يواصل مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس نشر تجارب الأسرى، حيث ينشر بحلقة هذا الأسبوع تجربة الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار أيمن الشراونة من الخليل والمبعد عن أسرته إلى قطاع غزة . .. الأسير المحرر أيمن الشراونة .. سيرة ومسيرة الأسير المحرر أيمن إسماعيل سلامة الشراونة من مواليد الثالث والعشرين من نيسان عام 1976 في مدينة الخليل، اعتقل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي مرتين بواقع 13 عاماً ونصف، حيث اعتقل المرة الأولى بتاريخ 10/5/2002 وتم التحرر بصفقة وفاء الأحرار بتاريخ 18/10/2011، واعتقل للمرة الثانية بتاريخ 1/1/2012 وأمضى ما يقرب من سنة ونصف ثم تم التحرر والإبعاد لغزة بتاريخ 17/3/2013، وقد روى تجربته النضالية لمركز أبو جهاد . في العام 2002 وأثناء تصاعد الانتفاضة الثانية انتفاضة الأقصى قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقالي عقب تنفيذ عملية فدائية، تعرضت للإصابة بجرح عميق في قدمي أثناء الاعتقال ، قيدوني وسط ضرب شديد وممارسة شتى أنواع العذاب والألم، نقلوني إلى سجن عسقلان ووضعوني في زنزانة انفرادية. تعرضت للشبح على كرسي حديدي صغير مكبل اليدين والقدمين ، شبحوني أيضاً على باب السجن لعدة ساعات، ضُباط المخابرات يضغطون بقوة على جرحي ويتعمدون إيلامي، اطلب العلاج لكنهم لا يحضرون سوى الأكامول والماء، تضاعف ألم قدمي والتهابها، كنت أعاني الوجع في الزنزانة، تعرضت للإهمال الطبي المتعمد فلا يوجد علاج أو اهتمام صحي ، وهناك الكثير من الأسرى يتعرضون للإهمال منهم من استشهد أو أصيب بالأمراض وتضاعفت معاناتهم بسبب فقدان الرعاية الصحية المناسبة التي هي حق لكل أسير لكن إدارة السجون تتنكر لذلك. تعرضت للعزل الانفرادي لمدة 90 يوماً متتالية في زنزانة انفرادية مساحتها لا تتجاوز المتر، يتركوني فترات طويلة دون أسئلة وهذا من أصعب شيء على الأسير، ترك الأسير للانتظار الطويل، عانيت من الضغط النفسي ، التهديد بهدم بيتنا ، اعتقال الأهل، الابتزاز، عدم النوم، عدم الذهاب للحمام ، عدم رؤية الشمس.. بعد تلك الأيام من العزل نقلوني إلى قسم "العصافير" أو العملاء في سجن عسقلان، وهو من الأقسام الخطيرة التي تهدف إلى استدراج الأسير للحصول على اعترافات منه، لقد وعيت مدى خطورة هذا القسم الخطير، كنت حذراً مع التعامل مع الأشخاص الموجودين هناك، قسم العصافير من الأقسام الخطيرة التي تسحب الاعترافات من الأسرى، هناك من الأسرى من سقطوا في هذا الوحل وهناك من الأسرى من تمكنوا من حفظ أنفسهم ، لكن بصفة عامة أصبح لدى الأسرى وعي بخطورة قسم العصافير والحذر منهم قدر الإمكان. نقلوني إلى سجن بئر السبع وتعرضت للعزل من جديد مدة عام كامل ، وحقيقة العزل أمر خطير هو أبعد من القهر والعذاب، إنه تجاوز لكل الخطوط الحمر، كنت اقضي 23 ساعة يومياً بشكل متواصل في الزنزانة المعتمة لا أرى أي أحد ، وخلال النهار ساعة واحدة يخرجوني مقيد اليدين والقدمين لاستراحة في ساحة مساحتها 6 في4 متر، ساعة واحدة استراحة مقابل 23 ساعة عزل متواصل، وحتى ساعة الاستراحة يقيدوني فيها، هذا أمر خطير عانيت الأمرين بسببه ، لكن كنت أتحمل واصبر، والأسير عندما لا يمتلك الصبر والمثابرة والإرادة في العزل فإنه يفقد عقله ويشعر بالاغتراب ومعاناة نفسية وجسدية، لذلك التحلي بالصبر وقوة العزيمة والإصرار أدوات مهمة للتغلب على مخاطر السجن ومنها العزل الانفرادي. هناك أسرى كُثر عزلوا ليس سنة أو سنتين بل سنوات طويلة اذكر الأسيرين حسن سلامة ومحمود عيسى لقد عزلوا أكثر من عشرة أعوام. كنت في العزل أتحدث مع نفسي، أتحدث مع الحشرات التي على الجدران، انظر في سقف الزنزانة، أتذكر الأهل والأبناء، كانوا يسمحون بإدخال 3 كتب فقط، إضافة للقرآن الكريم، كنت أقرأ القرآن والكتب، واقضي وقتي بالقراءة والتسبيح والصلاة. منعت مصلحة السجون أهلي من زيارتي، لنتخيل ذلك فقد سمحوا لي بالزيارة بعد 3 سنوات، نعم لأول مرة منذ 3 سنوات يسمحون بزيارة والدتي وأشاهدها، كانت الزيارة مدتها 45 دقيقة فقط، دقائق بكاء وشوق وحنين. قبل الاعتقال بأيام ولد لي طفل وتم اعتقالي ، وبعد 3 سنوات سمحوا بالزيارة ، فجاء هذا الطفل كنت لا أعرفه، لقد سألت: من هذا الطفل؟ فقالوا:" ابنك. وفي مشهد صعب آخر أيضاً ضمن تجربني الاعتقالية وهو أنني تركت بنتي طفلة في الصف الأول ، وسارت الأيام وتزوجت بنتي أثناء اعتقالي ولم أراها أو أشارك في فرحها، هذا شيء مؤلم. وفي مشهد صعب ومحزن في حياتي أيضاً أن أخي كان يرغب بزيارتي في السجن لكن إدارة السجون منعته، لم أرى أخي مدة 12 عاماً متواصلة، لقد أصيب أخي بمرض السرطان وتوفي وأنا لم أراه أو أُشارك في جنازته، لقد حزنت كثيراً على هذا المصاب حزنت لأني لم أشاهده، لقد كانت إدارة السجن قادرة على أن تسمح له بزيارتي لكن هم يريدون تعذيبنا، مصلحة السجون تتعمد منع الزيارات تتعمد التأثير النفسي على الأسرى وذويهم في البعد النفسي والاجتماعي، وهذا ما حدث معي شخصياً وهناك أسرى مُنعوا من الزيارات سنوات طويلة. حصلت على الثانوية العامة في السجن وكان لدي طموح باستمرار التعليم ورغبت في التسجيل بالجامعات العربية أو العبرية عن بعدُ لكن قوبل طلبي بالرفض، منعني الاحتلال من إكمال تعليمي العالي، ومن هنا توجهت للتعليم الذاتي والقراءة والتثقيف ، أقرأ أي كتاب احصل عليه ، أحياناً أعود وأقرا الكتب مرة ثانية ، ومن الروايات التي قرأتها كثيراً "القوقعة" التي تحكي عن السجون السورية، كان مجتمع الأسرى قارئاً ومثقفاً وواعياً يحرص الجميع على التثقيف والاطلاع على أي كتاب أو منشور أو صحيفة بالرغم من منع هذه المؤلفات أو مصادرتها، اذكر أحد الزملاء كان يقرأ كل يوم كتاب تقدر عدد صفحاته أكثر من 300 صفحة. لقد كتبت العديد من الخواطر والمذكرات لكن جميعها صودرت أثناء القمع والتفتيش اليومي، كنت انحت على حائط الزنزانة، كنت أرى أسماء وتعبيرات على الجدران داخل الزنازين ، لعل هذه "الخرابيش" والمخطوطات ذكريات القهر والظلم ذكريات أنه كان هنا أسير، مرّ من هنا أسير في يوم من الأيام، في مجمل المخطوطات على جدران السجن نرى تعبيرات عن الوطن والحنين والحزن وكل ذلك من شأنه أن يُدمع العيون ويحيي الذكريات الأليمة أو المفرحة. وبخصوص القرآن الكريم، كنت أقرأه بشكل يومي، تعلمت التلاوة والتجويد في مجالس الذكر والحفظ في السجن، وبفضل الله عز وجل حفظت 21 جزءاً من القرآن الكريم، كما كنت اقرأ الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية وسيرة الصحابة والفتوحات الإسلامية. وبخصوص الرياضة فهي نشاط يومي للياقة فلم اقعد يوم واحد في السجن دون أن أُمارس الرياضة والأسير الذي لا يمارس الرياضة يشعر بالكآبة ويهرم ويتغير شكله. "البوسطة" قطعة من العذاب، البوسطة عبارة عن سيارة مصفحة تنقل الأسرى من سجن لآخر أو من السجن إلى المحكمة، لقد تنقلت كثيراً في البوسطة وحيدا، أو مع الأسرى ، كانوا يدفعونا بداخل البوسطة مقيدي اليدين والرجلين على الكراسي الحديدية المتعبة والغريب في الأمر أن إدارة سجون الاحتلال تتعمد أن تطول المسافة أثناء النقل حتى لو كانت المسافة قريبة، فالهدف التضييق على الأسرى وتعذيبهم خلال فترة نقلهم، طبعاً ممكن نتعرض للضرب والقمع أثناء النقل، هناك منع للتبول ، منع لتناول الطعام أو الشراب .. من الأشياء الصعبة التقييد أثناء الخروج من الزنزانة، فيأتي الحارس يفتح فتحة من أعلى الباب اسمها(الشنافة) ويطلب أن أمد يدي فيقيدها ويفتح فتحة من أسفل الباب ويطلب قدمي ليقيدها وبعد التأكد من التقييد يفتح باب الزنزانة ويطلعني إلى ساحة الفورة. لقد حدث معي عدة مرات أن أخرجوني للفورة مقيد اليدين والرجلين، وأحياناً يفكون القيد ، هم يفعلون هذا الفعل حتى يُكرّهون الأسير بالفورة ، فالفورة بمثابة استراحة لكن مصلحة السجون تفعل المستحيل لكي لا يتوفر أي راحة للأسرى ، اذكر الأسير محمود عيسى عاش 5 سنوات يخرج للفورة مقيداً، هو من جانبه كان لا يريد الخروج للفورة لأنه يعتبرها جحيم لكنه يخرج مضطراً ليرى أشعة الشمس على الأقل. ومن قصص المجابهة التي يمكن الحديث عنها أنه قبل صفقة وفاء الأحرار ، أرادوا أن ينقلونا من السجون مقيدين فرفضنا ذلك، وصرنا نضرب على الأبواب ونُكبر ونهلل فضربوا الغاز المسيل للدموع لكن أوصلنا رسالة أنه بالتحدي والصمود نرفض كل أشكال الذل والهوان. شاركت في العديد من الإضرابات عن الطعام منها إضراب عام 2004 لمدة 19 يوماً متتالية حيث نُفذ الإضراب في جميع السجون لكن للأسف لم يحقق المأمول، ومن الإضرابات التي شاركت فيها هو إضراب عام 2012 أثناء اعتقالي الثاني حيث استمر مدة 28 يوما متتالية، وهذا الإضراب كان إنجازاً وانتصار للحركة الأسيرة حيث تم من خلاله تحقيق هدفين هما إخراج الأسرى المعزولين والسماح لأهالي قطاع غزة بزيارة أبنائهم في السجون بعد انقطاع لفترة طويلة. لقد تحررت بموجب صفقة وفاء الأحرار بتاريخ 18/10/2011 وعدت إلى بيتنا في الخليل ، لكن بعد 90 يوماً أعادت قوات الاحتلال اعتقالي من جديد والأدهى من ذلك أن سلطات الاحتلال قررت أن تعيد الحكم الذي كان مقرراً لي قبل صفقة وفاء الأحرار، وهو الحكم بالسجن لمدة 38 عاماً، وإزاء هذا الجبروت والظلم الإسرائيلي قررت المواجهة قررت مجابهة السجان فأعلنت الإضراب عن الطعام حيث استمريت في الإضراب مدة 61 يوما متتالية إلى أن تحقق المنى وتحررت لقد تم الإفراج عني وإبعادي إلى قطاع غزة بتاريخ 17/3/2013 وكان ذلك انتصاراً مهماً وانتصارا للحركة الوطنية الأسيرة. لم يكن الإضراب نزهة بل كان مشقة وتعب، أيام طويلة الماء والملح، كان يتساقط شعري ، تعب في المعدة، ألام في المفاصل، ألم في النظر ، أوجاع، تعبت لأنني أنا في النهاية إنسان ، كان وزني قبل الإضراب 114 كيلو جرام وآخر يوم في الإضراب صار54 كيلو جرام، لقد نزل وزني 60 كيلو. من الإضرابات التي خضتها الإضراب عن تناول الماء وهذا من أصعب الإضرابات حيث كنت اقترب من الموت، شاهدت الموت ، كان الألم والضعف والهزال يزيد في جسمي بشكل كبير. لكن رغم ذلك فالإضراب كان نضالاً وجهاداً ضد المحتل ، كان إصراراً وعزيمة وتحدي وصبر لتحقيق هدف وحلم الحرية وقد تحق ، صحيح أُبعدت لغزة لكن غزة مثل الخليل مثل باقي مدن ومخيمات وقرى فلسطين. منذ أن بدأت الإضراب عن الطعام، الاحتلال كان يسعى لأن أوقف الإضراب بشتى السبل، وتعرضت للتهديد، ومن آثار الإضراب صرت لا اعرف أن أمشي، صرت اخرج إلى الفورة بكرسي متحرك، الفورة مدتها 40 دقيقة، اذكر هددوني بمصادرة الكرسي المتحرك حتى أوقف الإضراب، وبالفعل نفذوا التهديد وسحبوا الكرسي المتحرك ، صرت لا استطيع الخروج للفورة ولا استطيع أن اخرج للشمس و بالرغم من أن الأطباء نصحوا بضرورة رؤية الشمس، وعقب توقيع اتفاقية التحرر والإبعاد لغزة كان جنود الاحتلال يريدون بأن اكسر الإضراب فرفضت حتى وصلت لغزة . تعرضت للتقييد بالأسلاك الحديدية على سرير المرض في مستشفى سوركا وهو من الانتهاكات الخطيرة بحق الأسرى المرضى، إرادتي أقوى من الاحتلال ، لقد صمدت وتحملت ولم أتوقف عن الإضراب إلا عندما دخلت لغزة. شعرت بالفرح والسرور عندما وصلت لغزة ، شاهدت الجماهير التي هبت لاستقبالي بعد هذه المعركة الشرسة مع المحتل وفترة الإضراب الطويل عن الطعام التي انتهت بهذا النصر. في النهاية نرسل كل التحيات للأسرى المحررين وندعو الله عز وجل أن يفرج كرب جميع الأسرى في سجون الاحتلال ويتنسمون الحرية ، وندعو الله عز وجل أن تتحقق أماني شعبنا الفلسطيني في الحرية والعودة وتحرير فلسطينوالقدس.