اهتمّ كثير من الدارسين الغربيين بتسجيل وقائع الحياة الاجتماعية بالجزائر، وهناك مصادر غربية تستحق تستحق الاهتمام والدراسة والتحميص، حتى إن كتبت بخلفية سياسية أو دينية؛ ذلك لأنّها تحمل في طيّاتها بعض الحقائق القيمة تاريخيا، ومنها على سبيل المثال: "تاريخ مملكة الجزائر" لصاحبه لوجي دوتاسي، و«مذكرات القنصل وليام شالر" أو "طبوغرافية وتاريخ الجزائر" لهايدو. وأكّد الباحث منصور درقاوي أنّ المجتمع الجزائري خلال العهد العثماني، كان زاخرا بالعديد من المناسبات الدينية والشعوبية التي تخللها عادات وتقاليد رسمت معالم المجتمع، وقال إن المذهب المالكي كان هو المذهب الوحيد في مدينة الجزائر، قبل تأسيس خير الدين عهد الوصاية، ونتيجة لسيادة الدولة العثمانية، فقد عملت على نشر المذهب الحنفي، لكن دون فرضه على سكان المدينة، وبما أن أسياد مدينة الجزائر لم تكن لهم انشغالات دينية، فهم لم يبذلوا أي جهد لتطوير الأعمال الثقافية، مع ذلك عرفت الزوايا والمساجد الصغيرة تنوعا في المذاهب، خلافا للمسيحيين الذين كانوا في نفس العهد يشنون حروبا ضد بعضهم البعض باسم السلفية (الأورثودوكسية). في الوقت نفسه، انتهج العثمانيون سياسة خاصة مع الطرق الصوفية، وحاولوا في بعض الأحيان التقرب والتفاهم مع مرابطيهم، وفي أحيان أخرى وقفوا منهم موقف حياد، فهناك من يرى هذه العلاقات من زاوية أخرى أن العثمانيين عندما جاؤوا إلى الجزائر كانت الطريقة الشاذلية والقادرية سائدتين فيها، فما كان عليهم سوى التقرب إلى مشايخها لاكتساب تعاطف أنصارها كتَقْرُبِهِمْ إلى أحمد بن يوسف الملياني الذي كان من أبرز المتصوفة على الطريقة الشاذلية (...) واستمرّ هذا التحالف - تغيرت هذه النظرة - ابتداء من القرن 12 ه الموافق ل 18م، بسبب تغير ميزان القوة ونقص الموارد البحرية فرض الحكام العثمانيين على الأهالي ضرائب جديدة بما فيهم المتصوفة، نتج عنه تحول اقتصادي، ممّا أدّى إلى تحول العلاقات الدينية والسياسية بين الطرفين وبداية ظهور انتفاضات أو ما سميت ثورات الريف (كالثورة الدرقاوية)، وفي المدن ظل العلماء والمرابطون على تحالفهم مع العثمانيين طالما أن هؤلاء يضمنون لهم العيش الرغد، والتعويضات المالية. هذا، وقد عرفت الجزائر العثمانية انتشارا واسعا في الزوايا والطرق الدينية التي طبعت الحياة الروحية آنذاك، ومن أهمها: الطريقة الثعالبية الرحمانية، التيجانية، إلى جانب الطريقة القادرية الشاذلية التي كانت أكثر انتشارا والتي وجدت تأييدا خاصة من العثمانيين بالجزائر، لكن بدأ يشوبها في العهد الأخير بعض الشك وعدم الاطمئنان، ويظهر ذلك من معاملة الأتراك لشيوخ القادرية في زاوية القطنه في أوائل القرن 13ه / 19م. واستخلص الباحث منصور درقاوي ممّا سبق أن الحياة الدينية في عهد الجزائر العثمانية تميزت بالبساطة والتمتع بالحربة الواسعة، والدليل على ذلك أن جميع الطوائف الدينية بالجزائر كانت تمارس شعائرها وطقوسها بكل حرية بدءا من الأسرى المسيحيين، كما شهد سيرفانتس (Servantes) وانتهاء إلى الدراويش الذين كان يختارهم الدايات كالحاج أحمد باي قسنطينة بشهادة فندلين شلوصر (Fendelin Chloser) قائلا: "الواقع أن الدين هو القوة الروحية الوحيدة التي تتمثل في المرابط والتي تحد بالتالي من حب المسلم للسيطرة". ^ المناسبات الدّينية والاحتفالات لاحظ الباحث درقاوي أنّ المناسبات الدينية والاحتفالات في عهد الدولة العثمانية تعدّدت بالجزائر، وهو ما اطلع عليه في كتابات الأجانب، ووجدها تتكرّر من مصدر إلى آخر، وذكر منها ما يلي: - احتفالات شهر رمضان: سجّل الباحث أنّ شهر رمضان له نكهته الخاصة عند الجزائريين، وقال إنّ كثيرا من الرحالة الأجانب رووا أشياء كثيرة عن عن عادات وتقاليد هذا الشهر، ومنها ما يروي المرحوم أبو العيد دودو عن الرحالة الألماني "موريتس فاغنر" (Mouritus) قائلا: إنّ الإعلان عن بدء شهر الصيام يتم بإطلاق مائة طلقة من مدفع كبير أقيم في الميناء، وبعد الطلقات توقد مصابيح كثيرة فوق منارات المساجد تضيء الهلال الذي يتوج رؤوسها، ويقف المؤذّن بثيابه الجميلة وسط أضواء المصابيح، ويرفع العلم الأبيض، ثم يدعو المؤمنين إلى الصلاة، وليس هناك مسلم راشد لا يسرع إلى تلبية النداء، فلا شيخوخة ولا ثروة تحول بينه وبين المضي إلى بيت الله، وكانت المساجد دائما مملوءة بالمصلين وعددها تسعة وثلاثون مسجدا بمدينة الجزائر. وفي موضع آخر يقول" فاغنر" (Vagner): "إن طعام الصائمين في الليل الكسكسي بالزيت، يضاف إليه اللحم المقلي والفواكه، وبعد الإفطار ينصرفون إلى استماع الموسيقى طيلة شهر رمضان، ويستمتعون بمشاهدة الرقص والعروض الهزلية المتنوعة كعروض القرقوز، والتي تقام في المقاهي". ورأى الباحث أن "فاغنر" بالغ في هذا الوصف، ذلك لأنّ كثيرا من الجزائريين ينصرفون الى صلاة التراويح، وذهابهم الى المقاهي يكون فيما بعد، حيث يذكر الرحالة هايرينش: إن شهر رمضان من كل سنة هو شهر الحلويات والضيافة والأفراح عند الجزائريين، لكن الحفلات الوحيدة الصاخبة التي نقلها الأتراك إلى الجزائر، والتي تقام في هذا الشهر وهي حفلات القرقوز التركي (...) وكان يتم ذلك بعد الإفطار. ومن عادات شهر رمضان أيضا ختم صحيح البخاري في المساجد، مع إضاءة الشموع فيها وفي غيرها. ولكن ما يميز هذا الشهر خلافا للشهور السنة الأخرى، الحركية ليلا بحيث في بقية الشهور لا أحد يخرج من داره من غروب الشمس إلى شروقها، أما في ليالي رمضان فالجميع يخرجون ويسهرون، حتى النساء اللواتي كن يخرجن ساهرات متخذات من الليل حجابا، ومن الواضح أن المرأة لا تخرج وحدها في هذه المناسبة. بالإضافة إلى مرح القرقوز أو ما يطلق عليه اسم (خيال الظل)، كانت هناك أيضا حلقات إنشاد الشعر الشعبي، حيث يقوم المداحون بقص السير والأخبار والمغامرات الأبطال والفرسان، وقد شاع في الجزائر عندئذ شرب القهوة، وتدخين السبسي، والغليون، وغير ذلك. أما "ديماس" (Daumas) فيصف عادات الجزائريين في صوم شهر رمضان من السحور إلى الإفطار، وكيفية إقامة شعائر هذا الشهر من الدعاء والصلاة عند الإفطار، وكفارة الصيام عند من لا يقدر عليه، وخاصة إذا كان في موسم الحرّ، أو عند المريض، أو الشيخ كما يذكر "ديماس" على أن الجزائريين حريصين على تناول التّمر عند الإفطار، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الماء. - تقاليد الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى: الأعياد الدينية من المناسبات التي كان يحبها الجزائريون، ويعطون لها صبغة احتفالية محلية تخضع لعادات وتقاليد متوارثة، مع تأثر بالعثمانيين الذين أضفوا عليها بعض العادات الشرقية، ويذكر الرحالة "هاينريش" (Harmache) في مذكراته - يقول درقاوي - إن المسلمين على اختلاف أجناسهم بالمدينة، يقيمون احتفال عيد الفطر مباشرة بعد إتمام شهر الصيام، وتتجلى أشكال الاحتفال في ارتداء المسلم الساكن بالمدينة أجمل ثيابه، عكس الريفي الذي لا يأبه بالثياب الجديدة، يسمى العيد عند الجزائريين "العيد الصغير" أي عيد الأطفال، في هذا اليوم تقدّم الهدايا للأطفال، وغالبا ما تكون في شكل نقود، ويرتدي الأهالي في أيام العيد الثلاثة أجمل ما لديهم من ألبسة وخاصة الأطفال الذين يرتدون في أيام عيد الفطر ثيابا مطرزة بالذهب والفضة والسراويل المصنوعة من الصوف أو القطن ممّا يجعل منظرهم في منتهى الروعة، أما النساء والفتيات المحجبات - يواصل درقاوي مع هاينريش - إن عددهن في الشوارع والميادين العامة لا يقل عن عدد الرجال، وهن يكتفين بالنظر والتسلية (..)، وفي باب الواد ميدان فسيح يقوم فيه تركي عجوز بإدارة عجلة كبيرة وفوقها عدد من الأطفال، يمرحون ويضحكون، أما أبناء الأغنياء فيجلسون في عربات يقودها الزنوج، يسمي الأتراك عيد الفطر ب "قربان بيرام"، وعيد الأضحى يعرف عندهم "عيد القربان بيرامي"، كما توجّه الدعوة في هذا العيد إلى قناصل الدول ليشاركوا في الاحتفالات، ولكن ليس بصفتهم ممثلين دولهم، وإنما لكي يقدموا تحياتهم إلى الداي والثناء على قوته وعظمته.. احتفالات عيد الأضحى هي أيضا تبدأ بانطلاق نيران البنادق بكثرة عند بزوغ الفجر، وحتى عند قيام صلاة العيد، حيث تفتح أبواب قصر الداي على مصارعها للعامة، ويقدم الكسكسى المطبوخ لكل الحاضرين، ويستعدّ الداي لاستقبال التهاني والهدايا من أعضاء الحكومة وممثلي الحكومات الأجنبية المقيمين بالجزائر، ثم يقود وجهاء المدينة وأجواقها وسكانها إلى "جامع الْحَوَتِين"، حيث يقع ذبح الأضحية تحت طلق البنادق والموسيقى العسكرية. ويذكر كاثكارت - يقول درقاوي - أنّه كان "يُسمح للعبيد بالخروج إلى المدينة بمناسبة عيد الأضحى، كما تقام الاحتفال أيضا بالعيد في القصر، بالمآدب والموسيقى والمباريات المصارعة، ويرفع العلم التركي صباح الأول من العيد (...) مع إطلاق المدافع". ويصف شلوصر احتفالات الجزائريين بشكل عام، في بايلك الشرق، بأن الأعياد أيام مباركة، ومنها يوم الجمعة فيقول: "وللمسلمين مثلنا يوم مبارك في الأسبوع، هو يوم الجمعة يسمونه "نهار الجمعة"، ولكني لم أجد فرقا بينه وبين الأيام الأخرى، فالناس يذهبون كالعادة لأداء الصلاة، ويمارسون أعمالهم". وفي يوم عيد الصغير، يقول شلوصر، تعم الفرحة ويُنظّم الباي ليلة العيد حفلة عشاء تعزف خلالها الموسيقى، وصباح يوم العيد يخرج الى الرحبة خارج المدينة، ويجلس فوق قحدة (الشدة)، في الوقت نفسه يبدأ سباق الخيل الذي تصاحبه أنغام الموسيقى، فيمر كل قائد مع فرقته أمام الباي، ويطلقون النار كلهم (...). أما الأطفال تقام لهم أراجيح وخيام يتناولون فيها عصير الليمون والبرتقال مجانا، وتستمر التسلية حتى الثانية عشر، ويعود بعدها الباي إلى المدينة ويتناول كل واحد طعامه ببيته، كما يصدر الباي عادة العفو عن الأسرى الذين يشفع لهم (...). أما في عيد الكبير يذبح رب العائلة خروفا يؤكل من لحمه مدة ثلاثة أيام بكاملها، إلى جانب احتفالات العيدين هناك مناسبات دينية واجتماعية أخرى يُحتفل بها في الجزائر العثمانية، كحفلات الختان والولادة، يذكر فاغنر (Vagner) عن هذا النوع من الحفلات إذ يقول أنها تشبه الحفلات الأخرى، تماما حيث لا يختن الأطفال إلا في سن الرابعة، أما الرجل الذي يقوم بهذه العملية رجل يدعى "البتار"، حيث يستلم من الأثرياء هدية الختان لا يزيد عن ثمانية بوجو، أما الفقراء في المدينة فإنهم يختن أولادهم مجانا ختن أبناء البادية على يد المرابط، فالختان بالنسبة للعرب الريف هو حفل ديني أكثر منه دنيوي. ووصف الحاج أحمد الشريف الزهار في مذكراته حفل ختان وَلَدَي مصطفى باشا سنة 1797م، حيث نظّم مهرجانا كبيرا، استقدم البايات والأعيان، ودعا جميع السكان، وضاعف عدد الطباخين، وأطعم الناس ثلاثة مرات في اليوم، وضُربت المدافع من جميع الحصون ". - احتفالات المولد النّبوي الشّريف: يذكر شلوصر: "المولد النبوي عيد كبير بالنسبة للأطفال، فالمدارس كلها مزيّنة بالأعلام والأزهار ويقف التلاميذ أمامها (...) ينتظرون هدية العيد من كل مار، فيدفع لهم النفوذ هدية (...). كما يعترضون طريق المارة ويرشون وجوههم بالماء المعطر وينتظرون منهم أيضا أن يقدموا لهم هدية". ويقول الباحث درقاوي إن كتابات الرحالة الأجانب لم تفرق بين الشعائر الدينية وممارسة العادات، حيث صنّفوا هذه الأخيرة طبقا للمزاج أو العُرف الاجتماعي، وهو ما نلمسه جليا في دراسة Daumas Eugene لعادات وتقاليد الجزائريين، حيث يصف الوضوء والصلاة بأنها عادات دينية، والصوم أنه ضرب من الجوع، نفس هذه الخلفية نجدها في كتابات (Tidina) و(Chaler) وغيرهم، ما يفسر أن حكم هؤلاء الأجانب على هذه الممارسات كان من الجانب المادي فقط، وليس من الجانب العقائدي؛ لأنّهم مسيحيّين، غرباء عن الإسلام، لهذا كانت نظرتهم ضيّقة، ومن زاوية ضعيفة عن معرفة حقيقة هذه الشّعائر الدينية. الحلقة الثانية