القراءات السطحية خنقت النص الأركوني رى الباحث محمد الأمين بن عزة أن أهم ما ميّز مشروع أركون هو الرهان النقدي، بكل ما تحمله كلمة "نقد" من مضامين معرفية ومنهجية حديثة، وأشار المتحدث إلى أن محمد أركون حاول طيلة عقود من الزمن، ترسيخ تقاليد جديدة في التعاطي مع الدراسات الاسلامية، ونقلها الى مستوى آخر من البحث والمعالجة، كما لفت إلى أن المشاريع الفكرية والفلسفية لا تملك تلك القدرة السحرية الهائلة على التأثير السريع في الواقع وتغييره وقت الحاجة، بل يظل أثرها بطيئا وطويل الامد. محمد الأمين بن عزة باحث دكتوراه بالمدرسة العليا للأساتذة تخصص فلسفة عربية واسلامية، له دراسات ومقالات في مجلات ودوريات مختلفة داخل وخارج الوطن، وشارك في ملتقيات وندوات وايام دراسية في جامعات جزائرية، من اهم مؤلفاته: كتاب "مطارحات في الفكر والفعل" وكتاب جماعي تحت عنوان "قراءات في الفكر العربي الإسلامي المعاصر". - الشعب: كيف تُقيم، كباحث ومتابع للشأن الفكري والفلسفي، الإرث العلمي للمفكرِ الراحِل محمد اركون في الأوساط الأكاديمية الجزائرية؟ الباحث محمد الامين بن عزة: لا مِراء أن الراحل محمد أركون ترك إرثا كبيرا في الحقل الذي اشتغل عليه بالبحث والدرس، وأعني بذلك حقل الدراسات الإسلامية، خاصة وأنه كان أستاذا مرموقا لتاريخ الفكر الإسلامي، بجامعة السوربون العريقة، منذ ستينيات القرن الماضي إلى أن وافته المنية سنة 2010، وقد حاول طيلة عقود من الزمن ترسيخ تقاليد جديدة في التعاطي مع الدراسات الإسلامية، ونقلها إلى مستوى آخر من البحث والمعالجة النّظرية والتطبيقية الصارمة التي تحتفي بكل ما هو علمي ومعرفي، مع السعي - قدر المستطاع - إلى اجتناب التورط في المتاهات الإيديولوجية والنّزاعات الذّاتوية المنافية للروح العلمية والحس النقدي الذي ينبغي أن يتسلح به الباحث أو المفكر حتى وهو يقارب أعقد القضايا والإشكاليات، وأكثرها حساسية وخطورة، كقضايا الدين والتراث في أبعاده الروحية والعقائدية والقيمية. ويمكننا القول بأن أطروحاته لقيت اهتماما كبيرا من الباحثين في الفضاء الأكاديمي، في بلادنا خاصة، من قِبلِ المشتغلين بالفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، فالأطروحات والأبحاث المنجزة أو الملتقيات والندوات التي انعقدت لدراسة مشروعه الفكري أكثر من أن تُحصى، وهو ما يؤشر، بكثير من الوضوح، على جِدَّةِ وأهمية المنجز الفكري الأركوني في الساحة الفكرية والثقافية الجزائرية، خاصة وأنه من القِلّة القليلة التي انفردت بمشروع فكري ونقدي واعد وهادف رامَ من خلاله القيام بمسح شامل للفكر الإسلامي الكلاسيكي مع ما تتطلبه هذه المهمة الشاقة والجَسُورة من إمكاناتٍ ومؤهلات. - ما الذي ميّز مشروع محمد أركون عن غيره من المشاريع الفكرية في السياقات العربية والإسلامية المعاصرة؟ إن أهم ما ميّز مشروع أركون هو الرّهان النقدي، بكل ما تحمله كلمة "نقد" من مضامين معرفية ومنهجية مستمدة من تجارب فلسفية وعلمية مشهود لها بالنجاعة والفاعلية، من كانط إلى باشلار، ومن ماكس فيبر وبيير بورديو إلى ميشيل فوكو وروّاد مدرسة الحوليّات في الدراسات التاريخية. فالنقد الذي دعا إليه أركون ومارسه في طروحاته ليس نقدا بالمعنى التقليدي للكلمة. إنّه لم يركز على المضامين المعرفية التراثية ليستبعِدها وينكرها، أو ينتصر لهذا المذهب أو ذاك، أو يُثمّن اتجاها معرفيا أو فكريا على حساب الاتجاهات الأخرى، بل كان نقده إبستيمولوجيا يروم التركيز على الآليات أكثر من المضامين، ويبحث في كيفية تشكّل النُظُم المعرفية والعقائد الإيمانية والمذاهب المختلفة وتأثيرها الاجتماعي وامتدادها التاريخي، ولا يحفل كثيرا بالفروق والاختلافات السطحية الموجودة بينها، إلى جانب البحث عن علاقة المعرفي بالسّلطوي وكيفية انتصار نظام فكري على الأنظمة الأخرى واستبعادها اجتماعيا وتاريخيا. فالنقد الأركوني- بهذا المعنى - هو بحث أركيولوجي تفكيكي كاشف، وليس مجرد قراءات ذات خلفية إيديولوجية لا تخدم البحث العلمي والإنساني بقدر ما تدعم وتعزّز كل ما من شأنه أن يُذكي الصراع والعنف الرمزي بين القوى المتصارعة على الصعيد الفعلي والواقعي على ما نشهدهُ من صراعات تأخذ طابعا دينيا أو مذهبيا أو عرقيا. لقد كان أركون من السبّاقين إلى هذا النّوع من الممارسة النقدية الواعدة والمسؤولة، في السياقات العربية والإسلامية. وهو فضلا عن ذلك قدم مشروعا متعدد الجبهات، حافل بالأسئلة الكبرى، يشتغل على ثنائيات كثيرة دون الحسم فيها لا لقصور في المعرفة والبحث بل لشساعة الحقل الذي اشتغل فيه، ثنائيات من قبيل: التراث والراهن، الإسلام والغرب، العلمنة والدين، الإنساني واللاهوتي، الأسطورة والتاريخ. - هل يمكن اعتبار الإرث الأركوني امتدادا واستئنافا فكريا ومعرفيا للمدرسة الرشدية في المنطقة المغاربية بوجه خاص؟ شخصيا لا أميل كثيرا إلى هذا النّوع المقاربات والمقارنات بين شخصيات فكرية تنتمى إلى سياقات تاريخية وأزمنة حضارية مختلفة، لربط هذا بذاك، أو تقريب هذا من ذاك، مهما بدا بينهما من تقاطع وتواطئ. ومن الأفضل قراءة وتقييم كل خطاب فكري أو مشروع نقدي من خلال التركيز على "عوالمه الخاصة" إن صح هذا التعبير دون ربطه بغيرهِ ربطا عشوائيا لا مبرر له من الوجهة العلمية، ومن يربطون أركون أو الجابري وغيرهما بابن رشد لا يختلفون عن هؤلاء الذين يعتبرون مالك بن نبي امتدادا للخلدونية رغم البون الشاسع بين المفكرين من جميع النواحي. وعليه، حقيقٌ بنا، كباحثين ومهتمين بالشأن الفكري، أن نحذر من هذه المقارنات بين مفكرين ينتمون إلى سياقات تاريخية مختلفة، وكل منهم يفكر ضمن نظام معرفي وأطر فكرية وثقافية لا يحيد عنها مهما أظهر من النبوغ والعبقرية؛ فابن رشد وابن خلدون يظلان على ارتباط وثيق بالنظام المعرفي الذي ميّز الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط، وما أنتجاه من فكر فلسفي واجتماعي له حدوده المعرفيه إذا ما قُرِأ بأدوات حديثة ومعاصرة. إن عقلانية ابن رشد الأرسطية - على سبيل المثال لا الحصر - ليست نفسها عقلانية أركون النقدية، وقل الأمر ذاته عن الكثير من الهموم الفكرية التي شغلتهما وكان الاختلاف في مقاربتها والتعامل معها واضحا بين هذين المفكرين. - كيف تقيمون علاقة صاحب منهج "الإسلاميات التطبيقية" بالخطاب الإستشراقي الذي نلاحظ حضوره الفاعِل في كتاباته، خاصة تلك التي تتناول الإسلام الكلاسيكي في جوانبه العقائدية واللاهوتية؟ ها هنا، أيضا، علينا الحذر في تقديم إجابات متسرعة تحمل أحكاما جاهزة انطلاقا من خلفيات فكرية أو ايديولوجية معينة، فعلاقة أركون بالاستشراق معقدة وإشكالية، ويجب أن ننظر إليها من كافة جوانبها. نعم، لقد تأثر أركون - من الناحية المبدئية - بأدبيات الخطاب الاستشراقي، وتمكن من تحصيل ثقافة واسعة من جرّاء قراءاته المكثفة للمدوَّنة الاستشرافية بمختلف مدارسها وتوجهاتها، كما ربطته علاقات خاصة مع الكثير من المستشرقين الكبار الذين تتلمذ على أيديهم من أمثال: لوي ماسينيون وريجيس بلاشير وتوماس كوهين وغيرهم، ولا شك أن كتابات هؤلاء ساهمت في صياغة بعض الجوانب من مشروعه الفكري، وفي بداياته الأولى بوجه خاص، حيث يظهر تأثره بهم واضحا من الناحية المنهجية والمعرفية، ولكنه من جهة أخرى لم يبق مختبئا داخل جُبّة الاستشراق، بل حاول بعد ذلك أن يتحرّر من مناهجه وطرائقه في البحث والدرس، وقدم محاكمات نقدية صارمة للخطاب الاستشراقي، وأكد بأن مناهجه صارت تقليدية ومتجاوَزَة في النظر إلى الإسلام كظاهرة معقدة تتطلب تجديدا وتنويعا، على مستوى المنهج والرؤية. من هنا نفهم لماذا وضعَهُ في خانة "الإسلاميات الكلاسيكية"، في مقابل "الإسلاميات التطبيقية" التي ألحّ على ضرورة تكريسها بوصفها البديل الأنجع والأكثر فاعلية من أبحاث المستشرقين والاجتهاد الإسلامي التقليدي. لقد دعا إلى ضرورة انفتاح المستشرقين على أحدث المدارس والاستراتيجيات التي أثمرتها الفلسفة واللسانيات والعلوم الإنسانية المختلفة، وتجاوز الأطر الضيقة التي حصر فيها الاستشراق التقليدي نفسه، خاصة تلك المدراس الاستشراقية التاريخية والوضعانية التي ظلت وفيَّة لما أنتجه استشراق القرن التاسع عشر ولم تتحرّر من تقاليده البحثية الكلاسيكية. وعليه، يمكن القول أن صاحب كتاب "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" لم يرفض مناهج الاستشراق التقليدي رفضا قاطعا، بل كثيرا ما تحدث عن فضل بعض المستشرقين في دراسة الإسلام، وتحقيق نصوصه بكثير من الصرامة المعرفية والمنهجية، بفِعل اتقانهم لمناهج وحقول معرفية هامة كالفيلولوجيا والتاريخ، لكنه دعا إلى تعزيزها بما يُستجد من أبحاث قد تفيدُ أكثر في دراسة تاريخ المجتمع الإسلامي بنفس الكيفية التي تُدرس بها المجتمعات الأخرى. ما يؤخذ على أركون أنه اكتفى بالمحاكمة المنهجية للخطاب الاستشراقي وسَكَتَ عن إشكاليات أخرى كثيرة أثارها هذا الحقل العلمي الخطير والمثير للجدل. فهو لم يُحدثنا عن علاقة الاستشراق، كخطاب علمي ومعرفي، بالاستعمار رغم مقدرته الكبيرة على القيام بذلك، وهو الذي استوعب جيدا علاقة المعرفة بالسلطة كما أوضحها فوكو وبورديو وغيرهم، وفي هذه النقطة بالذات يبدو أركون أقل جسارة من مفكر كإدوارد سعيد الذي تعمق أكثر في تشريح الاستشراق كخطاب سلطة وهيمنة. - هل الجدل المصاحب لأفكار أركون وحفرياته أضحى يعكس تأزما وعَطَبا في التعامُل مع أفكارِ الفلاسفة والمفكرين الجزائريين؟ يبدو الأمر كما تقولون فعلا، وهو لا يقتصر على الفلاسفة والمفكرين فقط، بل يطال جميع من يمكن أن نطلق عليهم اصطلاح "النخبة المثقفة والفاعلة في حقول الإنتاج الرمزي" بوجه عام. إننا لا نولي مثقفينا القدر الكافي من الاهتمام والعناية، ولا نأخذ ما يقولونه وما يدعون إليه على محمل الجد، والأكثر من ذلك فقد يُساء فهمهم ويتم التشكيك في جدوى ومصداقية طروحاتهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بمفكرين لا يهادنون ولا يجاملون في شؤون الفكر والثقافة، ويراهنون على الحقيقة في مواجهة الزيف والتضليل. وعلى النقيض من ذلك قد نجد من يبالغ في تقديس ما يقوله هذا المفكر أو ذاك بدل التفكير معه بإيجابية أو استئناف القول في مُنجزِهِ الفكري والنقدي، وهذا السلوك يعكس، بكثير من الوضوح، وجود أزمة وعي حادة وعطب في التعامل مع المفكرين والمثقفين. وبالعودة إلى محمد أركون يمكنني التأكيد على ملاحظة تبدو لي في غاية الأهمية، وهي تشمل حتى المشتغلين بالبحث الأكاديمي، إذ من الضروري أن لا ننجرّ وراء القراءات السطحية التي تخنق النص الأركوني وتتعامل معه وكأنها تمارس دور "محاكم التفتيش"، أو تحصره ضمن أطر ضيقة وخلفيات ومسبقات لا تمت للبحث العلمي بصلة، بل من الضروري أن تتم قراءته قراءة نقدية واعية تَسبر أعماقه وتكشف مراميه البعيدة من جهة، وتبحث عن حُدوده ومفارقاته من جهة أخرى. فالمفكر ليس شيطانا غارقا في خطاياه ولا قديسا أو ملاكا كامل البراءة والطهرانية، بل إنسان له ما له وعليه ما عليه. - إلى أي مدى يمكن الوثوق بنجاعة مشروع محمد أركون في التعاطي مع مشكلات الواقع وأزماته فضلا عن تحولاته المتسارعة؟ لست من هؤلاء الذين ينزعون نحو المثالية فيتوهمون أن الواقع ليس سوى انعكاسا لأفكارنا وتصوراتنا، والأفكار قادرة على صياغة الواقع وتشكيله على الدّوام. فأنا أعتقد بأن الأفكار أو المشاريع الفكرية والفلسفية لا تملك تلك القدرة السحرية الهائلة على التأثير السريع في الواقع وتغييره وقتَ الحاجة، بل يظل أثرها بطيئا وطويل المدى. ومع ذلك فأنا لا أنكر جدوى هذا النوع من المشاريع بل أشدِّد على ضرورة تفعيلها وتطبيقها وفق ما تقتضيه الحاجة، خاصة في المجالات التربوية والتثقيفية، مع مراعاة طبيعة المجتمع الذي يشهد تحولات سريعة تتطلب التحلي بالكثير من المرونة والبراغماتية قد لا نجدها في المشاريع والنماذج النظرية والتفسيرية الكبرى.