سرد أحداث سنجوب معكم بتفاصيل المبادرة الذاتية للأسيرة المحررة الصعيدي، وكيف استطاعت بقدرتها على بلورة منهجيتها الخاصة بالتعامل مع المجتمع بعد التحرر، وبالإضافة لشخصيتها التي خاضت تجربة لم يستطيع أحد تخيلها من النساء اللواتي لم يعشن التجربة، وكيف انسجمت مع شخصياتها المحددة في ذاكرتها الموروثة؟ لا شك أنّ خصوصية الظروف التي مرت بها الأسيرة المحرّرة بالقياس مع تجربة أقرنائها من الأسرى المحرّرين. والمبادرة الذاتية فالأسيرات أكثر من مورس بحقهن العنف المنظم، بدءًا من الطريقة الوحشية التي يتم اعتقالهن بها وعمليات التخريب داخل منازلهن، مرورًا بما يتعرضن له خلال التحقيق من تعذيب وعنف جسدي، ونعتهن بألفاظ بذيئة، حتى طبيعة حياتهن داخل جدران السجن". الأسيرة المحرّرة سعدية فتحي سعيد الصعيدي، من مواليد السادس والعشرين من نيسان عام 1965 في مخيم الشاطيء للاجئين بمدينة غزة من مدينة يافا المهجرة إبان نكبة العام 1948، وهي من نشطاء حركة فتح ومن قدامى الأسيرات وقد تمّ اعتقالها لمدة 4 سنوات، بدأت حياتها بمشاركتها في التظاهرات المدرسية المنددة بالاحتلال، وخاصة في ذكرى يوم الأرض وهو يوم غضب شعبي لدى كل البلدان والمناطق الفلسطينية، فكانت مشاركتي دائما ملحوظة، حيث كنت لا أتجاوز 15 عاما، وأتلقّى دراستي بمدرسة المأمونية بغزة، حيث كنا نتعرض لاقتحامات وإطلاق نار علي المتظاهرين وحدوث إصابات، وفي العام 1979 بعد إحياء فعاليات والتظاهرات بمناسبة يوم الأرض جاء بلاغ صهيوني إلى بيتنا بضرورة التوجه إلى مقر الحاكم العسكري مكان مبنى المجلس التشريعي بغزة، ذهبت مع أبي وعندما وصلت هناك دفعني أحد الجنود بيده فتصدى أبي له، فجاء أحد الضباط وقال لأبي: "بنتك تشارك في أعمال مظاهرات، ممنوع المظاهرات"، فقال لهم: بنتي صغيرة، وهذه مظاهرات تحدث في كل المناطق. اعتقلوني عدة ساعات، ثم طلبوا من أبي توقيع تعهد قبل الخروج، هذا أول اعتقال يمكن أُسجله وأنا لم أتجاوز الخامسة عشر، كنت أرى الجنود المدججين بالسلاح وفرق التحقيق، شاهدت مجموعة من الطلبة أيضا يتم اعتقالهم مثلي، بدأ يتشكّل عندي ملامح السجن وملامح الاحتلال الذي يحتل أرضنا ويسلب حقوقنا. بعد عدة سنوات سافرت إلى الأردن ومصر، وتنظّمت في حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح واشتغلت في أمور وطنية وثورية، صار عندي وعي بالقضايا السياسية، عُدت إلى غزة وعملت في المقاومة الشعبية كما عملت في التطوع لاسعاف الجرحى، كانت المرأة الفلسطينية تقوم بدور مهم في مساعدة الثوار وحمايتهم. في العام 1989 حاصرت قوات الاحتلال منطقة المسجد الجنوبي في مخيم الشاطيء لاعتقال مجموعة من الشباب، فشاركت مع مجموعة من السيدات بالتدخل لحماية الشباب، في ذلك الوقت أطلقت قوات الاحتلال النار الكثيف ممّا أدّى إلى إصابتي إصابة مباشرة في قدمي ب 7 طلقات صرت أجري ثم وقعت على الأرض، جاء عندي أحد الجيران وهو الشاب زياد بنات، لكن مجرد أن وصل عندي تعرض لاطلاق نار من جيش الاحتلال في رأسه مما أدى إلى استشهاده على الفور. ليجتمع الغضب والحزن لقد كان يريد إنقاذ حياتي لكنه استشهد أتذكر في ذلك اليوم أصيب عدد كبير من الناس رجال وسيدات جراء استخدام الاحتلال النار بشكل عشوائي. بقيت أنزف على الأرض أذكر كان الجيش قريب مني ولم يسعفني وبعد مغادرة الجيش قام أهلي والناس بنقلي إلى المستشفى، وهناك مكثت في المستشفى مدة 75 يوماً متتالية حيث تم معالجتي من الرصاص في قدمي بواسطة عدة عمليات جراحية. بعد خروجي من المستشفى بأيام جاءت شرطة الاحتلال إلى البيت، وأحضرت تبليغ بضرورة الذهاب للمقابلة في سجن السرايا العسكري قال لهم أبي: بنتي مريضة مصابة لا تستطيع الحركة فلم يتحدثوا معه وغادروا، في ذلك اليوم قلت لأبي: لن اذهب لهم في السرايا، وقررت مغادرة البيت والسكن عند أختي، صار عندي قرار أنه لن أُسلم نفسي، الموت والاستشهاد أفضل من تسليم نفسي، في تلك الأيام صار الجيش يبحث عني، صاروا يحضرون على بيتنا يفتشون البيت يسكبون الطحين يخربون محتويات بيتنا. الاعتقال والتّعذيب بعد أشهر استشهد زوج أُختي الشهيد منير الصعيدي بنيران الاحتلال قرب البحر، وحقيقة هذه الأحداث منذ اعتقالي الأول وأنا صغيرة واستشهاد الشهيدين زياد بنات ومنير الصعيدي ومشاهداتي ومعايشتي لجرائم الاحتلال منذ أن كنت طفله عندما أطلقوا عليّ الرصاص بشكل مباشر، ومشاهدتي لأفعال الاحتلال المشينة بحق الأطفال والشباب والنساء، كل هذه الأمور خلقت عندي دوافع بضرورة تنفيذ عملية فدائية. بالفعل خرجت من البيت ومعي سكيناً وقرب مفترق السويدي بغزة كان هناك مجموعة راجلة من جنود الاحتلال فمررت من جانبهم، وقمت بضرب أحد الجنود لا اعرف ماذا حدث لكنني هربت على الفور في أحد الممرات بين أزقة البيوت، حاصروا المكان، وبعد وقت من المطاردة أمسكوا بي وكان ذلك في العام 1989. على الفور تعرضت للضرب الشديد العصي على أماكن مختلفة من جسدي، شدوا شعري على الأرض، غموني بكيس على رأسي، ونقلوني داخل الجيب إلى مكان لا أعرفه، لكنه يبدوا أنه معتقل أنصار، بقيت مقيدة عدة ساعات داخل الجيب، ثم تم نقلي لمكان أخر عرفت فيما بعد أنه سجن المجدل، أنزلوني على التحقيق مباشرة، تجمع حولي عدد من الضباط يسألون عن اسمي وعمري ومكان سكني، جاء ضابط وقال لي: "من أرسلك لتنفيذ العملية؟ إذا اخبرتينا سوف نقلل حكمك وإذا لم تتحدثي سوف تموتين في السجن، سنقبرك هنا" قلت له: أنا نفذت العملية لوحدي لم يرسلني ولم يحرضني أحد، بعد لحظات قام أحد الضباط بضربي بكس بقوة شديدة على أنفي ووجهي، الأمر الذي أدى إلى كسره وحدوث نزيف شديد لا زلت أُعاني منه حتى يومنا هذا، وقعت على الأرض صرخت، ثم قام ضابط آخر بضربي على رجلي خاصة على أماكن الرصاص الذي تعرضت له في وقت سابق، صرت أصرخ لهم من الألم، فيقولون ستموتين هنا..ستموتين هنا..نقلوني إلى زنزانة صغيرة جداً رائحتها عفنة لا يوجد بها فراش أو غطاء مكثت بها 12 يوماً متتالية، كنت أشعر بالبرد الشديد وضيق التنفس أُصبت بالروماتيزم المزمن وحتى اليوم أعاني منه من آثار السجن، كنت من التعب والإرهاق الشديد أُحاول النوم لكن بعد لحظات يأتي جندي ويفتح باب الزنزانة ويجرني بقوة للتحقيق، رجعوا يسألوني: من أرسلك لتنفيذ العملية؟ صرت أقول لهم أنا لوحدي، أُشاهد ما تفعلونه بحق أهلنا وأطفالنا، فقررت الانتقام، صاروا يضربوني أكثر. عانيت كثيراً من الزنازنة أُصبت بضيق تنفس، آلام في مكان الإصابة بقدمي، آلام شديدة في يدي نتيجة القيد والكلبشات، آلام ووجع في أنفي ووجهي نتيجة الضرب الذي تعرّضت له. جاء الصليب الأحمر فتحدثت لهم عن ظروفي الصعبة، طلبت منهم الخروج من الزنزانة، وبعد أيام بالفعل أخرجوني من الزنزانة، لكنّهم وضعوني في زنزانة أخرى أكبر حجماً مكثت فيها 9 أشهر متتالية وحيدة أُعاني ألم الوحدة والفراق، كنت أقول لهم انقلوني عند الأسيرات البنات، كانوا يرفضون، يصرون على أن أعيش المعاناة والعذاب، كانوا يحضرون لي الطعام البسيط من أسفل باب الزنزانة، بعض الخبز الجاف، والماء القليل. التّقييد وقت الفورة خلال 9 أشهر صاروا يسمحون لي بالخروج من الزنزانة إلى الفورة أو الاستراحة مرة واحدة في النهار لمدة نصف ساعة فقط، أتذكّر جيداً عندما يأتي موعد خروجي للفورة، كان يأتي جندي يطرق عليّ باب زنزانتي، ثم يأمرني بأن أضع يدي خلفي وأمدهم من طاقة الزنزانة، فيقيدني بالكلبشات الحديدية، ثم يفتح باب الزنزانة ويقيد قدمي بالسلاسل الحديدية، ويقول لي اذهبي للفورة والاستراحة، وعندما تنتهي فترة الاستراحة يدخلني إلى داخل الزنزانة ويغلق الباب ثم يأمرني أن أمد يدي ويفك القيد، لقد عشت على هذا الحال مدة 12 شهراً، عندما أخرج للفورة أكون مقيدة يدي للحلف ومقيدة من قدمي كذلك، آلام شديدة في يدي وقدمي، ألام شديدة في المفاصل والعضلات خاصة لأني لا أعرف أن مشي بشكل طبيعي نتيجة تقييدي من قدمي، فكنت أمشي ببطء وأنا أجرجر الحديد والسلاسل. من المفترض أن تكون ساعة الاستراحة أو الفورة شيء جيد للأسير يخرج يشم الهواء يتحرّك، لكن ساعة الاستراحة عندي كانت عذاب لأنّني أخرج من الزنزانة مقيدة لا استطيع الحركة، كنت اطلب منهم رفع القيد فيقولون أنت إرهابية، وعندما تحين موعد زيارتي من قبل أبي وأمي كانوا يخرجونني للزيارة مقيدة القدمين والرجلين، كان المنديل عندما ينزل من على شعري لا اعرف إرجاعه، تعرضت لسوء التغذية والتعذيب النفسي وضيق التنفس والماء البارد والتعليق والشبح في الحائط، تعرضت لتقييد اليدين خلف ظهري وتقييد قدمي والجلوس على الأرض جلسة القرفصاء، ومنعي تحت تهديد السلاح من رفع رأسي لعدة ساعات الأمر الذي أحدث آلاماً حادة في عدة مناطق من جسمي. قررت في تلك الأيام أن أقوم بحملة لمواجهة السجان لتغيير ظروف اعتقالي فبدأت بخوض إضراب عن الطعام، صرت ارجع الوجبات، أصرخ في الجيش والمحققين استمر إضرابي 5 أيام، نجح الإضراب حيث نقلوني إلى سجن الرملة واحضروا بعض التحسينات لكن كنت أشعر بالتعب نتيجة التعذيب. أتذكّر في سجن الرملة وأنا جالسة بجوار ساحة الفورة جاءت من جانبي قطة سوداء حاولت أن "تخرمشني" فدفعتها بقدمي، في تلك اللحظة شاهدتني مجندة صهيونية ودفعتني على الأرض وقالت لي: لماذا تضربين القطة؟ وقامت بعزلي في غرفة انفرادية، قلت لها: "أنا لم أضرب القطة أنا كنت احمي نفسي منها فقط، حقيقة صار عندي حقد على هذه المجندة التي ضربتني، قررت ضرب المجندة، وبالفعل أثناء وجودي قرب باب غرفتي، جاءت المجندة تفتح في الباب، فقمت بإغلاق الباب على أصابع يدها، فصرخت وقامت بتشغيل"الازعقاه"، فحضر عدد كبير من الجنود وضربوني وعزلوني من جديد.