"طوفان الأقصى" تكبّد الصهاينة خسائر غير مسبوقة للوهلة الأولى عند مشاهدة تغطية وسائل الإعلام الغربية الموجّهة للمشاهد العربي، يخيل لك أنها تنقل معاناة الفلسطينيين، حيث يركز إعلامهم على القصف الصهيوني على غزة، في إشارة ضمنية إلى قوة الجيش الصهيوني، مع تحميل الفلسطينيين المقاومين مسؤولية وتبعات ما يحدث للفلسطينيين. لكن الغرض الخفي من هذا، إلى جانب تشويه صورة المقاومة، هو زرع روح الإحباط لدى المتابع العربي على وجه التحديد، وإيهامه بأن الجيش الصهيوني لديه من القوة ما يكفي لسحق المقاومة، إلى جانب ردع الأنظمة وتشتيت التعاطف في دول الجوار، وثنيها عن أية محاولة للمساندة، خاصة بعد إعلان الولاياتالمتحدةالأمريكية المساندة المطلقة للكيان الصهيوني، وإرسال عدّة عسكرية كبيرة إلى الشرق المتوسط. لكن الحقيقة الحربية المؤكدة أن من يستخدم العنف المكثّف، يعني أنه لم يعد يمتلك ناصية قراراته، بل أنه يعلن صراحة عن ضياع بوصلته. استخدمت الآلة الاعلامية الغربية صور أشلاء شهداء القصف الصهيوني لإظهار قوة جيش الاحتلال، لا لفضح جرائمه، وكسب تعاطف مع الضحايا الذين صورتهم على أنهم ضحايا ل«طوفان الأقصى"، وليس ضحايا للاحتلال، وصورت الكيان الصهيوني على أنه يدافع عن نفسه في أرض هي في الأصل أرض مغتصبة. بينما أغلقت كل الأبواب التي تظهر قوة المقاومة ومسحت المحتويات ذات الصلة من كل وسائط التواصل الاجتماعي. التهويل والتعتيم.. لإحباط العزيمة لا يختلف اثنان على أن ما يحدث في غزة خاصة، وفي الضفة الغربية، وضد كل ما هو عربي في فلسطين عموما، هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية بكامل الأركان، يرافقها تهويل إعلامي لما يقترفه المحتل الصهيوني وحلفاؤه من قتل وتدمير مكثفين، وصور أشلاء الشهداء والجرحى وهي تجمع في أكياس، ناهيك عن الطوابير الممتدة للشهداء من الأطفال على وجه التحديد، وهذا يدخل في صميم الحرب النفسية أثناء الحروب والنزاعات، حيث يرمي الصهاينة إلى زرع روح الإحباط في نفوس المقاومين وأهاليهم ومواطنيهم، حتى ينتفضوا ضد المقاومة، ويحملوها مسؤولية الدمار والقتل غير المحدود لكل ما دب على الأرض. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يتعمّد الإعلام المتصهين في الغرب، التعتيم على إنجازات المقاومة التي تعتبر ضخمة وهائلة بمقارنة إمكاناتها مع عدّة العدو وعتاده، فقد تحالفت كل تلك القوى الإعلامية من أجل التهوين مما تقوم به المقاومة ضد المحتل، لتبدو أنها ورطت نفسها مع "الجيش الذي لا يقهر"!!. الإعلام الصهيوني ينقلب على الحكومة وفي خضم هذا التعتيم المغرض، يخرج من داخل إعلام الكيان من يوصل الحقيقة للمستوطن نفسه وللعالم الخارجي، حقيقة انهزام الترسانة العسكرية والإعلامية الصهيونية، إذ كتبت جريدة "هآرتس" العبرية، مقالا مطولا عن الهزيمة السياسية والاستراتيجية النكراء التي مُني بها الكيان الصهيوني، وخسائره الاقتصادية، وفرار المستوطنين وعدم رغبتهم في الدفاع عما تصفه ب«ممتلكاتهم" التي اغتصبوها، على عكس الفلسطيني الذي ينصب خيمة ولو من قماش، ويبقى في منزله الذي هدمته صواريخ المحتل. في هذا الصدد، كتبت الجريدة الصهيونية افتتاحيتها تحت عنوان: "الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم"، وقال كاتب المقال: "إنهم فعلا أصحاب الأرض، ومن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي.. أتحدى أن يأتي (الكيان) كله بمثل هذا الانتماء وهذا التمسك والتجذر بالأرض بعد أن أذقناهم ويلاتنا من قتل وسجن وحصار وفصل وحاولنا إغراقهم بالمخدرات وغزو أفكارهم بخزعبلات تبعدهم عن دينهم كالتحرر والإلحاد والشك.. لكن الغريب في الأمر أنهم رغم كلّ هذا، يهبون دفاعا عن أرضهم وأقصاهم".. وأضاف: "إننا نتعرض لحرب لسنا من نديرها .. وبالتأكيد لسنا من ينهيها خاصة وأن المدن العربية في دولة الاحتلال فاجأت الجميع بهذه الثورة العارمة ضدنا بعد أن كنا نظن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية". ثم يعود الكاتب ويحصي خسائر الكيان التي كبدته إياها صواريخ المقاومة، وهو يدعو للتخلي عن حلم إقامة دولة لهم بين النهرين، وقال: "خسارتنا كل ثلاث أيام 912 مليون دولار من طلعات الطائرات وثمن صواريخ الباتريوت وتزويد الآليات بالوقود واستهلاك ذخيرة.. ناهيك عن تعطل الحركة التجارية وهبوط البورصة وتوقف معظم المؤسسات وأعمال البناء وموت الدواجن في المزارع بعشرات ملايين الدولارات، وتعطل بعض المطارات وبعض خطوط القطارات وثمن إطعام الهاربين إلى الملاجئ ناهيك عن التدمير في البيوت والمحال التجارية والسيارات والمصانع بفعل صواريخ المقاومة.. وطالما أن تل أبيب ذاقت صواريخ المقاومة فمن الأفضل أن نتخلى عن حلمنا الزائف ب«إسرائيل الكبرى" ويجب أن تكون للفلسطيني دولة جارة تسالمنا ونسالمها وهذا فقط يطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين وأعتقد بأنه ولو بعد ألف عام، هذا إن استطعنا أن نستمر لعشر أعوام قادمة كدولة يهودية، فلابد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة، فالفلسطيني سيبعث من جديد ومن جديد ومن جديد وسيأتي يوما ما راكبا فرسه متجها نحو "تل أبيب". الهدنة لدوافع إنسانية؟! وفي وقت قال ممثل حركة فتح في لبنان إن المقاومة في غزة مازالت تحافظ على 90 بالمائة من قدراتها القتالية، بينما يحصي المحتل خسائره وقتلاه، قال المفوض الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمن، جوزيف بوريل، إن وزراء خارجية التكتل سيبحثون في دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أجل "هدنة إنسانية"، وأن المسألة ستعرض على قادة الاتحاد خلال قمتهم المقررة اليوم الخميس. دعوات الهدنة التي تعارضها ألمانيا، تأتي بعد الخسائر غير المسبوقة التي تكبدها الكيان جراء عملية "طوفان الأقصى". وتشير أرقام محلية إلى أن الحرب على غزة تكلف الخزينة نحو 49 مليون دولار في اليوم الواحد، فيما تسجل الميزانية العامة عجزا ب20 مليار دولار. إلى جانب تراجع قيمة العملة المحلية بنحو 4.5 بالمائة منذ بداية العدوان. هذه الخسائر قد تعجل بهزيمة أخرى للجيش الصهيوني على غرار حرب تموز 2006، مع حزب الله البناني. ومن المعلوم أن الكيان لا يستطيع الصمود في حال حرب طويلة الأمد، إذ اعتمد ومنذ احتلاله أرض فلسطين العام 1948 على الحروب قصيرة الأمد والخاطفة، حيث يعتمد العنف المكثف لتحقيق نصر عسكري يكفي لردع المقاومة. لكن يبدو أن حسابات المحتل لم تصب هذه المرة، ويدل على ذلك العمل العسكري الفجائي لحركة المقاومة الإسلامية، والتي أخذت زمام المبادرة فيما يعرف بعنصر المبادرة والمفاجأة في العمليات الحربية، وبذلك تكون سيطرت على العدو، من حيث توجيه مسار الحرب. ومن الأصداء التي تنقل على مواقع التواصل الاجتماعي، التفاف الشعب الفلسطيني برمته حول المقاومة، وعملية "طوفان الأقصى" التي كسرت هيبة الكيان وجيشه، نساء ثكالى وأرامل يبكين من فقدن، لكنهن متمسكات بالأرض وبالمبدأ الراسخ بضرورة إنهاء الوجود الصهيوني على أرض فلسطين. ويؤكدن أن كل أولادهن مشاريع شهداء لتحرير فلسطين التاريخية. وفي مشاهد أخرى أطفال يلعبون داخل المستشفى لعبة الشهيد، وآخرون يعلنون استعدادهم للتضحية فداء لفلسطين. تلك المقاطع وأخرى، تؤكد أن الاستراتيجية الإعلامية للمحتل وحلفائه لم تؤت أكلها، بل جاءت بنتائج عكسية، على اعتبار التجربة التي خاضها الفلسطينيون مع الاحتلال الاستيطاني منذ 1948 والتي تؤكد أنه لا يريد السلام، بل يريد إنهاء وجود الفلسطينيين، وتهجيرهم من أرضهم ليعيشوا في المنفى. وقد فهم الغزاويون سبب الحصار المفروض عليهم والحروب والمتكرّرة على القطاع منذ 2008، كما فهموا أهداف القصف المكثف والقتل الممنهج الذي يرمي إلى تهجيرهم نحو دول الجوار دون رجعة، وذلك بعد إنذارات الإخلاء التي أطلقتها حكومة الاحتلال لأهالي القطاع بالمغادرة قصد "إنهاء المقاومة" ليعيش القطاع في "سلام" مزعوم. خسائر.. هزيمة سياسية ولا نصر عسكري وبالنظر إلى الخسائر من جهة، والخسائر التي يتكبّدها الغرب المتحالف على جبهتي قتال مختلفتين، فإن التفسير الأقرب لدعوات الهدنة، ليس الدوافع الإنسانية، لأنه لو كانت كذلك لسعى الاتحاد الأوروبي منذ الوهلة الأولى إلى وقف القتال كما هب لنصرة أوكرانيا في حربها مع روسيا، لكن يبدو أن تعدّد جبهات القتال، ورفض الشعوب الأوروبية لمواقف بلدانها المؤيدة للعدوان، بسبب الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعدّدة الأوجه، جراء وباء كورونا وحرب أوكرانيا، وتراجع المستوى المعيشي للمواطن الأوروبي. أضف إلى ذلك صمود المقاومة أمام كل تلك الترسانة الحربية، وزيادة احتمال توسّع دائرة الحرب، وتورط دول الاتحاد الأوروبي في حرب جديدة في الشرق الأوسط، كلها عوامل تدفعهم إلى وقت مستقطع لاستعادة الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق. وفي هذا السياق، فإن تحقيق النصر في الحروب لا يكون بالتفوق العسكري فقط، فقد يحقق أحد الطرفين نصرا عسكريا لكنه يمنى بهزيمة سياسية تأتي على إنجازاته العسكرية. وفي حال الحرب غير التماثلية بين المقاومة في فلسطين والكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين، نرى بوضوح الخسارة السياسية، ففي الداخل الصهيوني يرابط آلاف المستوطنين منذ بداية العدوان أمام وزارة الدفاع لوقف العدوان وإسقاط حكومة نتنياهو، وفي الدول الغربية سواء في أوروبا التي خرج مواطنو الدول هناك في مظاهرات احتجاجية ضد مواقف بلادهم المساندة للعدوان، أو لنصرة المقاومة في غزة، ناهيك عن الملاعب التي ضجت بالهتاف لتحرير غزة ورفع الحصار، أو في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي ولاية نيويورك أكبر معقل لليهود في العالم، التي شهدت مظاهرات مندّدة بالعدوان وتطالب بإنهاء الوجود الصهيوني وإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من استرجاع دولته في حدود 48، على اعتبار أن اليهود غير الصهاينة لا يؤمنون بقيام دولة لهم، وأن قيامها يعني نهايتهم وفق ما ورد ب«التوراة". هذه الهزيمة السياسية يلخصها كاتب مقال "هآرتس" الصهيونية بالقول: "جيوش دول بكامل عتادها لم تجرؤ على ما فعلته المقاومة الفلسطينية في أيام معدودات، فقد سقط القناع عن العسكري الصهيوني الذي لا يقهر وأصبح يقتل ويخطف". وبالنسبة للمقاومة في غزة، وفي مختلف بقاع فلسطين التاريخية، فإن ما يتعرض له الفلسطينيون من قتل مكثف في حال مواجهة محتدمة، لا يختلف عما يعانونه يوميا، ففي كل يوم يقتل الصهاينة، جيشا ومستوطنين، مواطنين فلسطينيين في الضفة سواء بالدهس أو إطلاق النار أو الطعن، وفي كل يوم تجرف أراض وتهجر عائلات وتشرد، وفي كل لحظة تحرق مزارع ويضيع جهد الفلاح والمزارع الفلسطيني. إن ما كان يعيشه الفلسطيني بشكل متفرق وفي أماكن متفرقة لا يختلف عمّا يحدث في غزة، فالموت واحد وألمه واحد، لكن الفرق أن العدو كان يثخن في القتل دون أن يتعرض هو لذلك، لكن في هذه الحرب هناك قتلى من الطرفين، ولن يكون الرابح فيها الكيان الصهيوني؛ لأن "الفلسطيني يورث لأبنائه مفاتيح الدار التي سطا عليها الصهيوني جيلا بعد جيل على أمل أن يعود يوما بعد إنهاء الاحتلال، بينما يورث الصهيوني جنسية بلاده لأبنائه تحسبا للعودة من حيث أتوا عندما يطرد الاحتلال من أرض فلسطين". وفي الختام، فإن الحملة الإعلامية التي يقودها الاعلام المتصهين ضد المقاومة ومحاولة تشويه صورتها لم تأت بالنتائج المرجوة، بل بنتائج عكسية حيث تغلب الرأي العام في عديد الدول ضد ما يقوم به المحتل، وأبعد من ذلك حرض على فرار المستوطنين من فلسطين إلى بلدانهم الأم بحثا عن الأمن والأمان والسلام الذي لم توفره حكومة "النتن-ياهو".