كنا ندري أن المهمة لن تكون سهلة، كما أن الطريق لن يكون مفروشا بالورود، حينما ذهبنا إلى عين أميناس لتغطية الإعتداء الإرهابي على مركب الغاز بتقنتورين صباح يوم الأربعاء 16 جانفي، فقد سبق وأن عايشنا مثل هذا الظرف حينما وصلت أيادي الغدر إلى مبنى قصر الحكومة، والمجلس الدستوري بالعاصمة ذات يوم، وضرب مبنى الشرطة بباب الزوار و.. و..و، لم يكن رفيقينا في الرحلة سوى الإيمان بقضاء الله وقدره، وبعض ''دعاوي الخير '' من الأهل والأصدقاء، لكن هدفنا كان محدد، أن تصل ''الشعب '' إلى قلب الحدث، لنقل الحقيقة كما هي للرأي العام، وليس كما تحاول بعض القنوات الأجنية تقديمها مبتورة، أو ببهارات محرقة، الغاية منها تشويه صورة الجزائر، والتشكيك في قوة الجيش والمؤسسات الأمنية التي طالما أسكتت رصاصات الغدر، ووضعت حدا لنشاط جماعات إرهابية خطيرة، بفضل حنكتها وتجربتها التي اكتسبتها خلال عشريتين من الزمن وهي تحارب هذه الآفة. تنفسنا الصعداء حينما حطت بنا الطائرة بمطار عين أميناس، في حدود الساعة السابعة والنصف مساء، لأننا قبل صعودنا كنا قد تعرضنا إلى تعذيب نفسي سببه التأخير غير المعلن لرحلة الجزائر-عين أمناس والتي كانت مقررة في الساعة الثانية وعشرين دقيقة بعد الزوال، فإلى آخر وهلة اعتقدنا أن الرحلة ستلغى، بسبب الأوضاع التي تمر بها المنطقة والتي قيل أنها خطيرة، وازدادت حيرتنا أكثر بعد انقطاع الأخبار عنا بمجرد ولوجنا القاعة الداخلية لمطار هواري بومدين، باستثناء بعض الصحف اليومية واتصالات بعض الزملاء التي راحت تتطلعنا على آخر تطورات الإعتداء الإرهابي على الموقع الغازي بتقنتورين.. تمسكنا بالأمل ''ألم يقولوا تفاؤلوا خيرا تجدوه ''، فلنتفائل إذن، ولنكمل مهمتنا التي أسندت إلينا من طرف مؤسستنا الإعلامية، كنا ''نصبر '' أنفسنا بهذا الكلام، وقد تسرب بعض الخوف إلى داخلنا ليس بسبب ما كان يقال عن الأوضاع الخطيرة بالمنطقة، وإنما بسبب بلوغنا أخبار تفيد أنه سيمنع الصحافيين من الدخول إلى المنطقة، وهو ما كدنا نقتنع به حينما اعترضتنا قوات الأمن بالمطار، ورفضت السماح لنا بالخروج، قبل معاينة وثائق الهوية، وتلك الخاصة بموضوع المهمة، غير أنه سرعان ما زالت هذه الشكوك بمجرد أن أعيدت لنا وثائقنا وطلب منا مغاردة المطار، لنجد أنفسنا أمام مشكل آخر، كيف يمكن لنا الإنتقال إلى فندق «العرق الكبير»، الموجود وسط المدينة، فالمطار تنعدم فيه وسائل النقل الفردية والجماعية، وباستثناء السيارات الرباعية الدفع لشركة سوناطراك التي جاءت تقل عمالها الوافدين إلى المنطقة، لم تكن هناك أي وسيلة نقل أخرى لتبدأ معاناة أخرى لم نعرها اهتماما كبيرا، مادام أنه يوجد في المنطقة جزائريون في وقت ''الشدة '' لا يتركون بعضهم البعض. هدوء حذر لم تكن لدينا الخيارات كثيرة، وحتى أموالنا في تلك اللحظة لم تنفعنا في شيء مادام أنه لا يوجد من يقدم خدمة النقل، تشبثنا بإحدى الزميلات عثرت على من يصطحبها إلى الفندق لتنقلنا معها على اعتبار أن وجهتنا واحدة، في الطريق إلى هناك بدت المدينة غارقة في نوم عميق، وكأن شيئا لم يحدث، حتى أننا استغربنا الهدوء الذي يلف المكان، الشارع الرابط بين المطار والمدينة خالي من السيارات، حاجز أمني متكون من بعض رجال الشرطة نصب على بعد كليومتر واحد من المطار، أما وسط المدينة فلا أثر لأي استنفار أمني، أو عسكري، وكأننا لسنا بالمنطقة التي أسالت حبر الكثير من الأقلام الأجنبية، كل الشوارع خالية إلا من بعض الأنوار التي كانت تضيء المكان، في البداية اعتقدنا أن سكان المنطقة هجروا جميعا نظرا لخطورة الوضع، ليقطع تفكيرنا صوت أحد السكان المحليين، عين أمناس منطقة صناعية وسكانها هكذا دائما يخلدون إلى النوم باكرا ليحافظوا على نشاطهم، فالكل مرتبط بالعمل بإحدى الشركات الوطنية أو الأجنبية الناشطة بالمكان. نفس المظهر رافقنا، ونحن نمشي مترجلين باتجاه مستشفى عين أمناس حيث يرقد الكثير من جرحى العدوان الإرهابي، وحفظت جثث الضحايا، الساعة كانت تشير إلى التاسعة ليلا، في طريق معبد أحيانا وأحيانا أخرى تملؤه الرمال راحت أقدامنا تغوص، ونغوص معها في تفكير عميق .. ترى هل الأمان الزائد بالمنطقة ما جعلها عرضة لهجمة شنيعة من طرف الإرهاب؟، هل الثقة الموضوعة في الآخر مهما كان لونه، وشكله، هي التي سهلت اختراق موقع استراتيجي، يعد مصدر قوت ليس الجزائريين فقط، بل حتى الأجانب الذين جاؤوا للمنطقة مستثمرين؟ في هذه اللحظة عادت ذاكرتي بي إلى ما قاله لي أحد العاملين بالمنطقة ونحن على متن الطائرة، ''عين أمناس أكثر المناطق أمنا، لدرجة أننا نترك مفاتيح السيارات، دون أن يلمسها أحد، نتجول، نتنقل، في أي مكان دون أن يعترض طريقنا أحد ''، وقد تأكدنا من كلامه بعد أن بقيت أنا وزميلة لي من القناة الإذاعية الثالثة إلى غاية الساعة الثانية صباحا، أمام باب المستشفى ننتظر وصول جثمان ضحايا العملية الإرهابية، دون أن نلاحظ أي حركة غير عادية، أو نتعرض لأي مضايقة، خاصة وأن أبواب المستشفى كانت موصدة، وجميع أعوان الأمن المكلفين بالحراسة بقوا في الداخل كل منشغل بوظيفته. الجماعات الارهابية أخطأت الحسابات ليست هي المرة الأولى التي تجد الجزائر نفسها في مواجهة الجماعات الإرهابية، لكن هذه المرة بلون آخر ''إرهاب متعدد الجنسيات ''، أوقع ضحايا كذلك من جنسيات مختلفة فقتل الجزائري، البريطاني، الأمريكي، الياباني، الفلبيني، والقاتل كان فرنسي، كندي، مصري، ليبي، تونسي، نيجيري، مالي، موريتاني، ويمني بمعنى أن الغرب الذي طالما ألصق تهمة الإرهاب بالإسلام، تجلت له الحقيقة أكثر في اعتداء تيقنتورين حين كان ضمن المجموعة الإرهابية فرنسي الجنسية و كندي، وهو ما كانت الجزائر تحاول منذ اكتوائها بناره إفهام العالم والدول الكبرى، بأن الإرهاب خطر عالمي، عابر للأوطان والحدود، ''لا جنس ولا ملة له ''، وأنه بدل التفرقة يجب الاتحاد لمجابهة خطر قد يأتي من الداخل كما قد يأتي من الخارج، لكن مع احترام سيادة الغير لا استباحتها، فحينئذ يتحول التعاون أو المساعدة إلى محاولة احتلال. موقف تفهمه سكان عين أمناس، وكانوا أكثر وعيا بما يحاك ضد الجزائر في ذلك اليوم، فرغم أنهم لأول مرة في حياتهم يشهدون مثل هذا الإعتداء، إلا أنهم لم يقعوا ضحية لثلة من ''الحثالة '' لطخوا فجر يومهم بدماء الكثير من الأبرياء، حيث سرعان ما قصدوا ساحة مستشفى عين أمناس، للتعبير عن تضامنهم مع الجيش الوطني الشعبي ومساندته في كل عملياته الميدانية التي كان يقودها ضد فلول الإرهاب، متعهدين بأن يكونوا أكثر حرصا ويقظة خاصة على مستوى الحدود لتفويت الفرصة على كل فرد يتربص بأمن واستقرار الجزائر، حتى أن البعض منهم أعلن نيته في الشروع في تنظيم أيام تحسيسية وسط السكان لإقناعهم بضرورة الإبلاغ عن كل شخص أو سيارة مشبوهة، كما أن البعض الآخر تبددت شكوكه حول قدرة الجيش في السيطرة على الوضع، واستعادة مصنع تكرير الغاز، الذي تحول في ثواني إلى قنبلة موقوتة، بيد الجماعات الإرهابية، بعد أن تمكن من تحرير أكثر من 600 عامل جزائري وأجنبي كانوا رهينة لدى تلك الجماعات، فضلا عن الإطاحة بأكبر عناصرها في عملية نوعية واحترافية، أظهرت مدى تحكم القوات الخاصة للجيش، ومختلف الوحدات الأمنية في إدارة الأزمة ميدانيا. في تلك الأثناء ظهر المستشفى المكون من بنايات جاهزة، وكأنه خلية نحل كبيرة، صنعت نشاطها مجموعة الأطباء الذين حرصوا على التكفل بجميع الجرحى، في حين لم تتوقف سيارات الإسعاف عن جلب المزيد من الضحايا، كانت تتبعها سيارات رجال الأمن حينا، وأحيانا أخرى سيارات إطارات شركة سوناطراك، وبعض الوفود الأجنبية التي جاءت للتعرف على هوية ضحاياها.. عبقت ساحة المستشفى رائحة العنبر، فقد تم الاستعانة بها لإزالة رائحة الموت خاصة وأن المستشفى لم يعد قادرا على استيعاب كل الجثث. أما في الميدان، حيث كانت القوات الخاصة تواصل تدخلاتها التي بدأتها يوم الأربعاء لتنظيف مركب تيقنتورين من بقايا الإرهابيين، فقد تعالى صوت الرصاص والمتفجرات، كنا نسمع بين الحين والآخر صوته، لأننا منعنا من تجاوز أول مركز أمني نصب على بعد 15 كلم من الموقع حفاظا على سلامتنا.. يظهر أن العملية لم تنته مثلما تناقلته بعض وسائل الإعلام يوم الخميس، أي يوما بعد الإعتداء بل استمرت إلى يوم السبت. جاءنا أحد رجال الأمن، ينقل تفاصيل ما كان يجري في موقع المركب الغازي.. جميع قوات الأمن متحمسين للمشاركة في عملية القضاء على المجموعة الإرهابية، التي كانت مدججة بأسلحة ثقيلة منها الهاون، وصواريخ مضادة للطائرات، حتى أن أحد الضباط ذرف الدموع، لأنه لم يسمح له بالدخول إلى المصنع، في حين كان رجال الدرك وبعض أفراد الجيش يستعجلون زملاءهم بالخروج لأخذ مكانهم... لحظات صعبة مرت على الجميع، لكن دون أن تحبط عزيمتهم على القضاء على عناصر المجموعة الإرهابية التي توهمت أخذ الأجانب دون مقاومة الجيش، مثلما جاء في اعترافات الإرهابي التونسي الذي تم إلقاء القبض عليه في بداية العملية. غياب المعلومة ينعش عملية بيع فيديوهات العملية الإرهابية هل شعرت يوما ما بجميع الأضداد تجتمع في نفسك مرة واحدة، الضعف والقوة، الحزن والفرح، اللين والتشدد، الانفعال والهدوء، هكذا نحن حدث معنا، حينما وجدنا أنفسنا معزولين، ممنوعين من الدخول إلى مستشفى عين أمناس لتحري الحقائق ونقل شهادات الناجين من العدوان الإرهابي، ومن الإقتراب من تيقنتورين التي تحولت إلى خط أحمر ممنوع على كل من يسمى ''إعلامي '' بتجاوزه، ظلت جملة واحدة يرددها المسؤولون الأمنيون الذين كلفوا بحراسة الباب الرئيسي للمستشفى، ''التعليمات '' تقول هكذا ''يجب الحصول على ترخيص مكتوب للسماح لكم بالدخول ''، ومن يمنح هذا الترخيص نتسائل نحن؟ يرد علينا: الوالي أو رئيس الدائرة، نجتهد في الوصول إلى الوالي أو رئيس الدائرة، لكن دون فائدة، فالوالي هاتفه خارج مجال التغطية، أما إذا اتصلت به عبر الثابت فيستحيل أن تحول مكالمتك، فقد اجتهدت المكلفة بالرد على موزع الهاتفي بالقول أن الوالي ليس هنا دون أن تكلف نفسها عناء تحويل المكالمة، أما رئيس الدائرة، فقد احتجب عن العيون ولم نتمكن حتى من التعرف على شكله، قيل أنه ظل داخل المستشفى، يتابع تطورات الوضع مع خلية الأزمة التي نصبت لتقديم المساعدات للجرحى وللتكفل بالضحايا قبل نقلهم إلى العاصمة، ومن ثمة إلى بلدانهم.. الوضع هذا جعل الصحافيين المنتسبين إلى المؤسسات الخاصة، في حالة كر وفر مع مصالح الأمن التي أحكمت قبضتها على المستشفى، وأدت مهامها بإتقان، فقد اضطرت إحدى الصحفيات إلى الاستعانة بلباس المرأة الترقية والتمثيل أنها مريضة وفي حالة خطيرة، حتى تتمكن فقط من اختراق الحاجز الأمني والوصول إلى قاعة إسعاف المرضى، وحاول مصور صحفي التسلل مع وفد المركزية النقابية الذي قام بزيارة للمستشفى، لكن محاولتهما باءت بالفشل فالأولى فضحها الحذاء ذا الكعب العالي، والسروال المتدلي تحت اللباس الترقي، والثاني انطبعت صورته في ذاكرة أفراد الشرطة من كثرة بقائه أمام المدخل الرئيسي للمستشفى، في حين أحبطت قوات الأمن محاولة صحفيين عاملين لدى قناة أجنبية دخول المستشفى ضمن موكب دبلوماسي قدم لمعاينة ضحايا بلاده في هذا الهجوم العنيف، والتفطن لكل هؤلاء أثبت مدى يقظة قوات الشرطة، ومختلف وحدات الأمن وحرصها على تأدية مهامها على أكمل وجه، في مثل هذه الظروف، لكنه أظهر مدى فشل السلطات المحلية في إدارة الأزمة إعلاميا، حيث سمح التضييق على وسائل الإعلام، بانتشار ''تجار المناسبات '' الذي راحوا يتاجرون دون أدنى إحترام للراوبط المهنية، والأخلاقية بدماء من كانوا قبل الإعتداء زملاء لهم في العمل، فسرعان ما انتشروا في المدينة وأمام المستشفى يعرضون فيديوهات ضحايا العملية الإرهابية للبيع، بمبالغ وصل سقفها إلى 4 ملايين سنتيم لذاكرة هاتف نقال مملوءة بالصور، وأدانها 7 آلاف دينار لفيديو يظهر الأجانب المحتجزين. التنمية... طرف مهم في معادلة الأمن والسلم ظهرت المدينة الأكثر غنى على المستوى الوطني، متعبة طيلة الأيام التي مكثنا فيها، ليس بسبب العملية الإجرامية التي كانت حصيلتها ثقيلة، وإنما بسبب وتيرة التنمية التي كان تسير بسرعة السلحفاة، سطحها فقير عكس عمقها الغني بالثروات ..لا بنايات ضخمة، ولا طرق معبدة، مشاريع سكنية مجمدة منذ سنوات، وشباب ينتظر إلتفاف السلطات لإنقاذه من شبح البطالة، فحسب حمزة أبة رئيس فرقة الأمن والحماية بشركة ''أس .أس. بي '' بعين أمناس يتخبط شباب المنطقة في بطالة خانقة رغم وجود أكثر من 40 شركة، هذا دون مصنع تكرير الغاز، فمنذ سنة 2000 لم يتم تثبيت ولا شاب في منصب عمله، باستثناء 5 مهندسين فقط، يعملون لدى شركة سوناطراك، على حد قوله، ناهيك عن تجميد السكنات الريفية منذ نفس السنة مما فوت فرصة الإستقرار على الكثير من الشباب، والطامة الكبرى نقص الخدمات الطبية المقدمة على مستوى المؤسسة العمومية للصحة الجوارية، فغياب مصلحة الاستعجالات، ناهيك عن إنعدام مصلحة التوليد تركت الأطباء يحولون الحالات الحرجة إلى إليزي، أو جانت، مما تسبب في وفاة العديد من المرضى مثلما حدث لسيدة حامل السنة الماضية حينما توفيت هي وجنينها بعد أن تم تحويلها إلى مستشفى إليزي، ومن ثمة إلى جانت لتفارق الحياة وهي في الطريق بين المستشفين. وحسب ذات المتحدث، لولا تدخل الجيش لكانت حصيلة الوفيات مرتفعة بسبب نقص الأخصائيين، حيث عزز مستشفى المنطقة ب11 طبيبا أخصائيا عسكريا يتولى تقديم العلاج للمواطنين خلال أيام الأسبوع، بعد أن عجزت مديرية الصحة عن معالجة المشكل.