تمر، غدا، الذكرى ال35 لرحيل هواري بومدين، الذي توفي في 27 ديسمبر 1978، وليس غريبا على الإطلاق، وبعد كل هذا الزمن أن يبقى اسم الرجل راسخا في أذهان الذاكرة الجماعية، بعد أن ارتبط بشكل وثيق بالجزائر الثائرة والمستقلة. وها هو الزمن ينصف الرجل المجاهد والرئيس والمواطن، وهو الذي كان يقولها صراحة لمن حولهن ‘'سيحكم التاريخ بيننا وعلينا''، في رسالة واضحة بان من التزم بمبادئ الثورة التحريرية ليس كمن حاد عنها. لقد نزل خبر إعلان وفاة بوخروبة محمد فجر ذلك اليوم كالصاعقة على الشعب الجزائري في وقت بدأت تتكرس فيه مكاسب الاستقلال وتترسخ فيه مكانة الجزائر الإقليمية والدولية. على اختلاف الرؤية التي يحددها هذا الطرف او ذاك من خصومه ورفاقه، إلا أن الرئيس الذي ملأ المكان والزمان، اثبت للأجيال نظافة يده وطهارة سريرته الوطنية، معترفا في إحدى خطبه بان ‘'من أدوا الرسالة كاملة هم الشهداء الأبرار''، وبمفهوم المخالفة فان ما ينجزه ويقوم به غيرهم قد يكون ناقصا مهما كان عظيما. والواقع للرجل على الأجيال حق، خاصة تلك التي حضرت حكمه وقطفت ثمار البناء والتشييد، في ظروف كانت المادة قليلة ولكن الحياة زاهية ومبشرة لا مكان فيها للإحباط.
كان رجلا صادقا قولا وعملا
تتذكر المناضلة بوخطاية زهور كيف كان للرئيس الراحل دور بارز في بناء الدولة في ظل الجزائر المستقلة رفقة رفاق الدرب جيلا بعد جيل، وتكلمت بجوارحها مستحضرة تلك المرحلة التي خاضت فيها مسار البناء وتحرير الإنسان على درب إزالة بقايا البؤس التي خلفتها الحقبة الاستعمارية الفرنسية. وكانت قرارات مجانية التعليم والصحة وكسر مراكز الإقطاعية الفلاحية وجماعات المصالح الصناعية التي ترتبط مباشرة بمفاصل البلد الاستعماري الخطوة العملاقة لنقل البلاد من محطة المعاناة إلى اللحاق بقطار التنمية الذي تواصل قاطرته المضي قدما إلى المستقبل متحدية تقلب الظروف وتغير معادلة العلاقات الدولية. وفي هذا الإطار تصرح قائلة ‘' فاجأنا ذلك الخبر الأليم، وتنقلنا ضمن جموع الشعب لإلقاء النظرة الأخيرة عليه بقصر الشعب قبل أن يودع في جنازة مهيبة إلى مثواه الأخير بالعالية''. وتضيف ‘' لقد ترك بصماته التي تتحدى الزمن، انه رجل أدى ما عليه وأكثر، والتاريخ وحده من يصدر حكمه''، وعن رؤيته للمرأة الجزائرية بعد سنوات قليلة من استرجاع السيادة الوطنية أجابت أن الراحل كان حريصا على ترقية المرأة دون أن تفقد أصالتها، وكان يخص المرأة في الريف بالاحترام والتقدير مذكرا في كل المناسبات التي يتحدث فيها إلى الشعب بأنها على ماكانت عليه من أمية كانت مجاهدة وتحملت في صمت متاعب الثورة وليست بالهينة. ومن جانب إنساني لا يمكن تجاوزه كان يخص الطفولة بحب الأب والأخ الكبير. وعادت بها الذاكرة إلى تلك السنوات التي احتلت فيها المنظمات الجماهيرية مكانة متقدمة في صدارة الحياة العامة. ومما تذكره بوخطاية حضور بومدين رقة حرمه أنيسة مؤتمر اتحاد النساء في فترة السبعينات، وهو يبتسم يجلب الهيبة والاحترام بوقفته الشامخة ونظراته الحادة التي تعكس كل تلك الشهامة ونكران الذات. وتسجل له أيضا حرصه على احترام الثوابت الوطنية وخاصة اللغة الوطنية مجسدا الرفع من مكانة الهوية الوطنية ووضوحها، و بحق كان رجلا صادقا قولا وعملا، وهو الذي وصف نفسه للشعب وبشفافية ‘خدام حزام لا املك فوق الأرض ولا تحتها''. كان يوصي الفلاحين بالتمسك بالأرض وخدمتها يمضي الرجال وتبقى المواقف والمآثر، وبالنسبة لرجل من طينة هواري بومدين الذي كابد رفقة أبناء جيله قساوة الاستعمار الذي سلط شتى ألوان التعذيب والاهانة والاحتقار للجزائريين، فان للتاريخ وزنه ومكانته ولذلك لم يكن غريبا أن ينتصر لصف الشعب بكل ما يضمه من فئات ونخب ومسحوقين، وقد كلفه ذلك الكثير من النقد لم يجرؤ مناوئوه المجاهرة به فصفقا للثورة الزراعية شقيقتها الصناعية، قبل أن ينقلب اغلبهم رأسا عل عقب بمجرد اختفاء الرجل، الذي بقي ظله يطارد من خان العهد. كان يوصي الفلاحين بوضوح بالتمسك بالأرض وخدمتها، وإلا يفقدونها يوما، وقد حصل ذلك ليس بسبب ما أحيك للإصلاح الفلاحي من مكائد أدت إلى نتائج سيئة فقط، وإنما أيضا لعدم التزام اغلب الفلاحين بالأمانة وسقوطهم في سفاسف أمور الحياة السهلة. ولعل الصورة التي تؤكد أن التاريخ أنصفه، أن بوخروبة صاحب الوطنية إلى النخاع، فاز باحترام أجيال لم تواكبه ولم تحضر مرحلة حكمه، وهنا السؤال لماذا وما السر، وربما الإجابة لأنه اخلص للجزائر وانتصر لشعبها وأصاب في الكثير واخطأ في القليل. وبلا شك أن من خصومه من غير موقفه تجاهه كما كشف عنه الراحل محمد بوضياف لما عاد إلى البلاد وقال صراحة انه بمناسبة جنازة بومدين اكتشف أن الرجل محبوب لدى الشعب ومن ثمة غير نظرته جذريا رغم الخلافات العميقة بينهما حول التصورات والخيارات المستقبلية للجزائر المستقلة. وهكذا يعيش ويموت ويحترم الكبار لبساطتهم وصدقهم.