"الفيتو" الذي أشهرته الولاياتالمتحدةالأمريكية أمام مجلس الأمن الدولي لإسقاط مشروع القرار، الذي كان يدعو لوقف إطلاق النار في غزّة لأسباب إنسانية، لم يكن مفاجئا بالمطلق، فقد كنا ولازلنا على قناعة تامة بأنّ الإدارة الأمريكية ستظلّ بما تملكه من قوة وهيمنة وغطرسة تسدّ منافذ الشرعية الدولية، وتحمي الكيان الصهيوني وتداري جرائمه مهما بلغت فظاعتها. مقتنعون بأنّ مجلس الأمن الدولي الذي تصدق تسميته كما قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ب "مجلس حماية الكيان الصهيوني والدفاع عنه" لا يمكنه تحت أيّ طارئ أن يحقّ حقّا أو ينصف مظلوما أو حتى ينقذ شعبا من حرب إبادة كالتي يتعرّض لها الفلسطينيون في قطاع غزّة، وهو في كل الأحوال فقد دوره في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وبات عبئا على القانون والأخلاق وحقوق الإنسان والشرعية. لقد حاول الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لعب كل أوراقه لوقف المجزرة الصهيونية التي تجري وقائعها المريرة أمام أنظار العالم، ولأوّل مرّة منذ توليه منصبه في 2017، قرّر تفعيل "المادة 99" من ميثاق الأممالمتحدةالذي وقّع منتصف 1945 في سان فرانسيسكو، وذلك بعد أن فشلت كلّ محاولاته ومناشداته لإنهاء الحرب. وتنص هذه المادة التي تعد أقوى أداة يمتلكها الأمين العام الأممي، على حق هذا الأخير في اللجوء إلى تنبيه مجلس الأمن إلى أيّة مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين. وقد كان غوتيريش مجبرا على اللجوء إلى هذا الخيار ليطلق من خلاله تنبيها وقائيا، ويدقّ جرس الإنذار على ما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة الذي يتعرّض لحرب إبادة وحصار مميت. وبالمناسبة أرسل الأمين العام الأممي خطابا إلى رئيس مجلس الأمن، أبلغه فيها بضرورة اتّخاذ قرار حازم وحاسم لمواجهة الخطر الجسيم لانهيار النظام الإنساني في غزة، وتجنّب وقوع كارثة إنسانية وإعلان وقف إطلاق النار، مؤكدًا عدم وجود مكان آمن في غزة، أو حماية فعالة للمدنيين، كما تحدث عن انهيار نظام الرعاية الصحية، وتحول المستشفيات إلى ساحات للمعارك، مع استحالة القيام بالعمليات الإنسانية بسبب القتال المتواصل. التّواطؤ يسدّ منافذ الشّرعية غوتيريش، مثلنا جميعا، كان يدرك بأنّ مشروع قرار وقف القتال في غزّة ستنسفه رصاصة الرّفض الأمريكية، كما كان ولازال يدرك بأنّ نهاية المذبحة لن تكون إلاّ بقرار توافقي بين الكيان الصهيوني والإدارة الامريكية وفي الوقت الذي يقرّرانه، ومع ذلك، فقد بادر إلى تفعيل المادة "99" بعد أن استنفد كلّ محاولاته لإيقاف الكابوس، وإنقاذ المدنيين في قطاع غزّة من الموت تحت القصف والقنص وبسبب الجوع والعطش والأوبئة. وللأمانة، ورغم أنّه أدان عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي، فإن الأمين العام الأممي لم يتّبع سياسة النّعام الجبانة، ولم يدفن رأسه في الرمال كما فعل كثير من القادة والزعماء في العالم، بل لقد ندّد في أكثر من مناسبة بانتهاكات القانون الدولي في غزة، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق نار لأنّ الوضع هناك بلغ مرحلة الخطر، مسجّلا بأنّه حتى للحروب قواعد يجب احترامها وفي مقدّمتها حماية المدنيين. وخلال جولاته واتصالاته الكثيرة، ولما تعذّر تمرير أي قرار لوقف المذبحة، ركّز غوتيريش جهوده على تخفيف الأزمة الإنسانية كأضعف الإيمان، من خلال الحشد لإدخال المساعدات إلى القطاع الجريح. وقد أثارت مواقفه وتصريحاته غضب الكيان الصهيوني، خاصة لما قال بأن "هجمات حماس لم تأت من فراغو لوّح بأنها نتيجة حتمية ل 56 عاماً من الاحتلال الخانق"، وعندما أصرّ على أنّ عملية المقاومة الفلسطينية في السابع أكتوبر لا تبرر للاحتلال القتل الجماعي الذي تشهده غزة، ومؤخرا لما قرّر تفعيل المادة "99" ثم تأكيده بأنّه سوف لن يستسلم أمام الضغوط لمنعهمن المضي قدماً في المطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، واصفا مجلس الأمن بالمشلول. حرب مستعرة ضدّ المنظّمة الدّولية في الواقع، التيار بين الكيان الصهيوني ومنظمة الأممالمتحدة كان على الدوام مقطوعا، والعلاقة بين الطرفين كانت مهتزة وقائمة على كف عفريت، لكن يبدو بأنّ عدوان غزة كان السبب في قطع شعرة معاوية التي ظلّ الجانبان يتجاذبانها، حيث أعلن المسؤولون الصهاينة الحرب على غوتيريش ومن ورائه الأممالمتحدة، من خلال حملة من الإتهامات الباطلة والتهديدات المريعة والتصريحات التي تجاوزتحدود اللباقة والأدب، إذ لم يكتف الساسة الصهاينة باتهام الهيئة الأممية ورئيسها بالتحيّز ضدّ كيانهم الغاصب، بل استلّوا "سكاكينهم السامّة" ابواب مرصودة ليجهزوا على مصداقيتهما ودورهما، وامتدّ بهم الامر إلى دعوة غوتيريش للاستقالته بعد اتّهامه ب "الانحراف الأخلاقي" بزعم أنّه يدعم حماس بدل أن يدعم الحرب على الارهاب وبأنّ ولايته تشكل خطرا على السلم العالمي. وقد استخدم الدبلوماسيون الصهاينة منصاتهم في الأممالمتحدة للتنديد بالمنظمة الدولية منذ بدء الحرب. وكان السّفير الصهيوني لدى الأممالمتحدة، وموظفوه يرتدون نجمة صفراء للاحتجاج على تقاعس الأممالمتحدة المزعوم عن هجوم حماس، ممّا يستحضر ذكريات اضطهاد اليهود في الحقبة النازية. ولم يتوقف رد الفعل الصهيوني عند تشويه سمعة الأممالمتحدة ورئيسها والمنظمات الدولية الانسانية، والتلويح بورقة معاداة السامية ضدّ كلّ من ينتقد إبادتهم، بل إمتدّ إلىمنع منح تأشيرات لمسؤولين أمميين والدعوة لوقف تمويل الهيئة الأممية. وقد سارعت السلطات الصهيونية لمباشرة تنفيد تهديداتها، حيث قررت عدم تجديد تأشيرة "لين هاستينجز" المنسقة المقيمة للأمم المتحدة، ومنسقة الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينيةالمحتلة. ويبقى المؤكّد، أنّنا سنشهد في الأيام القادمة حلقات مثيرة في مسلسل الحرب الصهيونية ضدّ الأممالمتحدة ورئيسها ومختلف منظماتها. مشكلة اسمها الإنحياز الأمريكي نعود الى رصاصة الغدر التي "قتلت" مشروع قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، لنقف عند دلالات الموقف الأمريكي من العدوان الصهيوني، وسبب رفض إدارة بايدن وقف القتال الانساني رغم قوافل المدنيين الذين يرتقون يوميا،، ثمّ وهو الأهم عند خلفيات ودوافع هذا الانحياز الأمريكي الدائم للكيان الصهيوني، الذي بات بالفعل يمثّل مشكلة كبيرة للفلسطينيين وللامن والسلام في الشرق الأوسط، وللانسانية والقانون والشرعية. فلماذا لا تكبح واشنطن جماح العنف الصهيوني وهي قادرة على ذلك؟ ولماذا لا تلعب دورا إيجابيا في حلّ القضية الفلسطينية، وهي الدولة العظمى التي تتحكّم في إدارة دواليب القرار الدولي؟ كما قلته في البداية، إجهاض الولاياتالمتحدةالأمريكية لمشروع قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزّة كان متوقّعا بالنظر إلى علاقة التواطؤالقائمة بين أمريكا والاحتلال الصهيوني والتي تعود إلى عام 1948، إذ كانت أمريكا أول دولة اعترفت بقيام الكيان الصهيوني، ومنذ ذلك الحين ترسّخت بين الجانبين روابط من الدعم والتعاون الممتد إلى كل المجالات، السياسية والعسكرية والاقتصادية. وكذلك تحدّدت أسس علاقة استراتيجية تقوم على المنفعة المتبادلة، حيث قرّر الصهاينة الإستفادة من الولاياتالمتحدة بعد توليها ريادة العالم،للحصول على الحماية وحتى تكون سدّا منيعا في وجه كل المحاولات العربية أو الدولية الهادفة إلى إنصاف الشعب الفلسطيني داخل مجلس الأمن، عبر استخدامها حق النقض (الفيتو). كما عملت الحركة الصهيونية على تقوية حضورها وتأثيرها لدى صنّاع القرار الأمريكي، وأصبح اللوبي الصهيوني، أحد أشهر وأقوى جماعات الضغط فعالية وتأثيرا في السياسة الأميركية، وخاصة في ما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني. وفي الجانب الآخر، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتثبيت وجود دولة الاحتلال في قلب الوطن العربي، فلسطين، وركّزت على أن تصنع من الكيان الصهيوني حليفا إستراتيجيا للاستفادة من دعمه في حماية المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط الثرية، ومواجهة من تعتبرهم خصومها، بل وحتى أعداءها، بداية بالسوفيات، في عهد سابق، ثم القوميين العرب، فإيران، والآن حركات المقاومة... ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم سرّ الإنحياز الأمريكي للاحتلال الصهيوني، وسبب التزام كل رئيس أمريكي بمجرّد تنصيبه بأمن هذا الكيان واستقراره، حتى وإن كان يرتكب مذبحة في حقّ أطفال غزّة الأبرياء كما يفعل الآن. فمنذ بداية العدوان على قطاع غزّة، لم تكتف إدارة بايدن باستعمال " الفيتو" لإجهاض محاولات وقف الإبادة التي تحصد يوميا مئات الشهداء الفلسطينيين، جلّهم أطفال، بل لقد قرّرت تغذيتها من خلال تقديم ما أمكنها من دعم عسكري حتى يواصل الجيش الصهيوني سفك الدماء بكل راحة واطمئنان. دعم بالمواقف والسّلاح وقد كتبت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية منتصف هذا الاسبوع، "أن واشنطن منحت الاحتلال الصهيوني آلاف الأطنان من القنابل ليستخدمها في هجماته على غزة، وأوضحت أن الولاياتالمتحدة أرسلت ما لا يقل عن 15 ألف قنبلة وأكثر من 50 ألف قذيفة مدفعية، بما في ذلك ألفي كيلوغرام من القنابل الخارقة للتحصينات. كما دافع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الأحد، عن "البيع العاجل" لنحو 14 ألف قذيفة دبابات إلى الكيان الصهيوني، وهو قرار اتخذ من دون موافقة الكونغرس. واعتبر أن احتياجات العمليات العسكرية الصهيونية في غزة "تبرر القرار النادر بتجاوز الكونغرس"، في إشارة إلى الصفقة التي تجاوزت قيمتها 106 ملايين دولار. وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون)، السبت الماضي، إن إدارة الرئيس جو بايدن استخدمت صلاحيات للطوارئ للسماح ببيع نحو 14 ألفاً من قذائف الدبابات للاحتلال الصهيوني دون مراجعة الكونغرس، مؤكدة أن البيع سيكون من مخزون الجيش الأميركي ويتكون من قذائف (إم 830 إيه1) شديدة الانفجار متعددة الأغراض والمضادة للدبابات، مع جهاز تتبع، ومعدات ذات صلة. وتعتبر هذه القذائف جزءا من عملية بيع أكبر تشمل 45 ألف قذيفة لدبابات ميركافا الصهيونية، التي يتم نشرها بانتظام خلال العدوان على غزة، والتي أودت بحياة آلاف المدنيين. وتمنح الولاياتالمتحدة للكيان الصهيوني مساعدات عسكرية بقيمة 3.8 مليارات دولار سنوياً، تشمل طائرات مقاتلة وقنابل قوية، وهو بهذا الرقم يستأثر بأكبر حجم من الدعم العسكري الامريكي في العالم. ممّا سبق، تعرّفنا على بعض خبايا العلاقة الأمريكية الصهيونية، لكنّنا لم نستوعب كيف أنّ دولة عظمى بحجم أمريكا وقوتها تقبل تمديد المأساة التي يعيشها أطفال غزة، وهي الوحيد القادرة على وقفها وإنهاء الكابوس. لهذا فإنّ أشدّ ما نتمنّاه وما نطالب به، هو أن يبادر بايدن إلى تفعيل تصريحاته الأخيرة ليضع حدّا للحرب الصهيونية التي تبيد قطاع غزة.