و سحب الإمام العمامة من على رأسه ثم عاد ليسوي تموضع الكتاب بين ركبتيه ، و زبد اللعاب متجمع على جانبي شفتيه ، تأججت النار أكثر عندما أضاف أحد الجلساء قطعة خشب منخورة إلى اللهب الذي كاد أن ينطفئ ، و استأنف الإمام الحديث و قد رافقت ملامح وجهه ابتسامة خفيفة مترددة :.. و قال له ولده سأصعد إلى قمة ذلك الجبل الشامخ هناك .. و هنا قطع الراعي نفس الإمام بتعقيبه :لا بد و أن هذه الأحداث قد وقعت في أواخر فصل الخريف أو في بدايات فصل الشتاء من تلك السنة لأن ال ..و زجره الإمام بشدة غاضبا من هذا السطو الذي وقع دون إشعار على مجرى الحديث ، و من الراعي خصوصا، و صمت قليلا معبرا عن تضرر الحكاية من هذا التدخل أو مفكرا في وصل آخر حدث بما يليه ، ثم واصل بهدوء : و لما ظهرت بوادر العاصفة و تأكد للجميع أن الأمر يقين لا شك فيه و أنهم سيواجهون الحقيقة بعد أيام ، فإما البقاء و إما الفناء .. ، و في هذه الأثناء التي سادها صمت باد في عيون المتتبعين باهتمام ، عيون انعكس عليها نور اللهب المتراقص و أفواه تحاكي حركاتها الصامتة تطور منحنى الأحداث في صعوده و نزوله ، سمع جلساء الحلقة تأوهات امرأة صادرة من إحدى الخيام القريبة ، و ما هي إلا لحظات من التساؤل و الحيرة حتى تفجر صراخ مولود جديد ، تلته زغرودة عالية كسرت صمت المكان في منتصف ليلة مقمرة ، ولم يعد بإمكان الإمام الاستمرار في رسم علامات التعجب و الدهشة على الوجوه المشدوهة ، و لم يعد أيضا بإمكان هذه الوجوه أن تشكل من التعجب خيالات للمتعة و الإعجاب ، فقد تدحرجت الطقوس الليلية و بعثرت ذلك التناسق الحميم بين شعاع القمر و نور اللهب البهلواني ، و بين صمت الخيام النائمة و تدفق الحوار الحكائي في جو الحلقة ، عندما قام الجلوس و تفرقوا في اتجاهات مختلفة . أيقظت الزغرودة المدوية ابنة الإمام و ابن الراعي من غفوة عسلية غشيتهما في الظلام تحت البرنس ، و هب الكلب الذي تبعهما إلى شجرة الصفصاف واقفا منتصب الأذنين ، و بعد أن سوت الفتاة شعرها و شدت على وسط ثيابها ، خاطبت العشيق الذي ضل مضطجعا : هذا فأل جميل .. متى ستأتي لخطبتي من سيدك ؟ ، فأجابها بكسل ممددا ذراعيه : عندما يسقط المطر فينبت عشبا و تلد نعاجي خرافا تكبر و تسمن فأبيعها لأدفع مهرك .. و ردت عليه بسؤال يلونه الغضب : بعد كل هذا الجفاف ؟ .. لقد أقاموا صلاة الاستسقاء و منذ ذلك اليوم لم تظهر سحابة واحدة في السماء… ما علاقة زواجنا بالمطر ؟ فأجابها الكلب بنباح منذر باقتراب أحدهم ، وكان شيخا جثم لقضاء حاجته ، و بينما كان الشيخ منشغلا بإحداث عاصفة رعدية من تحته ، تسلل الاثنان عائدان إلى حي الخيام و بقي ثالثهما يراقب ذلك الشيخ من بعيد. في الصباح البارد تهيأ الحي و كأن خيامه تستيقظ من سبات عميق ، صباح ثقيل هادئ ، تدفعه الشمس دفعا نحو منتصف النهار حيث نادى الإمام بعد خروج الرعاة بقطعان الغنم : ابشروا .. يا أهل الحي ..ابشروا ..لقد تمرغ الكلب في التراب .. ستمطر هذا المساء و إني أرى ذلك في السماء . و كان مساء اليوم أثقل من صباحه ، حيث لم يدر أهل الحي إلا و الغيوم تتلبد في السماء و يتجمع سوادها كقطع الفحم على الرماد ، و غربت الشمس و أظلمت ، و لم يعد السحاب يجلب النظر سواده إلا فوق دائرة القمر التي تكشف تكثف السواد أكثر فأكثر ، و لم يلاحظ الرعاة العائدون أنه مساء جديد ، و لم يلاحظ الإمام ذلك بل قد تيقن منه ، لكنه لم يلاحظ فعلا غياب ابنته اليانعة ، التي خرجت إلى شجرة الصفصاف لتحضر حزامها الذي تركته البارحة هناك ، عندما فاجأهما ذلك الشيخ ، خوفا من أن يعثر عليه أحد الرعاة و تنكشف قصتها مع ابن الراعي ، و كان هذا الأخير قد تفطن لأمر الحزام المنسي ، لذلك مر بقطيعه قرب شجرة الصفصاف أثناء عودته ، و هناك التقيا ، بعد الغروب حيث هيجت التراب أولى القطرات و تعانقا طويلا إلى جذع الشجرة و ذابا في غفوتهما العسلية المعهودة ، ومع أن دمدمة الرعود كانت تسمع من بعيد إلا أن الذي أيقظهما بعنف هي الصاعقة التي ضربت بالقرب منهما ، و اشتد بعدها تهاطل الأمطار ، فتجمع قطيع الغنم حول الشجرة ، و أحسا بالدفء عندما جلسا إلى الجذع و لامسهما صوف النعاج المتراصة ، و لم يعد بوسعهما تذكر إلا تلك اللحظة المشحونة بالحب و الدفء و المطر و الفزع ، و نسيا الحزام و حي الخيام ، و تذوقا لأول مرة الطعم الكامل للجمال في عنف الطبيعة. أخذ الجميع برأي الإمام و نصبوا خيامهم في سفح بين المرتفعات ، و افتخروا بسداد رأيه و صواب اختيارهم لذلك الموقع الذي لا يتناقض مع الإرث المقدس ، خاصة عندما قص عليهم حديث الولد الذي تمرد و قال : سأصعد إلى قمة ذلك الجبل الشامخ هناك .. و عندما تدفقت السيول العارمة في منتصف تلك الليلة الظلماء الراعدة ، جرفت حي الخيام بمن فيه وما فيه إلى وجهة غائصة في البعد و في الظلام. و عندما أطلت الشمس من الجهة المقابلة لجهة احتجابها ، لم تجد أثرا للحي الذي تركته البارحة يودعها في تثاقل ، إلا جثة الشيخ الذي خرج ليلا لقضاء حاجته الأخيرة في مكانه المفضل بمحاذاة شجرة الصفصاف العملاقة التي تربعت على عرش الربوة ، و العاشقين الذين استيقظا على نباح كلبهما المبلل.