لم تبالِ سلطات الاحتلال الصهيوني بقرار مجلس الأمن رقم 2728، الذي طالبها بوقف إطلاق النار بقطاع غزة في شهر رمضان، وها هو الشهر الفضيل يقترب من نهايته بينما الدم الفلسطيني الزكيّ ما زال يسفك في كلّ لحظة وحين، وفي كلّ ركن من قطاع غزّة، في المشافي وفي خيم النازحين وتجمّعات الجياع المزدحمين حول شاحنات المساعدات، وفي شوارع الإعدام التي يزعم بأنها آمنة، وهذه الرعونة والغطرسة التي يبديها الكيان الصّهيوني بتمرّده على القرارات والقوانين الدولية ليست حالة طارئة أو مستجدّة، بل هي عادة متجذّرة في سلوكه الشاذ الذي دأب عليه منذ أن تمّ غرسه كالورم السرطاني في فلسطين. رغم أنّ القرار الأخير الذي أصدره مجلس الأمن الدولي عبّر عن اتجاه عالمي يُعزّز عزلة الكيان الصهيوني ويرفض إبادته للفلسطينيّين، إلاّ أنّه لم يكن محصّنا بأدوات تفرض تطبيقه، خاصّة بعد أن اعتبرته واشنطن التي استعملت الفيتو ثلاث مرات ضد مشاريع قرارات تدعو لوقف إطلاق النار، غير ملزم، الأمر الذي جعل الكيان الغاصب يقفز عليه كما قفز على قرارات عديدة أصدرها المجلس الدولي طول 75 سنة الماضية، وركنت في أدراج المنظمّة الأممية يلفّها الغبار والنسيان، بداية بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947، والذي أقرّ بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، ثم القرار رقم 194، الذي طالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة أراضيهم تحت عنف وإرهاب عصابات الهاغاناه، والإرجون والشتيرن والبيتار، وغيرها من مجموعات سفاكي الدماء الصهاينة الذين ارتكبوا مجازر ومذابح لا يمحيها الزمن من أجل فرض تفريغ فلسطين من أهلها وتوطين اليهود مكانهم. ولم يتوقّف التمرّد الصّهيوني على القرارات الأممية عند هذا الحدّ بل تواصل ليشمل قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي صدر بعد حرب 1967، ودعا إلى انسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي التي احتلها خلال حرب الستة أيام بما فيها الضفة الغربيةوغزة وسيناء والجولان. إضافة إلى القرار رقم 452 لعام 1979، والذي أعلن فيه المجلس الأممي أنّ المستوطنات في الأراضي المحتلة لا تحمل أي صفة قانونية، وأن الوضع القانوني للقدس لا يمكن تغييره من جانب واحد، ثم القرار رقم 465 لعام 1980، وطالب فيه المجلس الدولي الاحتلال بتفكيك المستوطنات القائمة، والتوقف عن تخطيط وبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس. وفي 2016، صدر القرار 2334 الذي طالب الكيان الغاصب بوضع حدّ للمستوطنات في الضفة الغربية، ووقف بناء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية. لكن الذي حدث كان العكس تماماً، إذ ارتفع عدد المستوطنين ما يقارب 15 % منذ تبنّي القرار. ما سبق ذكره من قرارات هو غَيْضٌ من فَيْض، فمنذ أن دخلت قضية فلسطين إلى أروقة الأممالمتحدة نتيجة قرار التقسيم رقم (181)، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1947، توالت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة وحتى منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) بشأن الانتهاكات الصهيونية، لكن هذه القرارات ظلّت في معظمها حبرا على ورق، بسبب عدم التزام الكيان بها، وهو الذي يعتبر نفسه فوق الشرعية الدولية وفي منأى عن أي حساب أو عقاب، وهذا راجع لمجموعة من الأسباب يمكن تلخيصها في الحماية الخاصة التي توفّرها له الولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة، والخلل الذي يميّز بنية المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي. لولا الدّعم الأمريكي دعنا في البداية نتساءل: هل كان للكيان الصهيوني أن يتجرّأ على فعل كلّ هذا السّوء والإجرام في حق الفلسطينيين، ويتمرّد على القرارات الدولية بدون حماية الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ بل هل كان وجوده سيستمرّ لولا أنّ البيت الأبيض يمدّه بكلّ وسائل الدّعم السياسي والعسكري والاستخباراتي، ويسدّ منافذ الشرعية الدولية أمام أيّ محاولة لإدانة تصرّفاته الاجرامية العنصرية ومحاسبته على خطاياه؟. الجواب يبدو بديهيا، فالكيان الصّهيوني يستمدّ قوّته وغطرسته من الحماية الخاصة التي توفّرها له الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي خيّبت آمال العالم أجمع منذ السابع من أكتوبر الماضي بمواقف مؤجّجة للحرب الدموية في قطاع غزّة، حيث حوّلت الإبادة إلى حقّ مشروع في الدّفاع عن النّفس، ولم تتوقّف عن تغذية العدوان الغاشم بأفتك أنواع الأسلحة التي حصدت عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين وخلّفت الكثير من المصابين. منذ أن باشر الكيان الصهيوني عدوانه على الفلسطينيين قبل ستة أشهر، وضعت الولاياتالمتحدةالأمريكية إمكانياتها، وما تتمتّع به من امتياز داخل مجلس الأمن في خدمة الصهاينة، حيث استخدمت "الفيتو" ثلاث مرات ضد مشاريع قرارات تدعوهم لوقف إطلاق النار، ومرتين ضد تعديلات على مشاريع القرارات لإدخال بند يتعلق بوقف إطلاق النار، وهذا ما أعطى فرصة أطول للكيان الصهيوني للاستمرار في مجازره. لقد ظلّت الولاياتالمتحدة منذ أكتوبر الماضي تماطل، وترفض إدخال بند إطلاق النار في جميع مشاريع القرارات التي كانت تطرح أمام مجلس الأمن لوقف الإبادة الصهيونية، وأصرّت على أن لا تتجاوز تنازلاتها القبول بهدن إنسانية من أجل الإفراج عن الأسرى الصهاينة، وحتى القرار الأخير، فقد سمحت بتمريره ليس من أجل تنفيذه بعد أن شدّدت على عدم إلزاميته، بل حتى تحسّن من صورتها وتتفادى الحرج أمام الرأي العام العالمي، الذي بدأ يستنكر إصراراها على عدم وقف الحرب الدموية في قطاع غزّة، ويتذمّر من انحيازها لسفّاكي الدّماء. وإذا كان البعض يسجّل تراجعا وتغيّرا في الموقف الأمريكي تجاه ما ترتكبه دولة الاحتلال الصهيوني من مقتلة في قطاع غزة، ويستشهد برزم المساعدات التي تطلقها الطائرات الأمريكية جوّا على الجياع هناك، إضافة إلى تحذيرات البيت الأبيض المرتبطة باجتياح رفح، وأيضا تصريح الرئيس بايدن من (أنّ سلوك الرد في قطاع غزة تجاوز الحد، وقوله أنّ هناك الكثير من الأبرياء الذين يتضوّرون جوعا والكثير من الأبرياء الذين يواجهون مصاعب ويموتون وهذا يجب أن يتوقف)، فالواقع على الأرض يعكس غير ذلك تماما، فما يحسبه البعض إحباط أمريكي من سلوك حكومة الحرب الصهيونية وخلافات بين نتنياهو وإدارة أوباما، هو في الحقيقة مجرّد وهم كبير، لأنّ الجانبين على وفاق تام، وحتى إذا كانت بينهما بعض التباينات حول خطّة الحرب وأسلوبها، فهذا لا يعني مطلقا بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستحيد عن مساندة ودعم وحماية ربيبتها الصهيونية، بل على العكس تماما، والدليل أنّ أمريكا ما زالت تشكلّ منجم السّلاح بالنّسبة للكيان، إذ تشير الأرقام إلى أنّ 68 % من الصّادرات العسكرية إلى دولة الاحتلال الصهيوني بين عامي 2013 و2022 مصدرها الولاياتالمتحدة، وقبل يومين فقط تمّ الكشف في واشنطن عن صفقة بقيمة 18 مليار دولار تعد هي الأكبر في تاريخ صفقات ومبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الكيان الغاصب. وبالإضافة إلى السّلاح، هناك طبعا ورقة الفيتو الأمريكي، التي تشكّل لوحدها أقوى داعم سياسي وحامي للاحتلال. لهذا فتصريحات بايدن، هي، كما يقول البعض، مجرّد تلطيف لفظي من أجل ترضية قواعده الانتخابية، وهي لا تحجب العلاقة المتينة والاستراتيجية بين الجانبين، والتي يترجمها بوضوح استعمال أمريكا ومنذ أولى جلسات مجلس الأمن وحتى مارس الماضي حق الفيتو لصالح الكيان الغاصبل 46 مرة. العالم أكبر من خمس دول بعد أن وقفنا على العامل الأوّل الذي يمنح الكيان الصهيوني كلّ هذه الجرأة على تجاوز القرارات الأممية والدّوس عليها، والمتمثل في قوة الدعم والإسناد الأمريكي، نسجّل عاملا آخر لا يقلّ أهمّية، وهو عجز المؤسسات الدولية التي أنشئت في الأساس للحفاظ على الأمن والسلام العالمين، عن الاضطلاع بمسؤوليتها كلّما تعلّق الأمر بالكيان الصهيوني وانتهاكاته المروّعة في حقّ الفلسطينيين. ورغم أنّ منظّمة الأممالمتحدة أو أمينها العام أنطونيو غوتيريش تحديدا قد بدل جهودا كبيرة لوقف المذبحة الصّهيونية، فأدلى بتصريحات أزعجت متطرّفي الكابينيت، وذهب إلى أقصى ما يملك من صلاحيات من خلال اللجوء إلى المادة 99 من الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، والتي لم تستخدم في تاريخ المنظمة الدولية إلا نادرا، والتي تمنحه حق "لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدّد حماية السلم والأمن الدوليين"، فإنّ الهيئة الأممية أخفقت في إقرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة وعجزت عن حماية أطفال ونساء فلسطين من الإبادة، ولم تستطع مشاريع القرارات الكثيرة التي طرحت أمام مجلس الأمن تجاوز جدار الفيتو الأمريكي، وهذا الفشل الذريع دفع كثيرين للتساؤل عن الجدوى من منظمة أممية لا تستطيع القيام بأقل واجباتها لإنهاء الحروب والنزاعات الأكثر دموية في القرن الواحد والعشرين. كما ارتفعت أصوات تدعو إمّا إلى إيجاد بدائل أو مؤسسات جديدة أكثر عدلا وفاعلية في تحقيق السلام الدولي، أو على الأقل إصلاح وتحديث الأممالمتحدة بشكل لا يجعل حياة البشرية رهينة بيد عصبة صغيرة من الأمم لا يتجاوز عددها أصابع اليد. فلا يعقل أن يعلق السلام العالمي وحياة آلاف المدنيين بمصير دولة واحدة أو حتى خمس دول، في الوقت الذي يقتل الأطفال بالآلاف في غزة دون موقف دولي حازم. إنّ الإخفاق الأممي في إنقاذ الفلسطينيّين، أعاد إلى الواجهة الحديث عن تصحيح الاختلالات التي تقيّد عمل مجلس الأمن الدولي وترهن حياده، بحيث يتمّ زيادة عدد المقاعد الدائمة بداخله ويتمّ تغيير نظام حق النقض (فيتو)، الذي تجاوزه الزمن حتى لا يترك مستقبل العالم وحياة الشعوب تحت رحمة خمس دول تمتلك حق النقض، وتستعمله وفق ما تقتضيه مصالحها ومصالح حلفائها. وبدون هذه الإصلاحات التي تشمل أيضا فرض أدوات وآليات لتنفيذ القرارات، فلا أمل مطلقا في إنصاف الفلسطينيين ووضع حدّ للإجرام الصهيوني، الذي نراه متواصلا يحصد مزيدا من الأبرياء ويحوّل حياة الناجين إلى جحيم حقيقي، وكلّ هذا من أجل إرغاهم على مغادرة أرضهم، والقبول بالتهجير الذي أعتقده الهدف الجوهري الذي تقوم عليه حرب الإبادة الصهيونية المشتعلة في قطاع غزةالفلسطيني منذ ستة أشهر.