لا بديل عن الآليات التصالحية للمحافظة على استقرار الأسرة أبرز الدكتور نعيم بوعموشة أستاذ محاضر بقسم علم الاجتماع والديموغرافيا جامعة تامنغست في حوار مع "الشعب"، أهمية الوقاية من العنف ضد المرأة انطلاقا من الأسرة والمدرسة باعتماد الحوار والتنشئة الاجتماعية الصحيحة لأفراد المجتمع، بالإضافة إلى آليات تصالحية لضمان تماسكها، كل ذلك من أجل تغيير القيم الثقافية والتقليدية التي تكرّس تنشئة المرأة اجتماعيا، وجعلها خاضعة مند طفولتها المبكرة بسبب إعطاء الرجل حق السيطرة عليها. «الشعب": يشكّل العنف المنزلي أهم أنواع العنف الممارس ضد المرأة، كيف تفسر تردد المرأة في إيداع شكوى ضد الزوج أو الأخ، ولماذا لم يتقبل المجتمع بعد هذه الخطوة؟ بوعموشة: العنف ضد المرأة هو سلوك أو فعل عدواني مؤذ أو مهين يرتكب بأية وسيلة على شخص المرأة، سواء أكانت زوجة، أو أما، أو أختا، أو ابنة، ويخلق لها معاناة جسدية، أو جنسية، أو نفسية. وظاهرة العنف ضد المرأة ظاهرة منتشرة في المجتمع الجزائري، بل وتزداد ضراوة مع الأيام بكافة أشكالها، إلا أن الإحصاءات المتعلقة بحالات العنف الواقع على المرأة لا تعكس الواقع بشكل دقيق لأن المجتمع الجزائري يعتبر العنف الموجّه ضد المرأة جزءا منها ومن تربيتها. ومن أشكال العنف الموجه ضدها العنف المنزلي، والذي يأخذ عدة أنماط هي: العنف الجسدي: ويعرف بأنه كل اعتداء جسدي على المرأة يتمثل في الصفع أو الركل أو اللكم أو شدّ الشعر أو الحرق أو الخنق أو الضرب بأداة حادة تترك آثار الخدوش والجروح على جسمها. وغالبا يحدث هذا النوع من العنف على إثر مشادات كلامية تتحوّل إلى صراع بين الرجل والمرأة، لفشلها في احتواء الموقف باستخدام مهارات الاتصال الناجحة (الإصغاء والمناقشة والحوار) لحلّ المشكلة. العنف اللفظي: وهو من أكثر أنواع العنف الشائعة، إذ توجد العديد من المفردات التي تستعمل في تحقير المرأة، فما أن يحدث خصام إلا وتتهاطل المفردات التي تجعل جسد المرأة وجنسها متنفسا للرجل الغاضب، كإطلاق النعوت السيئة على المرأة التي تحط من قيمتها في نظر نفسها ونظر الآخرين كتشبيه شكلها ببعض الدواب أو وصفها بنصف العقل أو الجنون، أو سب الموتى أو الأحياء من أهلها كوالديها، وندب الحظ الذي جمعه بها ومقارنتها بنساء أخريات. فالنزعة الذكورية الشائعة بشكل كبير في مجتمعنا، والتي تقوم في غالب الأحيان على عنف رمزي يتلخص في السب والشتم الذي يسلط على النساء، وفي هذا الصدد كثير من النساء يتقبلن الإهانة ويتحملن السبّ والشتم النابي ليس بسبب ضعفهن بل بسبب نتائج احتجاجهن على ذلك، الأمر الذي يترك دون شكّ تأثيرات نفسية عميقة على المرأة. ويرجع سبب تردد المرأة المعنفة في إيداع شكوى ضد الزوج أو الأخ، في الأساس للقيم الثقافية والتقليدية التي تكرس تنشئة المرأة اجتماعيا، وجعلها خاضعة مند طفولتها المبكرة، فللرجال حق السيطرة على المرأة، وبالتالي ترتبط فكرة العنف بالرجولة والذكورة؛ فتعامل المرأة داخل الأسرة على أساس أنها ضعيفة وعليها الخضوع لرجال العائلة وعدم المناقشة أو الاعتراض. كما يرجع ذلك أيضا إلى اعتبار أن ما يحصل داخل الأسرة يبقى سرا وكأنه شيء مقدس، الأمر الذي يمكن اعتباره محاولة للتغطية وإنكار وجود العنف إلا نادرا. فكم من نساء تعرضن للإهانة والضرب، والشتم، ولم يتحدثن عنه واختبأن وراء الصمت والخجل وعشن حياتهن صابرات، ولكن ذليلات لا حول لهنّ ولا قوة خوفا من أن يصبحنّ هن الجانيات . خطّت الجزائر خطوات هامة وعملاقة في سن قوانين تكافح الظاهرة، بل تعتبر دولة رائدة في هذا المجال. هل يمكن القول إنها حدت من الظاهرة؟ إن العنف ضد المرأة في الغالب مشكلة أسرية وتطغى عليها في كثير من الأحيان الحساسية المفرطة المغلفة بالخصوصية والسرية والكتمان والخوف من استباحة وانتهاك حرمة الأسرة وخصوصياتها. فوجود نوع من التعتيم والإنكار المقصود أو المفتعل حول وجود مثل هذه الممارسات أو السلوكيات العنيفة داخل الأسرة، والتي يفترض أن يسودها علاقات الحب والمودة والرحمة، سببه الخوف من الفضيحة الاجتماعية. وأمام تفاقم هذه الظاهرة عمد المشرع الجزائري إلى سن ووضع قوانين رادعة تحمي المرأة وتنصفها من الاعتداء، وتشديد العقوبة على جميع أشكال العنف كقانون العقوبات المعدل والمتمم رقم 15-19 المؤرخ في 30 ديسمبر 2015، والذي جاء لمواجهة كل أشكال تعنيف الزوجة من عنف جسدي ولفظي ونفسي واقتصادي وتجريمها، كما تمّ تشديد العقوبات في مثل هذه الجرائم، الأمر الذي يؤكد حرص المشرع الجزائري على الاعتناء بالأسرة واعتبارها اللبنة الأولى في بناء المجتمع. والاعتراف بثقل ما تحمله المرأة كزوجة باعتبارها عنصرا محوريا في تماسك الأسرة ووحدتها وبالتالي الحفاظ على تماسك المجتمع ككل. وحتى تكون القوانين والتشريعات التي تحمي المرأة من كل أشكال الاعتداء وحفظ كرامتها لابد للقوانين أن تساير التغير الاجتماعي والثقافي وعدم التساهل في تطبيق العقوبات على الشخص الذي يمارس العنف ضد المرأة. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الأسرة تحتاج لآليات تصالحية لضمان تماسكها أكثر من حاجتها لعقوبات ردعية. فالعنف أيا كان مصدره لا يمكن الحد من انتشاره بالمعاهدات الدولية والقوانين والتشريعات فحسب، وإنما يجب التركيز على الوقاية منه انطلاقا من الأسرة والمدرسة باعتماد مجموعة من الأساليب أساسها الحوار والتنشئة الاجتماعية الصحيحة لأفراد المجتمع. لذا يجب التكفل بالمعتدي والمعتدى عليه، لكيلا تظل الجهود المبذولة لمحاربة هذه الظاهرة دائرة في حلقة مفرغة. كيف تفسرون استخدام الدين لتبرير العنف ضد المرأة والمساس بكرامتها لدرجة حرمانها من ميراثها مثلا، وأي دور تؤديه المساجد لإقناع المجتمع ب "استوصوا بالنساء خيرا"؟ إن ظاهرة العنف داخل الأسرة من أكثر الظواهر الاجتماعية التي كان ومازال يتعامل معها المجتمع الجزائري بكثير من الحذر والحساسية، فهذه الظاهرة على غير ما تبدو عليه من أنها نادرة، فهي واسعة الانتشار ومتعدّدة الجوانب، ولها آثار وانعكاسات عميقة وخطرة ومدمرة على كيان الأسرة ووجودها وعلى المرأة نفسها، وإن كانت تقبع خلف الأبواب الموصدة غير معلنة عن نفسها. فالعديد من النساء في المجتمع الجزائري يعانين الحرمان من ممارسة حقوقهن الاجتماعية. فالمرأة لا زال ينظر إليها على أنها مخلوق قاصر يحتاج إلى وصاية، مهما بلغت من درجات العلم. الأمر الذي لعب دورا هاما في التأثير على وضعية المرأة ونظرتها لنفسها، ودرجة تقديرها لذاتها، ومكانتها، وهي نظرة تتسم بضعف تقدير الذات مقابل النظرة للرجل بكثير من التقدير والاحترام وإعطائه مكانة عليا. ونظرا لانتشار ظاهرة العنف ضد المرأة بشكل واضح في المجتمع الجزائري، وما تتركه سلبا على المرأة سواء جسديا أو نفسيا، توجب على المسجد أن يلعب دوره الارشادي والتوعوي والدعوي لحماية كرامة المرأة وكيانها الشخصي، بما يمنع عنها التجاوزات أيا كان نوعها أو مصدرها، والعمل على تصحيح المفاهيم الاجتماعية الخاطئة. فالخطب المسجدية يجب أن تصبّ في مجال التوعية الدينية حول أهمية الأسرة وأهمية المحافظة على مكانتها وقدسيتها، واحترام المرأة والمحافظة على كرامتها وعزتها، وإزالة جميع أشكال التمييز ضدها وتمتعها بمنزلة لائقة مثلما دعت إليه الشريعة الإسلامية في كتاب الله عز وجل لقوله تعالى في سورة النساء "وعاشروهن بالمعروف"، وما جاء في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لقوله "فاستوصوا بالنساء خيرا". فالمرأة عانت عبر التاريخ قدرا كبيرا من الاضطهاد والمهانة نتيجة لرواسب وموروثات ثقافية وتقاليد خاطئة، والإسلام هو الدين الذي أنزل المرأة منزلتها اللائقة وحفظ لها حقوقها، والتي للأسف تراجعت في مجتمعنا بفعل بعض الأعراف والعادات والتقاليد المرتبطة بالهيمنة والسلطة الذكورية كالحرمان من الميراث. أيستطيع مجتمعنا الذكوري التخلص من عقدة "قوامته" الاجتماعية والنفسية على اعتبار أن المرأة ناقصة عقل ودين؟ الهيمنة الذكورية وتمييز الرجل عن المرأة، هي أفكار ارتبطت بثقافة بعض المجتمعات القائمة على المعتقدات الخاطئة والادعاء بالعادات والتقاليد، الأمر الذي عزّز سلطة وسطوة الرجل وأدى لارتفاع معدلات العنف ضد النساء في المجتمع الجزائري، والتي مردها في أحيان كثيرة لأسباب تافهة. وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب تفشي ظاهرة العنف ضد النساء بكل أشكالها خاصة في ظل التحولات والتحديات المعاصرة التي باتت تعيشها الأسرة الجزائرية اليوم. فلا يختلف اثنان حول وجود محاولات لضرب استقرار الأسرة وتماسكها وتنميط بعض الممارسات السلوكية التي أسهمت بكيفية أو بأخرى في التأثير في مختلف مكونات الحياة الأسرية من أفكار وقيم وعادات وتقاليد، وكانت نتيجة هذا التأثير خلق مجتمع بمعطيات جديدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه جرى في العرف قوامة الرجل على المرأة في مجتمعاتنا، فالمرأة في مجتمعنا الجزائري حسب العرف الاجتماعي ملزمة بخدمة الرجل سواء كان زوجها أو أخوها، من منطلق أن المرأة مطالبة بالعمل في البيت في حين الرجل مطالب بالعمل خارج البيت لتوفير الاحتياجات اللازمة، ومنه نلاحظ أن المرأة ما زالت أسيرة الأفكار التي تصادر دورها، وخاضعة للأنظمة القمعية التسلطية الذكورية. لكن بعد الحركية الاجتماعية والثقافية التي عرفها المجتمع الجزائري المعاصر ظهرت لدى الأبناء مجموعة من الأفكار والآراء والقيم تختلف عن تلك التي نشأ عليها الآباء سابقا، ما أحدث تغيرا في نموذج العلاقات بين أفراد الأسرة (كعلاقة الزوج بزوجته أو علاقة الأخ بأخته) من علاقة خضوع وسيادة إلى علاقة حوار، وهو ما أدى إلى ظهور النموذج التحرري أو الديمقراطي داخل الأسرة بدلا من الأسلوب التسلطي الذي كان سائدا داخل الأسرة التقليدية، حيث كان الرجال في السابق يمارسون أدوارهم الأسرية على أساس التسلط والديكتاتورية من منطلق القوامة. كيف ترى دعوات التحرّر المبطنة بمهمة تدمير منظومة القيم من خلال خلق نموذج المرأة المتمردة على كل ما هو مجتمع، حيث يكون مكافحة العنف ضد المرأة الورقة الرابحة لتحقيق ذلك؟ إن محاولات التنميط التي تعصف بالأسرة الجزائرية، لها انعكاس مباشر على صناعة مفاهيمها ومصادر قيمها، حيث كان للتحديات والرهانات المعاصرة تأثير قوي على الأسرة، والتي أدت إلى ظهور مشكلات عدة ترجع في الأساس لخلل في البناء الأسري. ولعلّ أحد أهم الأسباب في تنامي وانتشار فكرة التحرر لدى المرأة في المجتمع الجزائري يرجع لتشبع بعض الفتيات والنساء بمفاهيم وقيم جديدة دخيلة اكتسبنها من مختلف وسائل الاعلام والاتصال ومتابعة بعض محتويات مواقع التواصل الاجتماعي لمن يعرفون بالمؤثرات، إذ تثق العديد من الفتيات في كل ما تقول هؤلاء المؤثرات أو ما تنشرنه ويتفاعلن معهن بشكل مستمر، وقد وصل الأمر بالبعض لاعتبار هذه الشخصيات قدوة لهن يحتذين بها، رغم أن الواقع يثبت أنهن نماذج مشوهة لا يحتذى ولا يقتدى بها. الأمر الذي سيعمل دون شكّ على زعزعة استقرار البناء الاجتماعي والأسري، وتغير المنظومة القيمية الأخلاقية والفكرية لأفراد المجتمع.