ردا على مقال (أفول الكواكب... في سماء الفكر) كتب أستاذي الدكتور عبد الرزاق قسوم في جريدة الشروق بتاريخ 23 / 09 / 2010 مقالا بعنوان (أفول الكواكب... في سماء الفكر) ينعى فيه رحيل بعض أعلام الفكر العربي والإسلامي، كمحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، وغيرهم، إلا أن المقال مخصص لهذا الأخير. وهو مقال جريء جرأة صاحبه، الذي عودنا على مثل هذه المواقف الشجاعة ونحن نعلم ماذا يعني إبداء الحزن على مثل هؤلاء الأعلام، في زمن يسيطر فيه التعصب والتزمت وضيق الافق، وأنا شهدت عند الاستاذ قسوم كثيرا من هذه المواقف، سواء في ثنايا كتبه ومقالاته، أو حينما كنت طالبا عنده في مرحلة الماجيستير، حيث عودنا على مناقشة مختلف الآراء وإثارة القضايا الحساسة، فأنا متأكد من أن صدره سيتسع لهذه الملاحظات التي سأبديها. فالمقال في شكله وعنوانه نعي وحزن على محمد أركون، وفي جوهره وباطنه حملة على المفكر وفكره، في شكل تشهير يوحي إلينا بمقاطعه هذا المفكر وتضييق الخناق على فكره، في وقت نحن فيه في أمس الحاجة إلى من يدفعنا للتفكير الحر الذي يفتح الافاق ويستكشف المجاهيل، ولا يعني هذا أنني أدعو إلى تبني آراء أركون واجتهاداته بحرفيتها، وإنما أدعو إلى الاتصال بفكره وفتح نقاش معه في حرية تمكننا الاستفادة من تجربته الطويلة في تعامله مع الثرات الاسلامي بمناهج حديثه يتقنها أركون كل الاتقان الحملة بدأها أستاذي بالهجوم على أركون في شخصه حين ذكر العوامل التي اجتمعت على صياغة الاستقلالية النفسية، والتحرر الروحي للباحث الاكاديمي الاسلامولوجي محمد أركون، يقول أستاذي''لعل أبرزها، نشأته، بين أحضان الاباء البيض'' وترعرعه وسط المنهج الفرنسي، وتمرده عى العمل الوطني وتبنيه للخط الاستشراقي واقتناعه بالايديولوجية العلمانية مما يوحي أو يفصح بأنه مسيحي أو في صفهم على الاقل، وأنه مستشرق، وقد يفهم أنه خائن ولاشك أن هذه الاتهامات الخطيرة تجعلنا نرتاب في أمر الرجل وفكره، وتدعونا إلى نبذة وإحراق كتبه. لكن النظرة الموضوعية إلى مثل هذه المسائل، وتحليلها في سياقها التاريخي المعروف، تكشف لنا كثيرا مما وراء هذه المغالطات، فنشأته في أحضان الاباء البيض ووسط المنهج الفرنسي كان على غرار كثيرين من عمالقة الفكر والادب الجزائري، حيث لم يكن في الامكان أبدع ممن كان في تلك المرحلة ووسط هذا المنهج نشأ مالك بن نبي ومولود فرعون ومحمد ديب وكاتب ياسين وغيرهم، فهل نتهمهم بالتمرد على العمل الوطني، وهل العمل الوطني هو حمل السلاح فقط، وهل الصراع الفكري والبحث العلمي تمرد على الوطنية أم هو من صميمها وهل مشروع '' نقد العقل الاسلامي'' تمرد على الوطنية أم هو صراع فكري مع الغرب في أعلى صورة الفلسفية والمنهجية. أما الادعاء بأنه مستشرق أو في خط الاستشراق فعلى أي أساس اعتمد أستاذي هذا التصنيف إذا كان على أساس أن محمد أركون تبنى وطور منهجا جديدا في التعامل مع التراث، فهذا ما فعله غيره ولم يتهمهم أحد بالاستشراق، كمحمد عابد الجابري البنيوية وطيب تيزيني الماركسية وحسن حنفي الظاهراتية ..إلخ وإذا كان على أساس أن أركون تبنى مناهج المستشرفين فهذا ما لم يفعله بل العكس هو الصحيح إذ نجده يشن حملات عى مناهجهم وبالاخص، المنهج الفيلولوجي الذي يشوه تراث المسلمين ويرجع عناصره إلى تراثات سابقة عليه، كل ذلك نقد علمي بناء، حيث طرح البديل وهو الاسلاميات التطبيقية لا كما يفعل الكثير، حيث النقد عندهم عبارة عن سبيل من السب واللعن والشتائم راجع نقده للمستشرق كلود كاهين مثلا، قضايا في نقد العقل الديني ص 63 هذا فيما يتعلق بشخص أركون أما فيما يتعلق بفكره فقد حدده وحصره أستاذي في ثلاثة منطلقات هي المصطلح والمنهج والمضمون، فلنتناولها في ثلاثة منطلقات على التوالي بما يسمح به هذا المقال. فالمصطلح الاركوني كما يقول أستاذي مشتق من ثقافته الموسوعية بلغاته المختلفة وتخصصاته المعرفية والمتنوعة وهذا طبيعي وضروري في آن معا، وأكثر من ذلك يجب تبيئ هذا المصطلح في محيطنا الثقافي حتى ندخل معه في نقاش تم نكيفه أو نعدله أو نطرح بديلا بعد ذلك إن أمكن بحسب معطياتنا الثقافية والفكرية واللغوية، لا أن نقصيه ونبقى حبيسي مصطلحاتنا القديمة فنجتر بالتالي نفس المفاهيم التي تحملها فالمصطلح يأتي معه بحمولة معرفية جديدة- وأستاذي أدري مني بذلك- ثم هل هذا المصطلح انفرد به أركون أم أننا نتداول مثله في مجالات حياتنا الفكرية والادبية والفنية والسياسية...إلخ أما المنهج فهنا تكمن عبقرية أركون حيث استطاع أن يستوعب ويهضم مناهج النقد والقراءة الحديثة في أرقى صورها التي توصلت إليها الحداثة الغربية، ثم يستغلها في خدمة مشروعه الكبير نقد العقل الاسلامي بل تعداه الامر إلى نقد الحداثة الغربية نفسها نقدا فلسفيا لا أظن أحدا في العالم الاسلامي يقدر أو يجرؤ عليه، وإلى جانب النقد الفلسفي لهذه الحداثة له مواقف مشرفة منها فقد أثارت جدلا عنيفا وضجة كبيرة في الاوساط الغربية والفرنسية منها بالخصوص قضية سلمان رشيدي ومسألة الحجاب وأخيرا ثالثة الاثافي كما يقول أستاذي وهي عنصر المضامين وإن كنت أشاطره بعض الرأي فيما يخص معنى المقدس في النص إلا أن المسألة بحاجة إلى نقاش طويل، حيث نفرق بين تقديس النص كخطاب إلهي وفهم البشر لهذا الخطاب الالهي أما ما يقوله أستاذي أن محمد أركون على الفكر العربي الاسلامي وكأنه يدعونا إلى اعتناق المسيحية فهذا ما لا أساس له من الصحة، وإنما استخدم مصطلح الكاثوليكية في مقابل الاورتودوكسية والدوغمائية والتي تدعى امتلاك الحقيقية المطلقة دون غيرها وهذا متعلق بالمصطلح لا بالمضمون ونفس الكلام فيما يتعلق بتعامل أركون مع المفكرين المسلمين القدامى والمسألة هنا متعلقة بالمصطلح والمنهج معا ولا علاقة لها بالمضمون فأركون يحاول قراءة وتفسير التراث بمصطلحات ومناهج ارتضاها لنفسه لا أن يلبس المفكرين المسلمين القدامى قبعة الفلاسفة الغربيين العلمانيين كما يقول أستاذي ولعل الرونق الادبي الذي أضفاه على مقاله ساهم في تحريف بعض الحقائق التاريخية والمنهجية التي لا تحتمل مثل هذا الاسلوب خاصة إذا كان الموضوع المعالج من وزن أركون. وأخيرا أشاطر أستاذي الرأي فيما يتعلق بالجزء الآخر، حيث إن هذه المسألة تندرج في أخرى سبقنا فيها وهي معنى المقدس في النص، فإذا اتفقنا على الأولى اتفقنا على الثانية. ولا يسعنا في ختام هذا المقال إلا أن نتحسر ونتأسف، لمن أثرى المكتبة الاسلامية بعشرات المؤلفات القيمة والتي لا تقدر بثمن فنحن أحوج ما نكون إليها في هذه المرحلة بالذات التي نتخبط فيها في الجهل والتخلف الفكري والفلسفي والمنهجي وغارقون في وحله إلى الاذقان فلنقدر أي فراغ تركه أركون برحيله عنا. كما أستسمح أستاذي عبد الرزاق قسوم مرة أخرى على هذه الجرأة التي أملتها علي قراءاتي في فكر أركون، ودفعتني إليها ظروفنا الفكرية والثقافية التي يسود فيها الجهل المقدس كما يقول محمد أركون.