في الوقت الذي فيه دولة بحجم الولاياتالمتحدةالأمريكية تمارس وتتّجه تصاعديا باستمرار نحو الإنفراد والأحادية والانحياز الازدواجية في القضايا الإقليمية والدولية، أمنية كانت أم اقتصادية أو إنسانية نجد روسيا وخاصة في العقد الأخير تشكّل قوة توازن لتسوية القضايا والأزمات الدولية. الغرب وحلفاؤه الإقليميّون من خلال التدخلات العسكرية كانوا وراء الأزمات والانقسامات التي تعيشها دول عربية (السودان، العراق، سوريا، اليمن، ليبيا،...)، بالمقابل روسيا على مستوى العلاقات الثنائية أو على مستوى دورها الإقليمي والدولي (في المؤتمرات الدولية، بمجلس الأمن…) تدفع عمليا إلى الحلول السياسية والواقعية في حضور الثقل الأقوى للمتسبّبين في الأزمات الإقليمية في حد ذاتهم على غرار الأزمة الليبية. منطقيا من غير الموضوعية أن المتسبّب في الأزمة يكون طرفا جادا في الحل. بأبسط قواعد سبر الآراء نجد الشعب العراقي، السوري، الليبي واليمني لا يثقون في وساطة الغرب لتسوية أزماتهم المحلية لأنّها أصلا من نتائج التدخل الغربي العسكري وحلفائهم في المنطقة. رغم ذلك، الواقع يملي استحالة إيجاد تسوية خارج القوى الغربية وحلفائهم الذين يتغيرون حسب كل ظرف أو مرحلة. التدخل العسكري الغربي ومحاولات التسوية مرتبطان بالمصالح الاقتصادية الغربية في المنطقة بعيدا عن المنطق الإنساني والفعل الديمقراطي، واسترجاع استقرار الدول والشعوب الضحية في المنطقة. واقعيا كذلك، من المبالغة اعتبار دور روسيا بعيدا عن المصالح في المنطقة، ولكن الفرق أن الدور الروسي قائم على العلاقات الثنائية والإقليمية من منطلق المصالح والمنفعة المتبادلة، ذلك ما تمّ مع ليبيا قبل 2011 والذي تضمّن التعاون في مجال النفط والغاز وطرق السكة الحديدية والطاقة والمجال العسكري ليصل مستوى التعاون إلى أكثر من 6 مليار دولار في 2010. وبعد الإطاحة بنظام القذافي وبداية الأزمة الليبية، وجدت روسيا نفسها من بين الدول الضحايا الكبرى في هذه الأزمة. مقاربة روسيا لتسوية الأزمات العربية ناتج عن مرجعية إيجابية مع دول المنطقة، وقائم على التعاون في المجال الاقتصادي والعسكري على غرار مصر والعراقوسوريا وليبيا. روسيا الإتحاد السوفيتي أو روسيا الاتحادية الآن لم تكن في صراع أو تباين مع هذه الدول، والعلاقات كانت باستمرار قائمة على التعاون المتفق عليه. لم تكن روسيا يوما ما دولة استعمارية في عالم الجنوب بل هي نفسها كانت ضحية للاستعمار والتدخلات العسكرية بما فيها أنها أكبر ضحية في الحرب العالمية الثانية وضحية حاليا للحصار والتهديدات الغربية حتى مع حلفاء روسيا سابقا (بولونيا، أوكرانيا،...)، بل أكثر من ذلك، كادت روسيا أن تواجه نفس مصير التقسيم والدمار في الشيشان على غرار ما تمّ لدول عربية. خلافا للدول الغربية التي هي باستمرار مشكل لدول وشعوب المنطقة من الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد إلى التدخلات العسكرية التي أسّست للأزمات الإقليمية القائمة. قراءة وتقييم ليس فقط من الدول والشعوب الضحية خارج المحيط الغربي بل حتى من داخل الغرب نفسه على المستويين الرسمي وغير الرسمي. يكفي التذكير بموقف إيطاليا، رغم أن هذه الأخيرة نفسها لها مرجعية وممارسات استعمارية، عندما نائب رئيس الوزراء الايطالي لويجي دي مايو (جانفي 2019) حمل فرنسا المسؤولية التاريخية لما يحدث في الدول الإفريقية والعربية بسبب الاستعمار والاستغلال المستمر لشعوبها، أما على المستوى غير الرسمي أحزاب ومحلّلون ومراكز دراسات ومؤسّسات إعلامية كبيرة ومتعددة تسقط نفس المقاربات والأحكام على حكوماتهم الغربية. تعرف روسيا مسبقا خلفيات وأبعاد المنظومة الغربية المتمثلة في أوليات تحقيق أقصى ما يمكن من مصالح مادية بغض النظر عن البعد الإنساني أو المصالح والمنفعة المتبادلة، تعتبر ليبيا من بين النماذج لذلك. استمرار الأزمة الليبية بالنسبة للغرب هو استمرار لتحقيق المصالح، ولهذا فإنّ مقاربات الغرب للتسوية ولدت ميّتة (اتّفاق الصخريات، المؤتمرات المتعددة حول ليبيا التي تمت بأوروبا...) لأنّ الهدف بقاء الوضع متأزّما في ليبيا، وبالتالي استمرار استغلال الموارد خارج وجود دولة ليبية. حكومة السراج أو حكومة اتفاق الصخريات لم تكن شرعية وفق مضمون الاتفاق نفسه، لأن هذا الأخير تطلب مصادقة البرلمان الليبي، ولم يتم ذلك وأن ثلثي أعضاء المجلس الرئاسي الذي يترأّسه السراج هم منسحبون وحتى الدول الغربية التي كانت وراء اتفاق الصخيرات (2015) بما فيها فرنسا التي هي الآن عمليا تقف إلى جانب الجيش الوطني الليبي بحكم أنه أصبح أمر واقع في الميدان، حيث يمتد نفوذه وتحكمه تقريبا إلى 90 % من الأراضي الليبية بما فيها طرابلس. الظرف جاهز حاليا لقوى إقليمية ودولية أخرى، وفي مقدمتها الجزائر على المستوى الإقليمي وروسيا على المستوى الدولي للدفع لمسار إيجابي لتسوية الأزمة الليبية المتداخلة المصالح، وكلما طالت الأزمة تظهر فواعل ومعطيات إقليمية أخرى تدفع للتصعيد وليس للحل، ليس فقط على مستوى قوى إقليمية ودولية لم تكن أطرافا في الصراع، وأخرى كانت منطلقا وسببا في الصراع، بل على مستوى الأطراف التي كانت سببا في الصراع نفسها، المتمثلة في الدول الغربية وتركيا كل يريد أن يحقق مكاسب أكثر من الآخر قبل الوصول لاتفاق لتسوية الأزمة الليبية. إنّ المنطق والواقع الحالي لا يعطي للغرب الإنفراد لوحده لإيجاد الحلول السياسية الأحادية الجانب، وأن التوازن والأخذ في الاعتبار إشراك كل الأطراف الليبية المتباينة والانسجام مع قوى إقليمية ودولية أخرى خارج المحيط الغربي هي الحل والبديل الأمثل الدائم الذي يخدم مصالح الجميع أمنيا، سياسيا واقتصاديا. بإفريقيا والعالم العربي الانتفاضات الشعبية تتصاعد ضد القوى الغربية وحلفائهم في المنطقة، وأن استمرار ذلك لن يكون في صالح الغرب لأنّ الإفرازات هذه المرة قد تنتج أنظمة وحكومات تعكس توجهات متباينة مع الغرب. الحل الأمثل من مصلحة الغرب الإسراع لاحتواء التصعيد والاتجاه نحو حلول سياسية قائمة يحكمها على الأقل التوازن في المصالح. تطرّف أو أنانية الغرب في الاستحواذ على المكاسب سيدفع القوى الدولية الصاعدة، والتي ترقى لمستوى قوى كبرى وفي مقدمتها روسياوالصين للتكامل أو التحالف مع دول عالم الجنوب في مواجهة المد الغربي المتطرّف. روسيا من الجانب العسكري على الأقل والصين من الجانب الاقتصادي يشكّلان ثقلا أكبر في العلاقات الدولية والتأثير في القضايا الإقليمية. إضافة إلى ذلك، وجود قوى إقليمية على غرار الجزائر في المحيط العربي والإفريقي بمنظور ومقاربات تتكيّف أكثر مع الصينوروسيا. الجزائر مثل روسياوالصين لم تكن طرفا في الحرب ضد ليبيا، الجزائر منذ البداية وقفت ضد التدخل العسكري وطالبت بحل سياسي. هذا دون ذكر أنّ الشّعب الليبي بمختلف أطيافه وفئاته بما فيها الذين ساندوا في البداية الإطاحة بنظام القذافي لهم مواقف مناقضة للسلطات المتعاقبة في ليبيا بسبب فشلهم في تقديم بديل للنظام الليبي المطاح به، سلطات ناتجة عن التدخل والدعم الأجنبي. الشعب الليبي ووفق مختلف مؤسسات سبر آراء أوروبية تؤكّد أنّه في حالة وجود حل سياسي أو انتخابات سوف يتم إزاحة العناصر المتسببة في الأزمة الليبية بما فيها مجموعتي حفتر والسراج، وتفرز قوى وطنية بديلة تعكس إرادة الشعب الليبي. ضمن هذه الإفرازات الحل الأمثل للغرب أن يتكيّفوا مع المقاربة الروسية ودول المنطقة، وفي مقدمتها الجزائر لإيجاد حل سياسي لاحتواء التصعيد، الذي سيمس بمصالح الجميع خاصة موضوع الإرهاب والهجرة غير الشرعية.