«أنغام بلادي»، «يا بابور»،»النجمة والهلال» كسرت التضليل الاستعماري حنجرة ذهبية صالت وجالت ربوع الوطن وخارجه بأغاني شهيرة حملت رسائل التحرر والهوية والأمل في مستقبل جزائر مشرق. هي أغاني رددتها الألسن بحرارة، أغاني ساندت الثورة بالقلم واللحن، وتخطت شهرتها الحدود، مثل «تحت سماء الجزائر»، «النجمة والهلال»، «أنغام الجزائر»،»يا بابور»،»مولاة الحايك»... أنغام طرب، حبلى بالأمل وشحن الإرادة الوطنية في التحرر من نير الاستعمار الفرنسي وبناء جزائر السيادة والحرية التي أوصى بها رواد الثورة، واعتبروها أمانة في الأعناق. انه الفنان علي معاشي، الذي تتوقف عنده «الشعب ويكاند»، وتسرد أدق التفاصيل عن أحد الحناجر التي غنت للجزائر وكانت وجها آخر للنضال الوطني. ولد علي معاشي في حي رأس سوق بحوش المعاشات وسط تيارت في 12 أوت 1927. تكفلت والدته بتربيته بعد وفاة أبيه. اشتغل تقنيا بالإذاعة قبل اندلاع الثورة التحريرية. صاحب حنجرة ذهبية، أغانيه ترصد معالم التغيير في جزائر أقسمت بأنها لن تكون فرنسية، وأنها رفعت لواء الثورة من اجل استعادة سيادتها وهويتها، بعيدا عن التضليل الاستعماري ومغالطات فرنسا الكولونيالية في الترويج لأشياء ما أنزل الله بها من سلطان. هي جزائر رسمها علي معاشي في أغاني خالدة مرسخة في الذاكرة الوطنية. إنها أغاني رددها على الملأ قبل ان ينهي ظلام الإحتلال الفرنسي آخر أنفاس شهيد الوطن في 8 جوان 1958 وهو لم يتجاوز 31 ربيعا، بعد اختطافه وسجنه وتعذيبه ثم التنكيل بجثته في ساحة كارنو، «ساحة الشهداء» لاحقا، بمدينة تيارتمسقط رأسه... « أنغام بلادي»... القصة الكاملة من منا لم يسمع ويستمتع بأغنية «أنغام بلادي»، التي يقول مطلعها: يا ناس ما هو عزي الأكبر يا ناس ما هو عزي الأكبر.. لو تسألوني نفرح ونبشر ونقول بلادي الجزائر.. الأغنية، لا تزال كلماتها تصدح إلى يومنا هذا في كل ذكرى تحييها الجزائر لثورتنا المجيدة وذكرى استشهاد علي معاشي... فمن مسقط رأسه مدينة تيارت، التي أبصر فيها النور سنة 1927، بدأ شغفه وحبه للموسيقى، لكنه لم يتمكن من إكمال دراسته، فتفرغ لمساعدة والده في الفلاحة. وعند التحاقه بالخدمة العسكرية الفرنسية الإجبارية في قوات البحرية الفرنسية بمدينة بنزرت التونسية، استغل تلك الفرصة في الاستزادة وتعلم الكثير عن الموسيقى وعند عودته إلى الجزائر أسس فرقة «سفير الطرب»، التي عرف بها وبدا من خلالها نشاطه الفني حتى أصبحت له بصمته الماثلة للعيان من خلال قصائده الغزلية والثورية.. تميز علي معاشي ببصمة خاصة دمج فيها النغمة الوهرانية الأصيلة بالألحان الشرقية، مبرزا من خلالها تعدد وثراء الرصيد الموسيقي الفني الجزائري في أشد فترات الحرب اشتعالا. ومن خلال أعماله دحض تلك الصورة الزائفة التي كانت تروج للعالم في ذلك الوقت، بأن الجزائريين متخلفون وهمجيون، وأن فرنسا أتت من أجل مشروع حضاري. من خلال فنه كذّب علي معاشي تلك الصورة الزائفة وأبان عن أنموذج من والوعي السياسي والثقافي والفكري، ليتضافر في منتهاه مع ضربات المجاهدين، ويتكلل لاحقا بالحرية والاستقلال. ونظرا لنشاطه المستمر، تنبهت السلطات الفرنسية في تلك الفترة لوقع أغانيه على الرأي العام الوطني وحتى خارج حدود الجزائر، خاصة بعد اكتشاف أمر التحاقه بصفوف الثورة التحريرية عام 1957، واكتشاف أوامر قيادة جيش التحرير الوطني التي كلفته بنسخ النص الأصلي للنشيد الوطني من الوثيقة الأصلية والتي استقدمت من تونس من أجل توزيعها على الجزائريين. حينها أتى قرار إخماد أنفاسه ومن ورائها تلك الحنجرة الذهبية الصداحة المنافحة بالكلمة واللحن من أجل حرية أرض الأجداد. يوم للفنان وجائزة للمبدعين وأصحاب المواهب ما يحسب للجزائر هو تخليد ذكرى علي معاشي الذي تحمل اسمه الكثير من المؤسسات العمومية والتعليمية والثقافية المنتشرة في البلاد، إضافة إلى تسمية الكثير من المناسبات الثقافية والمسابقات باسمه، وحتى يوم الفنان اختير له تاريخ استشهاده كيوم يُكرم فيه الفنانون والمبدعون من أصحاب المواهب. ولا أفضل دليلا على تلك الحظوة الكبيرة للشهيد هو إطلاق واستحداث جائزة الفنون الأولى في الجزائر والتي أصبحت وفي نوع من التقليد تقام سنويا تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية ووزارة الثقافة واختير لها اسم «جائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب على معاشي» كشعار بارز، حيث يتبارى في هذه المسابقة ثلة من الشباب المبدع في الثامن من جوان من كل عام من أجل التتويج بها في أحد فروع تلك المسابقة والتي تضم المسرح، الأعمال الموسيقية، الرواية، القصة، الفنون التشكيلية، الشعر، العمل المسرحي المكتوب، الفنون الغنائية وفن الرقص. أصبحت هذه المسابقة بمثابة المدرسة التي يتخرج منها الشباب المبدع والطموح للانطلاق في استكمال مسيرة العطاء وإعلاء راية الوطن... ولعل عبد الوهاب عيساوي إبن مدينة الجلفة أحد خريجي هذه المدرسة، والذي توج مؤخرا بجائزة البوكر العربية الراقية عن رائعته «الديوان الإسبرطي»، وتهنئة رئيس الجمهورية له إلا أفضل دليلا ورمزية على تلك الإستمرارية في العطاء وتوارث تلك التضحيات جيلا عن جيل وكابرا عن كابر. لا شيء يعلو على الوطن إن ما يستوقفنا ها هنا ليس التذكير بهذا الحدث التاريخي على سبيل الذكر والاستهلاك الإعلامي وفقط، إنما هي محطة للتفكر والتذكر في التضحيات الجسام لأبناء هذا الوطن المفدى الذين تركوا الغالي والنفيس وكل متاع الدنيا من أجل أن نعيش أحرارا أسيادا في أرضنا المترامية الأطراف العامرة بالخيرات.. نحن هنا أمام تضحيات جسام غلبت مصلحة الوطن على المصالح الشخصية فكان الثمن غاليا. قافلة طويلة من الفنانين ممن ضحوا في أشد فترات الجزائر إيلاما.. فمن علي معاشي.. إلى الشاب حسني.. إلى عملاق المسرح الجزائري عبد القادر علولة.. إلى مجوبي.. مرورا برشيد ميموني الذي قضى في أحد مستشفيات باريس يعاني من المرض وبعد مغادرته الجزائر جراء التهديدات التي كانت تلاحقه من طرف الجماعات الإرهابية، وصولا إلى الشاب عزيز واسمه الحقيقي بوجمعة حفصي، الذي اغتالته أيادي الغدر الإرهابية ذات مساء وفي صورة بشعة. تلك الأيادي الظلامية لم تعلم يومها أن تلك الممارسات والجرائم التي اقترفت بلا وجه حق ولا واعز ضمير ضد أبناء الوطن الأمين، زادت في وطنية تحلى بها الكثير من الشباب واتخذوها منهلا ونهجا للسير قدما في بناء الجزائر وحفظ رسالة رواد الحرية والوفاء لوصيتهم: «إذا استشهدنا حافظوا على ذاكرتنا».