لم يجانب رئيس وزراء الأردن بشر الخصاونة الصواب وهو يتحدث عن أن التحصين الذي تحظى به دولة الاحتلال الصهيوني من بعض الدول بدأ يزول تدريجيا. ولن نخطئ بدورنا ونحن نؤكّد بأن هستيريا الأيام الأولى من الدّعم الغربي الأعمى للكيان الصهيوني، وهو يبيد أطفال غزة ويسفك الدماء ويهدّم البيوت ويمنع الماء والغذاء والدواء ويقصف المستشفيات ويقتل الجرحى وحتى الخدّج، قد تراجعت بعض الشيء، لنسجّل تغيّرا في المزاج العام بالدول الغربية تجاه ما يحدث في غزة، ليس فقط على المستوى الشعبي، بل وعلى المستوى الإعلامي والسياسي الرسمي، فبعدما كان أغلب الزعماء الأوروبيين مثلا، لا يتجرؤون على انتقاد الجرائم الصهيونية في العلن، أصبح أكثر من مسؤول يجهر بموقفه الرافض لقتل الأطفال في غزة. لقد بدأت الكثير من وسائل الإعلام العالمية تنزل من شجرة الأكاذيب التي تسلّقتها بقوّة دفع من الكيان الصهيوني والمعلومات الزائفة التي روّجها لتبرير حربه الوحشية على قطاع غزّة، وبدأت هذه الوسائل بموازنة تغطياتها من خلال عرض صور المجازر التي يرتكبها الجيش الصهيوني، وطرح بعض من عناصر السردية الفلسطينية التاريخية، والحديث عن عنف وجرائم المستوطنين في الأراضي المحتلة. بل لقد بدأت وسائل إعلامية في دول طالما أيّدت الصهاينة وبرّرت جرائمهم، تتحدث عن بربرية وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية، وتنتقد بكلّ جرأة نتنياهو ودائرته الحكومية المتطرفة، وهذه المعالجة الإعلامية التي تقرّب، ولو قليلا، الحقيقة من المتلقي، أخذت في تشكيل رأي عام ضاغط على الحكومات الغربية التي بدأ بعضها يقفز هو الآخر من أعلى الشجرة، ليغيّر مواقفه من الحرب التي تطال الفلسطينيين، بوصفها حرب إبادة جماعية لا يمكن تبريرها بأي ذريعة. حبل الكذب قصير بكلّ جرأة، خرجت صحيفة "إنفورماسيون" الدانماركية التي تتابعها النخبة السياسية هناك، عن مسار الدّعم المجاني لمزاعم وجرائم الاحتلال الصهيوني، ودون خوف من ردّ الفعل العدواني لهذا الأخير الذي يستهدف كلّ من يتجرّأ على انتقاده، أوالتنديد بمذابحه ويلصق به تهمة معاداة السامية، دعت هذه الصحيفة بكل شجاعة إلى إدانة ما سمّتها " بربرية نتنياهو"، وطرحت سؤالاً على الغرب يقول: "إلى متى يمكن لقادتنا أن يتعايشوا مع حقيقة مفادها أننا كحلفاء للاحتلال، مسؤولون بشكل مشترك عن استمرار الصراع؟ نزوح تاريخي وكارثة إنسانية؟". وأشارت إلى أن "القادة والزعماء الذين يدعمون دون قيد أو شرط الحرب التي يشنها نتنياهو في غزة، والتي قتلت آلاف الفلسطينيين وشرّدت عشرات الآلاف ودمرت مساحات سكنية بأكملها، عليهم مسؤولية كبيرة اليوم". وعادت الصحيفة للتذكير بخطايا نتنياهو الذي قام بنزع الشرعية عن المسارات السياسية المؤدية إلى حل الدولتين، وجلب إلى حكومته سياسيين من اليمين المتطرف، أدينوا بالتحريض على العنصرية والعنف وحتى الإرهاب، ومنذ وصولهم إلى الحكومة وهم يمارسون كل أشكال العنف والتمييز والاستفزاز ضدّ الفلسطينيين برغبة جامحة في إفراغ الأراضي الفلسطينية المحتلة من أهلها إماّ بالهجرة القسرية، أو بالإبادة الجماعية. كما تناولت الصحيفة، مزاعم دولة الاحتلال الصهيوني بأنّها تملك "الجيش الأكثر أخلاقية" مشددة على أنّ "العقاب الجماعي واستهداف المدنيين أظهرا القدرة التدميرية الهائلة المستخدمة في غزة على نطاق واسع". ولفتت "إنفورماسيون" إلى أنّ دولة الاحتلال ظلت تضرب بعرض الحائط مناشدات المنظمات الدولية، وأنها "استمرت في حرب نعرف وسائلها وهي هجمات عسكرية واسعة النطاق، ونعرف تكاليفها وهي تهجير تاريخي وكارثة جماعية لشعب غزة". وختمت الصحيفة تقول: "حان الوقت لكي يبدأ القادة الغربيون في تصديق ما يرونه "، أي المجازر التي تحصد يوميا مئات الفلسطينيين"، ودعتهم للتحرك. ضمير يستيقظ وصوت يرتفع كما قلناه في البداية، العالم أجمع يسجّل تراجعا عن هستيريا الأيام الأولى من العدوان على قطاع غزة، ويقف على يقظة ضمير تعكس تآكل الدعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني، حيث صدرت عن العديد من الدول والسياسيين الغربيين تصريحات تطالب ليس فقط بالتوقف عن إبادة الشعب الفلسطيني، بل وبمعاقبة رأس الكيان الغاصب، فرئيس الوزراء البلجيكي ونائبته طالبا الاتحاد الأوروبي بمعاقبة الاحتلال الصهيوني الذي دعا أحد وزرائه المتطرفين إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، وانتقدت إيوني بيلارا، زعيمة حزب بوديموس اليساري في إسبانيا والوزيرة السابقة للحقوق الاجتماعية، رئيس الوزراء بيدرو سانشيز والاتحاد الأوروبي لعدم إظهار رد فعل كاف ضد الاحتلال الصهيوني. وعارضت بيلارا، زيارة سانشيز، لدولة الاحتلال قبل أسبوع، حيث التقى رئيس الكيان ورئيس وزرائه. وقالت إن "هذه الزيارة قد تساعد في تبرئة نتنياهو الذي يجب أن يحاكم أمام المحكمة الجنائية الدولية". ولم يكن أي تصريح لمسؤول أوروبي قاسيا على الكيان الصهيوني، أكثر من تصريحات زعيمة حزب بوديموس إيوني بيلارا، التي أدلت بها لما كانت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بالإنابة والتي دعت من خلالها الدول الأوروبية إلى فرض أربع عقوبات على الصهاينة، قطع العلاقات الدبلوماسية، وفرض عقوبات اقتصادية، وحظر الأسلحة وتقديم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو وجميع القادة السياسيين الآخرين الذين قصفوا المدنيين إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكانت بيلارا وزيرة للحقوق الاجتماعية وأجندة 2030 في إسبانيا من 31 مارس 2021 إلى 21 نوفمبر 2023، ولم تحصل على حقيبة وزارية في حكومة الأقلية اليسارية الائتلافية المشكلة حديثا. وأيّد الوزيرة الإسبانية، في انتقادها لما وصفته "محاولة الإبادة الجماعية" لسكان غزة، زميلها وزير حماية المستهلكين، الذي وصف القصف الصهيوني على غزة بأنه "همجية محضة". واعتبر الهجوم العنيف والعشوائي ضد السكان المدنيين هو عقاب جماعي ينتهك بوضوح القانون الدولي. بدوره اتّهم الرئيس النرويجي، الصهاينة بتجاوز قواعد القانون الدولي الإنساني، كما أعرب رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، تحت ضغط المعارضة في البرلمان، عن قلقه من الهجوم الصهيوني، واعتبر أن "حياة كل فلسطيني مهمة بنفس قدر حياة كل صهيوني". وانضم لهؤلاء المسؤولين، شخصيات أخرى تولت مناصب قيادية في دول غربية على غرار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيليبان، اللذان انتقدا القصف الصهيوني الهائل على سكان غزة رغم إدانتهما لعملية المقاومة الفلسطينية في السابع أكتوبر الماضي. وقال دوفيلبان، الذي شغل أيضا منصب وزير الخارجية، أن "سياسة القصف المكثف للسكان المدنيين تتعارض مع القانون الدولي.. ولن تؤدي إلا إلى تأجيج الصراع وانعدام الأمن". في حين رأى أوباما أن "إجراءات من قبيل قطع إمدادات الغذاء والماء عن قطاع غزة، قد تقود إلى تصلب المواقف الفلسطينية على مدى أجيال، وتضعف الدعم الدولي للكيان الصهيوني. من جهته، دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في أكثر من مرّة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، محذّرا من أن القطاع يتحوّل إلى "مقبرة للأطفال". خطاب الحقيقة يعلو رغم اصطفافها إلى جانب الاحتلال في عدوانه الوحشي على قطاع غزّة، إلاّ أن دماء الأطفال التي نزفت طول 48 يوما بلا توقّف في غزّة، أيقظت بعض الضمائر المخدّرة في عدّة دول غربية وأزالت عنها غشاوة الأكاذيب التي يوزعها الكيان الصهيوني وترسانته الاعلامية المنتشرة عبر ربوع العالم، وبدأ الحديث ينتقل من "حقّ الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس" إلى "حرب الإبادة التي تطال المدنيين العزّل في غزّة"، ولأوّل مرّة، ارتفعت أصوات داخل التكتّل الأوروبي لتصدح بما لا يريد الصهاينة سماعه، حيث اجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في 13 نوفمبر لبحث الحرب في غزة، وتجلى واضحا ان شرخا أصاب البيت الواحد، إذ صدرت تصريحات كانت تقال همسا في الجلسات المغلقة، حيث لم يتردد رئيس الوزراء البلجيكي، كما قلناه سابقا، في حث الدول العضوة بالاتحاد على فرض عقوبات مشتركة لمنع الصهاينة المتطرفين الذين يدعون إلى العنف ضد الفلسطينيين من زيارة أوروبا. ومضت نائبته من جهتها، إلى دعوة الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاق الشراكة مع الكيان الصهيوني فورا، وفرض حظر على استيراد المنتجات من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى منع المستوطنين الذين ينتهجون العنف، وكذلك السياسيين والعسكريين المسؤولين عن جرائم الحرب، من دخول الاتحاد الأوروبي. ولم تغفل المسؤولة البلجيكية التأكيد بأن قصف المستشفيات ومخيمات اللاجئين في غزة، "يشكل جريمة حرب وهو أمر غير مقبول إطلاقا". أمريكا اللاتينية.. مواقف مشرّفة يتجلى واضحا، أن الكيان الصهيوني يفقد الدعم الدولي من خلال تصويت 120 دولة بالجمعية الأممية لصالح وقف إطلاق النار في غزة مقابل رفض 14 دولة بينها الولاياتالمتحدة. وأيضا من خلال المواقف التي أبدتها العديد من الدول خاصة من أمريكا اللاتينية، والتي لم تكتف بإدانة الاحتلال الصهيوني وحرب إبادته ضدّ الفلسطينيين بالتصريحات، بل امتدّت إلى استدعاء سفرائها في الكيان للاحتجاج كما فعلت كولومبيا وتشيلي وهندوراس، أو تعليق علاقاتها الدبلوماسية معه، كما فعلت دولة بيليز (هندوراس البريطانية سابقا)، أو قطعها كما فعلت بوليفيا، أو عبر التظاهر والاحتجاج كما فعلت كوبا التي قاد رئيسها ميغيل دياز كانيل شخصيا قبل أيام تظاهرة ضخمة في هافانا دعما للفلسطينيين وجهت خلالها انتقادات للولايات المتحدة بسبب دعمها للكيان الصهيوني، وارتفعت أثناءها دعوات تطالب بوقف إبادة الفلسطينيين وتمكينهم من حقهم في إقامة دولتهم المستقلة. ككلّ مرّة أظهرت دول أمريكا اللاتينية شجاعة كبيرة في مواجهة عدوانية الاحتلال الصهيوني، بل إنّ المواقف التي تبنّتها هذه البلدان، لم تتّخذها حتى الدول العربية. وهذا السلوك الأمريكو- لاتيني ليس جديدا، فأمريكاالجنوبية، وعلى مرّ العقود والسّنين، أبدت تعاطفا وتأييدا مطلقين للقضية الفلسطينية انطلاقا من دعمها للقضايا الانسانية العادلة، وأيضا لأن شعوب أمريكا اللاتينية تعرّضت لحروبٍ استعماريةٍ أو حروبٍ أهليةٍ أو اضطهاد، ما يجعل تاريخها ومآسيها تتقاطع مع واقع ومآسي الفلسطينيين. وحتى في قارة إفريقيا، انتفضت دول ضدّ المذبحة الصهيونية في غزة، إذ أعلنت جنوب إفريقيا، قبل أيام، سحب كل دبلوماسييها لدى دولة الاحتلال، مع إعادة النظر في العلاقات. وكانت تشاد أول دولة إفريقية تستدعي القائم بأعمال سفارتها في الكيان الصهيوني، وتدعو لوقف قتل الأبرياء في غزة والعمل من أجل فرض حلّ عادل للقضية الفلسطينية. الحقّ سينتصر لا شك أن الدّعم الدولي الأعمى الذي حظي به الإحتلال الصهيوني في عدوانه الدموي على قطاع غزّة، بدأ يضعف ويفتر بعد أن انكشف زيف الرواية التي بنى عليها هذا الاحتلال حربه، وأيضا بعد أن تكشّفت جرائمه ومذابحه ضدّ الأطفال والنساء، والتي عكست بشكل لا جدال فيه، أن ما يسعى إليه هو إنهاء الوجود الفلسطيني، إمّا بالقتل أو بالتهجير، أو بتحويل حياة الناس إلى جحيم حتى يضطروا للبحث عن مكان آخر قابل للحياة. لقد حصل الاحتلال الصهيوني بفضل الدعاية المضللة ودموع التماسيح، على تعاطف الرأي العام والإعلام الغربي وعلى دعم عسكري ومالي ودبلوماسي من كبرى بلدان المعمورة، لكن دوام الحال من المحال، وهاهو الحلف الداعم يتصدّع، والتضامن الغربي يتراجع، ليجد الكيان نفسه أكثر فأكثر في عزلة دولية، بينما كسبت القضية الفلسطينية مزيدا من التأييد والتعاطف، ولا شك أن حرب غزّة ستفرض هذه المرّة إقامة الدولة الفلسطينية.