قصدت ذلك أنها وصلت للمثقف أو اقتربت منه؛ ولكنها في الحقيقة ابتعدت عنه. إن المثقف كما قال أحد الشباب في أثناء نقاش جرى في إحدى القنوات الجزائرية، يراقب من بعيد دون أن يكون له رأي، هذا صحيح ولكن الصحيح أيضا أن المثقف حدث له بالضبط ما حدث للمواطن البسيط من ارتباك وحيرة ثم احباط في نهاية الأمر؛ تجري الانتخابات والمواطن البسيط غير مبال، وتتحرك الأحداث حوله ويسمع عن السباق نحو المسؤولية من لدن بعض الأشخاص وقد يشاهدهم وهم ينفقون أموالا طائلة من أجل الظفر بمقعد في البرلمان أو عضوية في المجالس البلدية؛ ويشتاط غيضا ويمتلئ غضبا ولكن لا حول له ولا قوّة من أجل التغيير، وحين تسدّ أمامه الأبواب ويدرك أنه على الهامش فيصبح لا يهمه الأمر. قرأت قصة رُويت عن أحد الملوك أنه دعا أحد العلماء الزهّاد ليشير عليه، فجاء هذا العالم ورحّب به الملك ثم قال له: أشر عليّ بالنصيحة فالبلاد استشرى فيها الفساد، وعمّت البلوى ودبّت الفوضى، فبماذا تشير عليّ؟ فقال له العالم الزّاهد: "هذا لا يهمّني"، فاستشاط الملك غضبا، وقال له أستنصحك فتقول لي هذا لا يهمني؟! فقال له لقد أجبتك يا أمير المؤمنين مشكل البلاد أن كلّ واحد منا لا يهمه الأمر، وكل واحد منا تخلى عن مسؤوليته فأصبح يقول: هذا لا يهمّني. إن القول بأن المثقف غائب عن الساحة ليس ذلك بمحض إرادته لقد لاحظت أن الاجتماعات تجري عبر الهيئات الحكومية المختلفة فيحضرها التجار والفلاحون والصناعيون وكل الفئات إلاّ المثقفون فإنهم لا يستدعون لمثل هذه المناسبات بل إن موضوع الثقافة مثله مثل المثقّف مغيب عن كل اهتمامات المسئولين، وإذا ذكرت الثقافة فهي تأتي عرضا ودون اهتمام كبير؛ وكأنها شيء ثانوي مما يستغنى عنه، مع أن الثقافة والمعرفة العلمية هي التي سادت العصور الاسلامية الزاهية في العهدين الأموي والعباسي ، إن كل واحد منا لا يهمه الأمر، وكل واحد منا تخلّى عن مسئولياته فأصبح لسان حاله وحتى مقالة "هذا لا يهمني" كما ألمح لذلك الزاهد في عصر من العصور. إن القول بأن المثقف غائب عن الساحة، متعال عن مجتمعه، غير آبه بما يحدث في بلده هو ظلم للمثقف وتحميله لمسؤولية لا علاقة له بها. وحيث أن الاجتماعات التي تقوم بها الهيآت المحلية أو الوطنية يحضرها المستثمرون والمقاولون ومن يمثل الجانب الاجتماعي والاقتصادي والمالي؛ لكن من يمثل الثقافة من المثقفين غائب عنها، وكأن الثقافة ليست لها علاقة بالمجتمع ولا بالمسيرة التنموية؛ فالتنمية عند السياسيين في بلادنا هي هموم الجسد لا هموم الفكر؛ فالغذاء والايواء هما المحور الذي ينبغي أن يناقشه المسؤولون وأن يقيموا من أجله الاجتماعات شبه اليومية، أمّا الثقافة فشأن لا أهمية له ، موضوع الثقافة ينحصر عند بعض مسؤولينا في إقامة أسابيع فلكلورية تتبادلها الولايات وتتخللها بعض الأمسيات الشعرية والأدبية التي قد تكون في كثير من الأحيان مقصورة على أسماء بعينها، هذا مشهد متعارف عليه عبر الوطن. إن الثقافة عند أجدادنا المسلمين والعرب هي التي أنارت الفكر الانساني عبر القرون، وهي التي استعانت بها الأمم المتقدمة والمتحضرة الآن . ذكر لي أحد الرهبان وقد كان عندنا بالجلفة، وهو الذي وضع تأليفا باللغة الفرنسية في تاريخ الجلفة أسماه "Siècles de steppe" ، قال لي : "جاءني بعض الطلاب من إحدى الثانويات؛ فسألتهم عن المقرر الذي يدرسونه، وتناولت من أحدهم كتابا، فتصفحته، وقلت لهم : لماذا لا توجد أسماء علمائكم الذين كان لهم الفضل في النهضة العلمية التي عرفتها أوروبا، أمثال ابن سينا وابن الهيثم والبيروني والكندي وغيرهم، فقال أحدهم لا ندري، فقلت لهم ما دمتم لا تستفيدون من علمائكم الذين يحق لكم أن تفتخروا بهم فإنكم لن تذهبوا بعيدا" ، ونحن نعلم أن جلّ هؤلاء كانوا يحملون همّ الثقافة، وكان العديد منهم مستشارين للخليفة هارون الرشيد والخليفة المأمون، كان مستشاروهم علماء ومثقفين يسلكون بهم منهج التقدم والرقي، ولهذا نالوا قصب السبق في مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. إن الثقافة في الدول المتقدّمة هي التي غيّرت وجه الشعوب وحررتها من الاستبداد والاستعباد، فمؤشرات النهضة في فرنسا مثلا خطط لها المثقفون (بودلير، مولبير، وفيكتور هيغو وغيرهم) ومؤشرات النهضة في بريطانيا كانت اليد الطولى لمسرحيات شكسبير التي صنعت مناخا مسرحيا خدم المجتمع البريطاني، وفي روسيا نجد دو ستيوفسكي وتولستوي ومكسيم غركي، ومثل ذلك ما فعله هيمنغواي في أمريكا. أذكر أنني قلت لأحد مديري الثقافة: لماذا لا تستشير رجال الثقافة في هذه الولاية من حين لآخر فيما يخص البرامج الثقافية التي قد يخطط لها على مستوى الولاية؛ فكانت إجابته: "الباب مفتوح أمام الجميع"، فقلت له: حتى أبواب الأسواق مفتوحة على مصراعيها، وحتى أبواب المقاهي؛ إن الكاتب أو الأديب له كرامة تمنعه من أن يتطفل على الإدارة، ويتردّد عليها دون أن يحفظ ماء وجهه بتلقّي دعوة تعزّز مكانته كمثقف، إن المثقف آخر من يقام له وزن، فلماذا يتهم المثقف بالانعزالية والانطواء وبعده عما يجري من أحداث؟! .