العودة إلى التاريخ هو الانتقال إلى الماضي والوقوف على الحياة الاجتماعية والتقاليد والعادات التي كان يمارسها الناس في مدنهم وقراهم ليكونوا من خلالها ثراء ثقافيا وتميزا حضاريا، فكيف كان يقضي سكان عاصمة الجزائر سنة 1836 لياليهم الرمضانية وهل هي مختلفة عن حياتنا الحاضرة؟ هذا ما نحاول توضيحه وتقريبه من القارئ حتى يرسم صورة لهذه الحياة التي سيكتشفها من خلال أحد الرحالة الألمان وهو موريتس فاغنر. لعلّ المفاجأة التي ينقلنا إليها الرحالة الألماني فاغنر هي السهرات الموسيقية والعروض المسرحية التي كانت تتميز بها العاصمة الجزائرية في العقد الرابع من القرن التاسع عشر. وقد أكد الرحالة وجود السهرات الموسيقية والعروض المسرحية، حيث دأب المسلمون على السهر والاستماع إلى الموسيقى والأغاني طيلة شهر رمضان، ومشاهدة الرقصات والعروض المسرحية والهزيليات المتنوعة، التي تشبه أعياد الكرنفال في أوروبا. ويتساءل الرحالة الألماني بعد مشاهدته لهذه العروض المسرحية التي قد تكون انتقلت من المسلمين إلى المسيحيين، وأن هذه الهزليات قد تكون في أصلها عادة إسلامية. هذه الشهادة التي يدلي بها هذا الرحالة الألماني تفند كل المزاعم الفرنسية أنها ناقلة لرسالة حضارية ومدنية للجزائر لأن الجزائريين كانوا على هذا القدر من الازدهار الثقافي والاجتماعي وأن في مدنهم كانت تعرض المسرحيات وتحيا السهرات الموسيقية وهذا بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك وأن هذه الاحتفالات تدوم طيلة هذه الشهر الكريم. ويذكر الرحالة الألماني الأطعمة التي كانت تتميز بها موائد رمضان عند الأسر الجزائرية، فطعام الصائمين في الليل -الكسكسي بالزبيب- أو مع اللحم المقلي وبعد الإفطار وصلاة التراويح تبدأ السهرات، حيث ينصرف الناس إلى مشاهدة العروض الهزيلة في المقاهي العربية الكبيرة. المسرحيات التي كانت تقدم، تشارك فيها شخصيات من العباد والحيوانات، وتحتوي على حركات وإشارات مثيرة، وسخرية مقذعة، وإلى جانب المقاهي الكبيرة التي تقدم هذه العروض الهزيلة هناك محل آخر يحظى بعدد كبير من الزوار في ليالي رمضان، وهو المسرح الشعبي أو الروز. أما المكان الذي يقع فيه هذا المسرح فهو عبارة عن قبو مظلم يحتشد فيه عدد من الأهالي الذين يجلسون على الأرض وعيونهم مشدودة إلى شاشة تظهر الأشكال السوداء الناطقة التي تشبه خيال الظل الصيني في أوروبا، على قطعة من الورق مشبعة بالزيت، ومن الشخصيات الناطقة شخصية الروز، ويمتاز بضخامة جسمه ومنظره المضحك. ويمضى الرحالة الألماني في وصفه للعروض المسرحية الجزائرية بالتفصيل والدقة التي تشبه صورا فتوغرافية ملتقطة، مؤكدا أن مسرح الروز الجزائري يشبه إلى حد كبير ما يحدث في مسرح العرائس الألماني أو مسرح جنوب أوروبا، فالشخصيات تتصارع من البداية إلى النهاية، وروز هو البطل وهو شخصية بدوية صرفة، يوزع أكثر الضربات ويأخذ نصيبه منها. أما الحوار الذي تجرى به هذه المسرحيات الهزيلة فتستعمل فيه العربية تارة، والفرنسية تارة أخرى لإتاحة الفرصة للجنود لفرنسيين المشاركة في التمثيل ومصارعة الروز. المشاهد التي تقدم تتخللها مناظر ساخرة، بحيث أن كل إنسان لا ينتمي إلى طبقة الأدنياء يغض طرفه دون تلك المناظر الفضيعة، ويضيف الرحالة الألماني في تصويره للمسرح الجزائري ولرواد هذا المسرح أنهم من الحضر الذين لايجدون مكانا للتسلية أحسن من هذا المسرح وهذه العروض، ويتعلم أطفالهم من خلال هذه العروض دروسا في السفالة وأنواع الآثام، لأن المشاهد التي يتم تقديمها مشاهد منحطة، كما يؤكد هذا الرحالة الألماني أن السلطات الفرنسية كانت متسامحة في نشر وتفشي هذه الفضائح فلم تحاول إغلاق تلك الأماكن التي تنشر الفساد والانحلال، حيث انتعشت هذه الأماكن منذ دخول الفرنسيين، إذ أنها لم تعد تدفع الضرائب التي كانت تدفعها إلى الداي، ومن هنا ازداد عدد هذه الأماكن بسرعة ملحوظة. هذه بعض المشاهد والصور التي نقلها لنا هذا الرحالة الألماني، صور استقبال رمضان الكريم والاحتفاء به، وصور أخرى عن الحياة الترفيهية خلال هذا الشهر، بين المساجد التي تحيي ليالي هذا الشهر بالصلاة والعبادة، وبين الأماكن التي يرتادها البعض للترفيه والتسلية كالمقاهي للاستماع إلى الاغاني والموسيقى، أو الذهاب إلى الأقبية، حيث مسارح الظل الروز والصراع والسخرية وأيضا الأماكن الوضيعة التي يرتادها سفلة الناس والتي تجد تشجيعا من سلطات الاحتلال التي تعمل على تفشي مثل هذا الانحلال الأخلاقي، حيث يعلق الرحالة في الأخير عن هذه الأماكن بالقول: فهل يعجب الإنسان بعد هذا أن يرى هذا الشعب غارقا في الفساد والجبن والذل والعبودية، أو كان شبابه يمتص أحط أنواع السموم التي تقضي على طاقاته وحريته الفكرية، وتبدو الحكومة الفرنسية متسامحة في مثل هذه الفضائح.